لم أعرف شخصا يكره آخر كراهية دونالد ترامب لباراك أوباما. عرفت كره سير أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا العظمى للرئيس المصري جمال عبد الناصر وكان كرها مضرب الأمثال إلا أنه كان مفهوما وربما مبررا. ما لم يكن مفهوما رغم صدق المحاولة للفهم وما يزال غير مفهوم مدى كره الرئيس الحالي للولايات المتحدة لسلفه. كثيرون في التاريخ وصلوا إلى الحكم مستفيدين من أخطاء أسلافهم، أكثر منهم أولئك الذين أخذوا على عاتقهم محو آثار من سبقوهم. لدينا في اللحظة السياسية المعاصرة مثالا نموذجيا، وأقصد الرئيس ترامب، الرجل الذي قرر، مع تيار سياسي شعبوي لم نكتشف وجوده وتأثيره إلا متأخرا، إعادة أمريكا إلى وضع الدولة الأعظم وذلك بإزالة كل المظاهر والأسباب التي يمكن أن تكون تسببت في انحدار أمريكا وصعود دولة أو دول أخرى لتشاركها القمة أو لتحل محلها فيها. لا يخفى على كثيرين أن ترامب يعتقد اعتقادا جازما أن عهد أوباما وشريكته هيلاري كلينتون يتحمل قسطا كبيرا من مسئولية هذا الانحدار. سمعنا عددا كبيرا من خطب وتصريحات ترامب وقرأنا بعض تغريداته المثيرة للجدل ولم نعثر مرة واحدة على عبارة تقدير أو ثناء لسياسات أوباما الخارجية. لذلك كانت أياما مثيرة تلك التي قضاها المشتغلون في حقل العلاقات الدولية وهم يراقبون جهود الرئيس ترامب بشخصه وبأجهزة الأمن والسياسة الخارجية التابعة له وهو ينفذ خطة الرئيس أوباما القاضية بتحويل معظم الاهتمام الأمريكي من التركيز على أوروبا والشرق الأوسط إلى التركيز على آسيا وبخاصة شرق آسيا. هذا التحويل كان أحد إبداعات أوباما ولم تسمح له الظروف وقتها، وبخاصة نشوب الحرب في سوريا، تحقيق هذا الحلم في عهده. الآن ترامب يحققه ولا يعترف بفضل أوباما وأفضال آخرين في آسيا. عالم اليوم مختلف عن عالم أوباما ويجب أن نعترف أن لأوباما دورا ولكن لترامب شخصيا الفضل النهائي.
***
لا أبالغ عن عمد في تصوير حجم ونوع التغيير الحادث في آسيا. ربما كنت واقعا تحت تأثير هذا الفيض غير المألوف من المعلومات والتحليلات على شخص يتابع تطورات آسيا منذ سنوات عديدة. أتابع عادة مؤتمرا ت قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا المعروفة بالآسيان، هذه المنظمة الإقليمية التي تعمل لتحقيق أهداف متواضعة بخطوات بطيئة ولكن متدرجة. ركزوا على الاقتصاد وفتح الأسواق لمنتجاتهم وتنسيق سياساتهم الاقتصادية وتحسين المستويات الفنية في قطاعات بعينها مثل الجمارك وسلامة الغذاء وبناء الإنسان. دفعني للاهتمام بها اهتمامي بتجربة إقليمية عربية وصلت إلى حافة السقوط ومنا من لا يزال يأمل أو يحلم. فجأة وخلال العامي الأخيرين وجدت الآسيان نفسها تحت ضغوط من جهات عديدة تسعي لتغيير مسيرتها واهدافها. اجتمعت قمة المنظمة في إبريل الماضي في ضيافة أستراليا التي تسعي بكل حماسة ممكنة للانضمام. أهداف أستراليا في الانضمام لا تخفى منذ أن خرجت الصين الجديدة إلى محيطها مزودة بطاقة استثمارية وسياسية هائلة فهي تريد الدعم الاقليمي الضروري لمقاومة عمليات الاختراق الصينية. كثير من ساسة الإقليم بالإضافة إلى ساسة أستراليا يذكرون أن مجموعة الآسيان مدينة بنشأتها في بانكوك في عام 1967 إلى حال التوتر والاضطراب في الإقليم بسبب التهديد الشيوعي الصيني المباشر لكل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتايلاند. أستراليا تعيد تذكرهم بهذا الخطر الصيني يأتيهم اليوم في أشكال مختلفة. من ناحية أخرى، نما إلى علمهم نية الولايات المتحدة بناء منظومة دفاعية جديدة. بعد أيام على انعقاد قمة سيدني بأستراليا انعقدت في سنغافورة قمة أخرى للآسيان بدون أستراليا.
