لا يملك اللبنانيون غير الاشفاق على دولتهم المستضعفة، كما على رئيس حكومتهم المحتجز رهينة في مملكة الصمت الابيض والذهب الاسود، سعد رفيق الحريري.
لقد أُستدعي الرجل، على عجل، فلبى الامر فوراً وبلا تردد: ذهب في غير طائرته، ومن دون جيش مرافقيه، ومن دون أن يتبع الاصول التي يفرضها عليه موقعه كرئيس حكومة في بلد آخر، لا نفط فيه ـ اقله حتى اشعار آخر ـ لكن للناس عيونا ترى وعقولاً تجتهد في أن تفهم، وخبرات في دهاليز السياسة والمعابر إلى النفوذ بالثروة او إلى الثروة بأساليب شتى غالباً ما تبقى طي الكتمان، فان هي كُشفت “ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار”..
تطايرت الاسئلة والتساؤلات والتكهنات فسدت الافق على المناصرين قبل المخاصمين، ودوى القلق على الرجل، ثم على موقعه الممتاز في دولته الصغيرة.. وبعد سماع البيان المكتوب، والمرجح انه قد أُملي عليه، وعبر محطة تلفزيون سعودية، وان كانت تموه هويتها بالادعاء انها عربية، تحولت الاسئلة إلى اتهامات قاسية وعواطف اشفاق ثم تجمع ذلك كله في حملة ضارية على دولة الصمت الابيض والذهب الاسود تُجمع على اتهامها باختطاف رئيس حكومة لبنان واتخاذه رهينة، بعد استخدامه منصة هجوم، عن بعد، وبالأسلحة الثقيلة على “حزب الله” شريكه في حكومته بوزيرين، وعلى ايران التي كان يستقبل ـ قبل يومين فقط من استدعائه السعودي العاجل ـ أحد ابرز الشخصيات الايرانية السيد ولايتي، وزير الخارجية الاسبق والمستشار الحالي للمرجعية العليا في الجمهورية الاسلامية الايرانية السيد خامنئي.
*****
انها سابقة خطيرة في العلاقات العربية ـ العربية، وحتى في العلاقات الدولية، مهما حاول المحاولون التخفيف من وقعها، واعتبارها “زيارة خاصة” وليست استدعاء واجب التلبية من جهة خارجية تعتبر أن لها حق الوصاية على سعد الدين رفيق الحريري، لأسباب لا نعرفها (والارجح انه ـ شخصياً ـ لا يعرفها ايضاً) ثم تحتجزه فيها… وان هي سمحت له بأن يقوم بزيارة ذهاب واياب مضبوطة التوقيت إلى امارة ابي ظبي للقاء ولي عهدها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
ومعروف أن بين الامير الذي يقترب من أن يصبح ملكاً للسعودية والشيخ الذي يقترب من أن يصبح رئيساً لدولة الامارات صلات اكثر من حميمة وعلاقات تتداخل فيها العاطفة مع النصح والارشاد.. بينها فتح ابواب البيت الابيض والرئيس الاميركي ترامب شخصياً أمام ولي العهد السعودي قبل الموعد “الطبيعي” وقبل غيره من قادة العربان في الجزيرة والخليج وغيرهما.
وواضح أن زيارة الساعات التي سُمح لسعد الحريري أن يزور خلالها ابو ظبي فيلتقي فيها الشيخ محمد بن زايد انما تمت للتخفيف من وقع الحديث عن احتجاز سعد الحريري في بيته في الرياض، ووضعه تحت الاقامة الجبرية..
واضح كذلك أن هذا الاحتجاز التعسفي لسعد الحريري في السعودية التي يحمل جنسيتها اضافة إلى جنسيته اللبنانية، بينما يعتقل المئات من الامراء ابناء الاسرة المالكة ورجال الاعمال الكبار والاغنى من قارون، لا يصدر عن الهوى، يزيد من القلق على رئيس حكومة لبنان، ونجل الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
*****
وإذا كانت مبادرة رئاسة الجمهورية إلى استدعاء “الاقطاب” و”الوجاهات” السياسية، بمختلف تلاوينها، قد أكدت العزم على تجاوز الذيول التي قد تنجم عن هذا الاعتقال الملكي لرئيس حكومة لبنان، وإلزامه تقديم استقالته من “منفاه” عبر تلفزيون سعودي (العربية)، فان القلق على حياة رئيس الحكومة اللبنانية المحتجز في الرياض، هو اعتداء فاضح على كرامة اللبنانيين جميعاً، فضلاً عن كونه اعتداء على الدولة اللبنانية وسيادتها… والاخطر: على روابط الاخوة التي يفترض أن تبقى فوق الخلافات السياسية.
وبالتأكيد فان شعوراً بالمهانة والتجاوز على الكرامة الوطنية يغمر كل مواطن لبناني لأي تيار انتمى.
كذلك فاذا كانت ثمة مشكلة بين المملكة العربية السعودية وبين الجمهورية الاسلامية الايرانية فان لبنان، دولة وشعباً، ليس طرفاً فيها بكل تأكيد، بغض النظر عن مواقف مواطنيه ومن مع هذه الدولة ومن ضد تلك الدولة.
فمن نِعم الله على اللبنانيين الذين ارتضوا أن يكونوا مواطنين في هذه “الدولة” انها ـ وبرغم المآخذ الكثيرة والجدية على نظامها وعلى طبقتها السياسية الحاكمة ومعها طبقة اهل الاستغلال والربح الحرام ـ ما زالت افضل او بالأحرى اقل سوءاً من معظم الدول العربية، لا سيما البدوية منها، أن لم يكن من جميعها..