يتبدى «الوطن العربي الكبير»، بمجمل أقطاره، وكأنه ركام من الآمال المجهضة والأحلام التي تحولت، بفعل الأخطاء والخطايا، إلى كوابيس. بل إنه كثيراً ما تبدت دولة وكأنها «جحيم» لأهلها.
وليس مستغرباً أو مستهجناً أن تكون نسبة كبيرة من شبابهم قد «هجّت»، أو هي واقفة الآن على أبواب السفارات الأجنبية، الأميركية بالدرجة الأولى، ثمّ بعض الدول الأوروبية، تنتظر تأشيرة خروج من جحيم بلادها العربية إلى أي مكان في الدنيا، خصوصاً أن دول النفط العربية اكتفت من «العمالة الوافدة»، وصارت انتقائية في خيارها لأسباب سياسية يختلط فيها «الأمن» بالطائفية، بل إن كثيراً من الكفاءات اللبنانية خاصة، والعربية عامة، تسعى إلى الجنسية الأجنبية، لا سيما الأميركية أو البريطانية، خلال الدراسة، لتضمن قبولاً سريعاً في مختلف أقطار الخليج، وكأنها كلمة سحرية تفتح الأبواب المرصودة.
ماذا تفعل إذا ما أنكرك وطنك فاضطهدك حكمه في حقوقك البديهية: لقمة العيش والحق بالصحة والعلم، ثمّ حرية التفكير والرأي والعمل، قبل الحديث عن النقابة والجمعية والحزب السياسي حامل شعار الدعوة إلى غد أفضل؟
يستذكر الكهول، وحتى الشيوخ، من «الرعايا العرب»، أن بلادهم كانت بلاد الخير، وأن إسقاط الأنظمة الملكية والديكتاتورية فيها وقيام الجمهوريات (في مصر أولا ثمّ في العراق، ففي اليمن ومن بعد في ليبيا) فتح أمام شعوبها أبواب المستقبل الأفضل. وبعد ذلك أو معه تمّ تحرر الجزائر بعد مئة وخمسين عاماً من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي المتوحش الذي قضى خلال دهر احتلاله على أكثر من مليون شهيد. ثمّ تحررت ليبيا التي كان يتوزع أرضها ثلاثة مستعمرين، بعد هزيمة إيطاليا التي كانت قد احتلتها في العام 1911 وأفنت نحو ثلث شعبها الذي خاض مقاومة باسلة، حتى استقر الاستعمار الفرنسي في الجنوب (فزان) والبريطاني في الشرق (طبرق) ثمّ جاء الأميركيون فابتنوا قاعدة عسكرية كبرى ومطاراً عسكرياً عظيماً في طرابلس. وأُسقط النظام الملكي الهاشمي الذي أقامه البريطانيون (وزرعوا معه بذور الفتنة) في العراق (1958) ثمّ أُسقط حكم الإمام أحمد حميد الدين الآتي من خارج العصر في اليمن (1962)، وفي الأول من أيلول (1969) أَسقطَت «ثورة الفاتح» بقيادة معمر القذافي عرش السنوسي في ليبيا.
هكذا لم يتبق في الوطن العربي من الممالك إلا الخلافة العلوية في المغرب (وهي الأعرق)، والعرش الوهابي في السعودية، ثمّ الملكية في الأردن الذي سلخه الاستعمار البريطاني عن سوريا، وجعله إمارة هاشمية تحوّلت إلى مملكة بعد إقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين، وتبدت الوظيفة الفعلية لهذا العرش حين «سُمح» له بأن يضم الضفة الغربية من فلسطين إلى شرق الأردن.