وفي سنغافورة وبعد أسابيع قليلة من انعقاد قمة الآسيان اجتمع عدد وفير من خبراء الدفاع والأمن في مؤتمر يحمل اسم المنتجع الشهير الذي ينعقد فيه سنويا مؤتمر حوار “شانجري ـ لا”. اعتدنا في السنوات الماضية على أن يصدر عن المؤتمر أفكار تقليدية وأن يركز المؤتمرون على قضايا التطرف العرقي في ميانمار وإندونيسيا وتهريب المخدرات. كان حوار “شانجري ـ لا” يزيد في تلك السنوات عن كونه صورة أسيوية باهتة لمؤتمر الأمن الذي يعقد سنويا في مدينة ميونيخ بولاية بافاريا الألمانية، ويحضره خبراء من كافة أنحاء العالم. الحوار في “شانجري ـ لا” هذا العام كان مختلفا. أسباب ذلك ثلاثة على الأقل هي أولا: اللقاء الذي كان مرتقبا بين رئيس أمريكا ورئيس كوريا الشمالية، ثانيا: السباق على القمة الدولية يميل فجأة نحو سخونة وخشونة غير معهودتين في السباق منذ بدايته. ثالثا: ولا محل لمناقشته بالتفصيل الذي يستحق في مقالنا هذا، ضغوط دولية كبيرة لتسخين وتطوير السباق نحو القمة الأقليمية في نظام آسيوي ناشئ، يكون للهند فيه دور بارز.
***
عن اللقاء الذي كان مرتقبا بين رئيس الولايات المتحدة ورئيس كوريا الشمالية ثم تحقق في الثاني عشر من يونيو الجاري في سنغافورة أستطيع أن أقول وبارتياح أنه كان بكل المقاييس حدثا تاريخيا. قد لا تتوصل مختلف الأطراف في وقت قريب إلى تحقيق أغراضها منه إلا أنه يبقى أن اللقاء خط على أرض الأزمات في شرق آسيا خطوطا جديدة لن تمحي بسهولة. كوريا الشمالية انتقلت خلال مفاوضات الإعداد للقاء وأثناءه من دولة مارقة إلى دولة تحظى بالاحترام ورئيسها من شاب أهوج قليل الخبرة والحنكة إلى مفاوض ماهر ورجل دولة جاهز لاحترام أعراف النظام الدولي. الصين من ناحيتها وجدت في تطورات الموضوع فرصة لتؤكد محورية دورها في أي تسوية تفكر في التوصل إليها دول في الإقليم أو دول عظمى في شأن من شؤون الإقليم. روسيا واليابان أسرعتا بالاعتراف بنشأة وضع جديد ليس فقط في الإقليم بل وفي العالم. في الوقت نفسه أدركت أوروبا أن الرئيس ترامب ما زال قادرا بأساليبه الشعبوية والمسرحية على إسقاط مسلمات ومبادئ عديدة في العمل السياسي الدولي لحساب أهداف وأفكار ما تزال محل جدل شديد على كافة مستويات النظام السياسي الأمريكي.
