اختفى الدواء من السوق. دار على مختلف صيدليات الحي الذي يقيم فيه وفي حي العمل، صيدلية تجد له علبة ثم تكرر على اسماعه النصيحة التي تلقاها من صيدليات اخرى ألا يتعب نفسه في البحث، فليأخذ دواء بديلا ينهي به جهود البحث عن دواء اختفى وقد لا يعود. استجاب مرتين مخالفا معتقداته في الصحة والعلم والتحضر، وفي المرتين قرأ بالدقة الواجبة والصعوبة البالغة التعليمات المحشوة في علبتي الدواء ليكتشف أن تعاطي كلا منهما قد يتسبب في ازمة حادة أو أخرى. عاد يسأل عن طبيبه الذي وصف له الدواء المختفي فقيل له إنه لن يعود من الخارج في الأجل المنظور. استشار فجاءته النصيحة في شكل موعد تحدد ليقع بعد اسبوع. تحدد بصفة استثنائية وبوساطة مرموقة مع طبيب يحمل شهادات من الخارج وسمعته، رغم قصر مدة ممارسته الطب في مصر، عالية فضلا عن أنه ما يزال تحت الاربعين، يعني، حسب الاعراف السائدة في مجتمع المرضى، مزودا بآخر ما وصل اليه الطب في الغرب.
جاء الموعد واجتمع الطرفان في لقاء استمر اربع دقائق، راحت منها دقيقتان في قراءة ملف المريض وأغلبه يحتوى على معلومات عن تحليل وكشوفات جرت في سنوات سابقة، واستغرقت كتابة الروشته دقيقة، وبقيت دقيقة شهدت تردد المريض بين أن يصافح يد الطبيب الممدودة اليه توديعا أم يرفضها ويسأل الطبيب اسئلة ضرورية. انتهت الدقيقة عند باب الغرفة ومازالت يد الطبيب ممسكة بيد المريض لم تفك اسرها إلا عندما تأكد الطبيب أن المريض اجتاز عتبة الغرفة وصار في الردهة.
***
الألم، والتعبير عنه، هما اقصر واسرع الطرق ليتعرف الطبيب على مواقع وخطورة المرض. ملايين البشر أنقذهم الألم من الموت. كثيرون يتألمون، وبينما هم يعانون قسوة الألم ينتظرون يدا تحنو عليهم فتلمس جباههم أو شفتين يقبلان خدا او يدا، أو يتمنون لو سمعوا من الطبيب كلمة طيبة تجدد فيهم أمل التغلب على الالم. قرأت في صدد ما اسمعه عن عذابات الألم والدور المتضائل لكثير من أطباء عصرنا للتعامل مع آلام مرضاهم، قرأت ان فريقا من أساتذة وباحثي جامعة كامبريدج انتهوا من تصميم كومبيوتر يتطابق تكوينه مع تكوين الجهاز العصبي لجسم الانسان، بمعنى آخر صنعوا إنسانا آليا يشعر بألم الانسان الطبيعي. هذا الانسان الآلي يستطيع توجيه الاطباء والممرضين للتعاطف مع المريض الذي يعاني الألم، فالتعاطف يساعد في بقاء المرضى احياء اضافة الى انه يخفف من شعورهم بالأمل. يقال الآن أن نقص التعاطف صار آفة العصر وإن بعض الاطباء يتعاملون مع المرضى كسلعة في أسوأ الأحوال أو واجب سخيف في أحسن الأحوال.
***
المشكلة الحقيقية اخطر واوسع. نذكر من قراءاتنا المدرسية عن الثورة الصناعية كيف دخلت الآلة في منافسة مع العمل العضلي وانتصرت. وما شهدناه من تقدم حضاري وأنواع شتى من معاناة العمال ومزايا التقدم الصناعي والاختراعات الباهرة هو في الواقع نتيجة الانتصار الذي حققته الآلة على الانسان قبل قرنين او ما يزيد. نحن الآن امام مشهد جديد في علاقة الانسان بالآلة. كبشر يعيش مطلع القرن الحادي والعشرين نكاد نكون على وشك الاعلان عن طبيعة هذا المشهد الجديد بعد ان اكتملت فصوله وتأكدت قيمته. لا نستطيع وصف ما حدث حتى الآن في الجولة الثانية من علاقة الانسان بالآلة بأنها اخذت شكل الصدام الذي أخذته العلاقة في جولتها الأولى. الواضح انها سلكت حتى الآن مسالك التكامل ونأمل أن تستمر فيها. نأمل بشكل خاص أن يستمر قطاع العمل العاطفي في نهوضه بدوره في هذه الجولة فبدونه، أي بدون العمل العاطفي لن تنهض حضارة انسانية معتمدة فقط على ذكاء اصطناعي مهما بلغت درجة هذا الذكاء.