بعد أكثر من سبعين عاماً من الهزيمة العربية الأولى في مواجهة المشروع الإسرائيلي في فلسطين 1948، و أكثر من خمسين عاماً من الهزيمة العربية الثانية في عام 1967، ثمّ الهزيمة الثالثة والقاضية بعد إضاعة نصر أكتوبر ـ رمضان ـ 1973 ـ وما تلاها من اتفاقات صلح دائم (مصر) أو هدنة مفتوحة (سوريا)، ثمّ استيعاب إسرائيل «منظمة التحرير الفلسطينية» بعدما فقدت رأسها وأرضها في الخارج وعادت بشروط العدو إلى الداخل، وبعدما قضت الانقلابات العسكرية على روح الثورة في مختلف الأقطار العربية، صار أي «جنرال» يقفز إلى السلطة أو أي لاجئ سياسي عائد بعد منفى يمنح نفسه ألقاب «المحرر» و «قائد الثورة» و «باني النهضة» في الطريق إلى واشنطن أو خلال العودة منها.
أما الشباب ففي ظل دولهم المستقلة نظرياً، ذات الأعلام الوطنية التي ترفرف فوق سرايات الحكم ويحملها المتظاهرون، فقد عاشوا أوضاعاً اقتصادية طاردة لكفاءاتهم، وقد كانوا يفترضون أنهم مهيَّأون لبناء المستقبل الأفضل.
بعض الجمهوريات التي قامت على أنقاض الممالك ودول الخلافة، تهاوت في حروب أهلية، أو نتيجة حروب أهلية، أو فساد طغى حتى تسبب في تفسخ المجتمعات أو في انقسامات طائفية تسببت في تدمير الوحدة الوطنية، خصوصاً بعدما تقدمت إمارات النفط والممالك إلى الصف الأول، متصدية للقيادة بقوة قدراتها المالية وحاجة الجمهوريات (التي كانت مصدر الثورات والانتفاضات) إلى مساعداتها وقروضها.
و«على الأرض» تبدل المشهد جذرياً: تحولت الممالك والإمارات إلى الهجوم مستفيدة من حاجة الجمهوريات إلى مساعداتها، واتخذت لنفسها حق الإمرة، وقررت مَنْ مِنَ الأنظمة الجمهورية صالح للبقاء ومن منها يجب إسقاطه حتى بالقوة! فاحتضنت المعارضات لبعض الأنظمة الجمهورية ودعمتها بالمال والسلاح والرجال، والشعار الإسلامي الذي يسهل غالباً استخدام إغرائه لاستقطاب المقاتلين من مختلف الدول العربية والإسلامية..
لقد دار الفلك بالدول العربية دورة كاملة فانقلبت الأدوار، وإذا القيادة لأَغناها بالذهب الأسود وليس لأُغناها بالرجال والتاريخ والجغرافيا والثورات وأجيال الخيبة التي اندفعت إلى «الميادين» ذات يوم تطلب التغيير والتحرر من الهزيمة، فإذا هي تواجه «السلط» التي وصلت إلى سدة الحكم باسم ميادين الثورة ثمّ ارتدت على شعاراتها فتصدت بقمع القوة للمطالبين بالتغيير.
هكذا عادت الخيبة تغطي بظلالها السوداء الأرض العربية، وتدفع بالأجيال الجديدة نحو السفارات الأجنبية بطلب «الفيزا».. وحيث تفجرت الأوضاع صدامات دموية بين الأنظمة وقوى التغيير، سواء الوطنية منها، أو تلك الممولة والمسلحة من الخارج العربي أساساً، ومعها التركي، وغالباً تحت رعاية غير مباشرة من الغرب عموماً، والأميركي خصوصاً.
وتحولت الانتفاضات إلى حروب أهلية مغذاة بالذهب والنفوذ الأجنبي. وجاء الاتحاد الروسي ليقاتل المنظمات الإرهابية ذات الشعار الإسلامي، والتي ضمت في صفوفها أعداداً ملحوظة من «رعاياه»، مستعيداً ـ إلى حد كبير ـ دور الاتحاد السوفياتي السابق في ظل تراجع أميركي واضح أعقب دوره التخريبي الكبير عبر احتلال العراق وتدميره.
هكذا دار الفلك بالعرب دورة شبه كاملة.. وهم الآن في انتظار اكتمالها.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ7 كانون الأول 2016