***
عن السباق الجاري منذ سنوات نحو القمة الدولية أتوقع أن يغير بعض المحللين الأمريكيين والأوروبيين الكثير من تحليلاتهم بخصوص سباق القمة بين الولايات المتحدة والصين. هذا البعض وعددهم قليل كان يعتقد أن السباق سوف يستمر هادئا وناعما إلى أن يستقر توازن جديد للقوة بين القطبين حتى مجئ يوم يقرران فيه تقاسم القيادة أو فتح السباق لانضمام أطراف ثالثة. أتصور أن التطورات الأخيرة في آسيا قد تدفع هذا البعض إلى تغير موقفه. أنا شخصيا بدأت أهتم بتطورات بعينها أكثر من غيرها مثل السرعة غير المألوفة والجرأة الغريبة والسلوكيات “الاختراقية”، وكلها علامات جديدة في النشاط المحموم الذي دأبت الصين على ممارسته في العامين الأخيرين في تنفيذ سياساتها الخارجية. الصين التي ألتزمت عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى هي الآن تتدخل كما في السودان وباكستان وميانمار وغيرها. الصين التي تعهدت بعدم إقامة قواعد عسكرية صينية في الخارج هي الآن تحتفظ بقاعدة في جيبوتي وتبني مرفأ عميقا للغواصات قريبا من كولومبو عاصمة سيريلانكا وقاعدة بحرية في كيوك بيو في ميانمار وتشق طرقا بحرية وتقيم جزرا اصطناعية في بحر الصين الجنوبي. الصين التي قاومت الهيمنة الرأسمالية والنفوذ الاستعماري الغربي تشتري جزرا في المحيط الهندي وتحصل على حقوق امتياز لمدة 99 عاما في اتفاقات قروض واستثمار في دول أفريقية وأسيوية عديدة وكذلك في أمريكا الجنوبية وتدفع أجورا متدنية لعمال أفارقة وأسيويين وتمنع تكنولوجيات معينة عن دول نامية.
أتصور أن دولة أعلنت القمة هدفا لها وحددت موعد الانتهاء من السعي نحوها بالدقة الممكنة وهو عام 2049 وأسقطت كل عهودها وبخاصة مقاومة الهيمنة الدولية وتتسلح بأقصى ما تستطيع تطويره من أسلحة حديثة واستخدامات الذكاء الاصطناعي وإلى أبعد مما تستطيع وهو الفضاء الخارجي، هي دولة لا شك تستعد لاحتمالات مواجهة بالعنف مع الدول الأخرى الطامحة إلى القمة، وهي دولة دربت نفسها على استخدام درجات من العدوانية لقيادة عوالم محلية وإقليمية تسود فيها الفوضى أو الارتباك.
في ظل هذا التطور النوعي في السباق استطعنا فهم الأهمية الكبرى التي أولتها الصين إلى المؤتمر الذي عقد قبل أيام لقمة دول مجموعة شنغهاي. الرئيس بوتين حضر المؤتمر وكان مهتما فالصين الجيدة اخترقت دولا في مناطق نفوذ روسيا تحت حجة مبادرة تجديد طريق الحرير. وفي الوقت نفسه انتهت من إقامة الممر الاقتصادي الذي ربط مناطق غرب الصين والملاصقة لدول وسط أسيا وجنوب روسيا بمرفأ جوادار الباكستاني على المحيط الهندي. بمعنى آخر الصين حققت لنفسها حلما عجزت الإمبراطورية الروسية عن تحقيقه على مر العصور. يحق للصين أن تقول للعالم، وأمريكا تحديدا، أنها تقود مجموعة دول تمثل أكثر من 40 % من سكان العالم وتسيطر على أغلب ثروات الكوكب.
***
أوباما لم يجانبه الصواب عندما قرر التحول بتركيز أمريكا من ساحة الغرب إلى ساحات الشرق، إلى آسيا. وترامب لم يخطئ عندما استثني هذا القرار من حزم الكراهية التي يحملها للرئيس أوباما ولا يتوقف عن ترديدها والتنديد بها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
