كتب نصري الصايغ:
هو أمر فوق المخيلة، وخارج التوقع: سنكون ما نريد. هكذا تفصح الساحات، هكذا تقول القبضات، هكذا تقودنا الرايات، هكذا تصدح الحناجر، فلا أحد أكبر من شعبه. فالشعب أكبر، ولقد أتت ساعته وها هي تؤرخ زمن ولادة لبنان الثاني. السابع عشر من تشرين الاول هو العيد الوطني الأصيل. ولنصِّدق اننا منذ الآن احرار، وهكذا سنظل. بلدنا الذي كان حزيناً، صار مضاداً للموت وأقوى من اعدائه، الذين تحكموا بأنفاسه واجياله وثرواته وناسه وأزمته، طوال قرن.
هو أمر فوق المخيلة. الذين كانوا يخيفوننا، يخافون منا اليوم، ويتلعثمون كثيراً في طريق سقوطهم، لقد أُسقطت اقنعتهم وباتوا يتجرعون كأس الهزيمة. لا غد لهم بعد الآن. مكانهم الوحيد غداً، هو الاقامة في اللعنة، تطاردهم كوابيس من ظلموهم واذلوهم وسرقوهم.
هو أمر فوق المخيلة: الابواب مفتوحة لكتابة الفصل الاخير من سيرتهم الفاحشة. لقد هزمتهم الارادة. لذا، سنكون ما نريد.
وداعاً يا مغاور اللصوص. لقد سفكتم وطناً وأفقرتم شعباً وافرغتم بلداً من شبابه وصباياه. هيا ارحلوا. هيا أسقطوا. كفاكم حَلْباً. لقد جربتم كل الموبقات: إلى الحروب اخذتم ناسكم، وبنيتم مواقعكم على مواطئ قتلهم، ثم اسكرتموهم بالمذهبية ومنعتم عنهم الصحو. اقنعتموهم بأن الخطأ صواب، او، الآخر على خطل وأنت على الصراط المستقيم. افقرتم ناسكم الذين انجبتموهم بحبل سفاحي ومسختم كرامتهم عندما زينتم لهم الاقامة الذيلية، والاعتياد على التبعية وعلى فتات الزبائنية.
وداعاً يا أيتها الاسماء المتداولة منذ ربع قرن، او، منذ قرن بالتمام، فأنتم من حفدة السلالة السياسية التي بنت ارصدتها، من جيوب الكادحين والمحرومين، ومن التسوَّل على ابواب السفارات. أنتم، لا مثيل لكم، الا الحكام الذين ثارت عليهم شعوبهم. والشواهد كثيرة في التاريخ، والجديد فيها، السودان الجميل والجزائر النبيلة، وتونس البوعزيزي… إلى اخر قائمة لصوص السلطة هنا وهناك وهنالك.
تأخرت الثورة في لبنان. نحن الجيل الفاشل، أطلقنا رصاص التشاؤم على كل أمل. عشنا سنوات بلا أفق. نلوك الفشل ونعتصم بالعجز، ونذم الشعب اللبناني واجياله. لم نقصر في هجاء اللبنانيين. بخسناهم حقهم. صوَّرناهم جيلاً من المراهقين وعديمي المشاعر. كنا نلجأ إلى شتم ابنائنا وأحفادنا. لم نترك زاوية من زوايا اليأس الا وأقمنا فيها مأتما للجيل اللبناني الجديد… نعترف: كنا نقول عنكم، انكم الفضيحة، وأن عقولكم تقيم تحت زناركم. كنا سفلة كباراً. حكمنا عليكم، بما نحن عليه. البسناكم أخطاءنا وأفشالنا وأفكارنا “الخنفشارية” البائدة. نحن، أعني جيل الفاشلين، كنا اتباع العقائد والافكار والنظريات، ونتبع الوشايات التي ترسم مسار “المؤامرات” على البلاد. كنا نصدق نظرية المؤامرة المعتوهة. كنا نلوك كلاماً ونتفُّ افكاراً وندور في حلقة مفرغة، ونضع اللوم على جيل جديد. يا حرام. كم نال هذا الجيل من الاهانات منا… ولا ينفع الندم. لقد فات الأوان. والثائرون في الساحات، ما عادوا ينظرون إلى الخلف. لا شيء عندهم يوازي التقدم إلى الأمام. سيكون لهم ما يريدون.
أفضل ما أبدعوه، انهم غيرونا، نحن الذين فشلنا. صرنا نشبههم، صرنا نقلدهم. صرنا معهم. هم اساتذتنا ونحن نتعلم منهم… بعضنا يكابر. يطعن في نوايا الثورة. يكيل لهم الاتهام، على طريقة الانظمة الدكتاتورية. هؤلاء يتامى. بلا أفق. كانوا ضد الماضي المخزي، وهم ضد المستقبل الآتي.
في محصلة الشهر الأول من الانتفاضة او الثورة، انقلاب في موازين القوى. الشعب هو الأقوى. السلطة هي الحيرة والعجز والخوف. قوتهم لم تعد صالحة للاستعمال. الشعب منتشر على وسع الخريطة اللبنانية.
في الأفق علامات انتصار. لبنان الأول، كان وليد ارادات اجنبية، وقيادات طائفية. لبنان الثاني، هو وليد ارادة لبنانية، يجسدها جيل من الشباب والشابات، الذين خلعوا عنهم الانتماءات الطائفية، وتبنوا الانتماء إلى الوطن، بصفة المواطنة، في دولة مدنية.
شكراً لهذا الجيل. اغفروا لنا فشلنا. سيتحرر لبنان من تركته المزمنة والمتخلفة والمجرمة.
أما بعد. وقد اعترفنا بفشلنا في بناء دولة المواطنة، برغم صحة انتمائنا إلى العلمانية والديموقراطية وال… فإننا، او، فإن بعضنا، سجل انتصاراً على اسرائيل. اللبنانيون، في قسم منهم، قاوموا اسرائيل، منذ نهاية الستينات. وانتهوا إلى طرد الاحتلال فانسحب من دون قيد ولا شرط في العام 2000. هذا رصيد هائل للبنان في مكانته الاقليمية. لا يجوز التفريط ابداً بهذا الإنجاز، ونضال الجيل الجديد، في لبنان، يوازي ذلك، لأنه يهدف إلى تحرير لبنان بالكامل من الاحتلال الطائفي.
قبول هذه المقارنة صعب ربما على البعض. لأن الانتفاضة، قادمة من بيئات مختلفة، اتفقت على التغيير ونجحت وستنتصر. لقد كنا امام عدوين، وهزمنا العدو الخارجي، وامامكم مهمة انجاز التحرر من العدو الداخلي.
لبنان الجديد امانة في اعناقكم. ونحن بكم مؤمنون.