***
الطبيب الذي استقبل مريضه لأربع دقائق خالية من لحظة عاطفة أو لفتة دافئة او اهتمام خاص يطيب خاطر مريض أنهكه البحث عن دواء مناسب وينتظر كلمة أو اشارة طمأنة أو أمل، هو كالطبيب الآلي الذي ينتجونه الآن في عديد من جامعات الدول المتقدمة. هو كالطبيب الآلي مبرمجا خاليا من المشاعر الانسانية، يختلف عنه في أنه بالتأكيد أقل علما وتجربة. افترض انني إذا خيرت يوما قريبا بين زيارة طبيب بشري وزيارة طبيب آلي فسوف أختار الطبيب البشري رغم نقائصه الأكاديمية والتدريبية والعملية لسبب واحد وهو انني كإنسان احتاج الى جهد عاطفي يبذله الطبيب المعالج، وهو الجهد الذي لم ولن يوفره لي الطبيب الآلي في الأجل المنظور. سوف يأتي يوم، وهو قريب كما سمعت، يجلس الطبيب وعلى مكتبه كومبيوتر يظهر له نتائج التحليلات والفحوص التي اجرتها آلات طبية بدون تدخل عنصر بشري وحللتها آلات وأعدت التقرير عن نتائجها آلات أخرى ايضا بدون تدخل بشري. أنا لن أذهب الى الطبيب ليقرأ لي نتائج أقرانه من أطباء الجنس الآلي، ففي الغالب سوف أكون قد سبقته اليها وقرأتها. إنما أذهب اليه، وأنا المريض المتعلم والمطلع، لنتحاور كي يطمئن قلبي الى أن الطبيب البشري أضاف الى الطبيب الآلي جرعة عاطفة ليست اقل أهمية من جرعة الدواء التي أوصي بها الطبيب الآلي.
***
قريبا جدا سوف نقطع الرحلة الى باريس او واشنطن على طائرة بدون طيار. اتخيل الرحلة لأنني قطعت رحلة مماثلة مع طيار أكد لي بنفسه أنه لا يمس مقود الطائرة الا عند الصعود والهبوط، حتى هذه الاخيرة لم تعد ضرورية. قريبا سنكون في طائرة بدون طيار، أقول لكم من الآن لن أفزع. لن يفزعني ان اكون جالسا على مقعد على ارتفاع ثلاثين الف قدم في طائرة يوجهها جهاز آلي موجود في مكان ما على الارض. ما يفزعني حقيقة هو أن أكون على هذه الطائرة بدون عدد كاف من المضيفات والمضيفين. الراكب الطائر يريد من يتعاطف مع فزعه وقلقه ويستجيب لحاجاته ومطالبه ويرد على استفساراته.
***
أجرى باحثون في جامعة هارفارد دراسة عن طبيعة الوظائف في المستقبل. جاء في الدراسة ان معظم الوظائف التي اعلن عنها في الفترة ما بين 1980 و 2012 راحت لقطاعات تتركز فيها المهارة العاطفية والاجتماعية. يوما بعد يوم تزداد حاجة الانسان المعاصر الى من يؤدي له خدمات “اجتماعية” مثل أن يعود ضابط الشرطة أو جندي الدورية الى المرور على الحي ليسأل عن أحوال أهله، ويلعب الكرة “الشراب” مع شباب الحي، ويخلص زوجة من براثن زوج مفترس، أو العكس في بعض الحالات. سوف تزداد حاجة هذا الانسان الى معلم مدرسة يقضي مع أولاده بعد انتهاء اليوم الدراسي وقتا “خاصا” يحل مشكلاتهم التي يعجز البيت عن حلها. سوف نحتاج جميعا الى معلمين مزودين بخبرات استثنائية للتعامل فيما بينهم ومع الطلبة والاهالي عندما يتقرر تزويد المدارس بمدرسين آليين، أي من غير البشر.
***
التقدم التكنولوجي سوف يوفر لنا جيوشا آلية أفرادها مزودون بقدر هائل من الذكاء الاصطناعي والقوة العضلية، ولكنه لن يوفر لنا فردا آليا واحدا يستطيع التعاطف مع أقرانه من بني البشر، يتفهم ظروفهم، يحب ويكره ويتمسك بهوية وانتماء.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق