احتفل أقرب الأهل، جغرافيا، ببلوغي العام الرابع والثمانين. حرمنا زائر بظله الثقيل وغموضه المخرب، وحرم أكثرية الأهل وأقرب الأصدقاء من إقامة حفلاتهم المعتادة كل عام بهذه المناسبة. حرمني أنا أيضا من متعة صحبتهم ومن فرصة جديدة أتأمل فيها الآفاق التي تمددت نحوها العائلة عددا وعدة، ومن بهجة الالتقاء بأصدقاء لم يتخلوا أو يبتعدوا وإن جار الزمن على البعض منا، فكان في أحيان قاسيا علينا وفي أحيان ظالما وكنا بالود في كل الأحيان قانعين. تحصنت بالحب فكان خير مناعة لي في مواجهة موجات الشر وسوء الفهم والغضب من أى مصدر انطلقت ومن أى جهة أتت.
ها أنذا أقترب من منتصف الثمانينيات من العمر وما زلت مصرا على أنني أعيش أحلى أيام العمر. عشت أياما كثيرة حلوة ولكني أعيش أحلاها على الإطلاق. لاموني على قرارات كثيرة اتخذتها خلال مسيرتي مراهقا كنت في مرحلة منها وفي مرحلة أخرى شابا في مقتبل حياته الوظيفية وعلى أبواب خيارات مصيرية. قرارات أخرى اتخذتها وفي ضميري وفوق كاهلي عائلة تزداد مطالبها، تحملنا معا وتجاوزنا مراحل صعبة ولكن مجزية في عطاء الحب والأحلام والفضول والطموح. تذكرني صور في ألبوم ذكرياتي بمرحلة لم يغب فيها العبوس عن وجهي. مرحلة لم تطل انتهت بمواجهة صريحة مع النفس فانتصرت الرغبة في الحياة. منذ ذلك اليوم أبتسم كلما تذكرت لحظات اتخاذ بعض القرارات الصعبة أو المصيرية. واحدة من تلك الابتسامات تزين وجهي الآن وأنا أقترب من كتابة عناوين، مجرد عناوين، لبعض تلك القرارات ومآلاتها.
في الخامسة عشرة من عمري اخترت السياسة الخارجية مهنة أشتغلها أو أشتغل عليها. تفرع عن هذا القرار قرارات فرعية عديدة بآثار بعضها ما يزال فاعلا. لم أترك فريقا مغامرا أو ناشطا في ميدان الرحلات، وبخاصة الصعبة، لم أنضم إليه. مع هؤلاء الفرقاء من المراهقين المغامرين قضيت أياما وليالٍ مثيرة وكاشفة في أعالى نهر النيل وتحديدا بين قبائل جبال نوبا. كنت شاهدا، واختاروني محكما، في حفل تخريج دفعة من شباب وصلوا إلى سن البلوغ. كان أول درس في مناهج وأساليب تجديد الأمم. رأيت وعشت يوما مع أمة تتجدد في مثل هذا اليوم من كل عام، يوم بلوغ أطفالها سن المراهقة، حينها يصبح الجيل الجديد جاهزا للتدريب على الحرب والحب وصيد الضرع وصد الأعداء وعلى كل بالغ أن يثبت أهليته فيها جميعا خلال يوم بليلة. وفي رحلتنا في المملكة الليبية السنوسية وفي جلسة خاصة اطلعت مع أستاذ مرافق على بعض فنون الحكم في مجتمع قبلى آخر. وفي الرحلة الاستكشافية الثالثة قدت في مدينة غزة فريقا من أربعة مراهقين دفعهم الفضول للاقتراب من الحدود على متن دراجات هوائية ومشاهدة إسرائيليين من قرب. اخترقنا الحدود ببراءة المراهقين وشاهدنا وقضينا عدة ليالٍ في سجون بير سبع الإسرائيلية. عدت لأجد في استقبالي عند الحدود عقيد في الزي العسكري عابس الوجه وأظن أنه نطق بكلمات ثلاث أو أربع، قال ما معناه، كلفتونا كتير. لم أفهم القصد ولم أستفسر حتى وأنا أعمل عضوا في مكتبه بالجامعة العربية لسنوات غير قليلة وصديقا بعد أن ترك كلانا العمل وانتبهنا إلى الكتابة. في غزة قضيت الليلة في سجن وفي الصباح انعقدت محكمة عسكرية وصدر الحكم بإدانتي وعقوبة السجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما وترحيلي من غزة مكبلا لتسليمي إلى الجهة العسكرية المسؤولة في محطة مصر للقطارات. هناك وبعد الانتهاء من الإجراءات الورقية أصر الضباط على اصطحابي بسيارة عسكرية إلى بيت أهلي. استقبلتني أمي في بيتنا بشارع سامي وسط تهليل جموع الصحفيين وزغاريد نساء الحي. استقبلتني بدموع فرحتين، فرحة العودة سالما مقترنة بفرحة نشر خبر عودة ابنها من إسرائيل بعرض الصفحة الأولى لجريدة الأهرام.
كم تمنيت يوم عرسي أن تعيش أمي وأرى فرحتها. سرقها منا القدر. تآمر عليها مع مرض شرير ليختصر من عمرها سنوات كثيرة. أرى اليوم صور العرس بعيني غريب عن المشهد. زرت الهند بعد نحو عشرين عاما لم أتعرف على شيء أو على أحد، حتى الموقع الذي شهد الاحتفال أزالوه. رجعت إلى ألبوم الصور. غلام فارع ينقصه في الصور جناحان ليطير بهما كما كان يطير الشاطر حسن في حواديت أم فاطمة. أم فاطمة كانت تأتي مرة في الشهر إلى بيتنا أو إلى بيت أختي لتتحصل على جنيهات معدودة تسد بها رمق حياتها في قريتها وتدفع منها سجاير ابنها. تقضي في كل زيارة ليلة أو ليلتين. بعد العشاء نلتف حولها جالسين القرفصاء على الأرض مثلما كانت تجلس. جرت عادتها أن تبدأ بحكاية عن نفسها. من حكاياتها التلقائية والمحببة إلى نفسي. “أنا من جمالي كنت ماشية على النيل والهوا طير هدومي حتى كالسوني وكان له كورنيش طويل طار في الهوا. اتعرت رجلي. شافها الملك وكان بيتمشي زيي. ومرة واحدة اتدور وقال للراجل اللى معاه بكرة تقوللهم يسموا الشارع ده شارع الكورنيش. ومن يوميها بقى اسمه كورنيش النيل”. تنتهى حكايتها بكل تورياتها وألغازها ونوادر حكمتها وتبدأ الحدوتة ولإرضائي كانت كلها حواديت عن مغامرات الشاطر حسن مع بنت السلطان التي اختطفتها “أمنا الغولة”. أظن، وبعض أو كل الظن عندي خيال، أن الشاطر حسن كان في نيودلهى ليلة عرسي ومشى معنا، أنا والعروس، خطوات ليست قليلة حتى توقفنا لنتلقى تهاني السيدة انديرا غاندي ومشاهير الطبقة السياسية في الهند وممثلات وممثلي بوليوود والسفراء المعتمدين في نيودلهى وشباب السلك الدبلوماسي بكامل عددهم. في اليوم التالى صدرت الصحف الهندية تزين بعض صفحاتها صور العرس. لا أخفيكم أنني وبينما كنت أراجع ألبوم ذكرياتي لمحت في إحدى الصور صورة للشاطر حسن متخفيا في الملابس الرسمية وممسكا بيد العروس.
في الألبوم صور عديدة لبلاد حططت بها في مرحلة أو أخرى وصور لملوك ورؤساء جمهورية وأمراء قابلتهم أو اختلطت ببعضهم، واعترف أن أحدهم حظي بالنصيب الأكبر من فضولي. لا تأثيرا كبيرا من أى نوع خلفته فرص الالتقاء بهؤلاء خلال مرحلتي الدبلوماسية. المتعة كل المتعة كانت في فرص الالتقاء بهم والاستماع إليهم خلال ممارستي العمل الصحفي. قابلت العدد الأوفر منهم في آسيا والعالم العربي وإفريقيا. سمعت قصصا شتى. رأيت في كل موقع وساحة وقصر “الشاطر حسن” ليس كما ورد ورسمته لي في مخيلتي أكثر حواديت أم فاطمة. سجلت في كراستي الصغيرة قصص صعود. في رواياتهم كان نموذج الشاطر حسن الذي اختاروه مختلفا عن نموذج الشاطر حسن في حواديت أم فاطمة. قصص في رواياتهم تحكي عن شاطر باحث عن السلطة والقوة وعن السحرة وصانعي المعجزات القادرين على حمله فوق مكنسة كمكنسة الساحرة في رواية الملك أوز أو في طائرة مقاتلة أو قاذفة صواريخ والطيران به وتثبيته على عرش في بلد من البلاد، أى بلد. لم أقابل واحدا فيهم اعترف بأن حافزه في الحياة كان الحب والبحث عنه في صدور الناس والتخصص في درس أعماقه وفصائله. لم أدع من واحد فيهم لأقابل العروس التي وقع في حبها وخاض من أجل الحصول عليها والمحافظة عليها معارك مع مستقبل مكتظ بالوحوش ومصير غامض.
ما أروع مواقع للحب في ألبوم الذكريات اشتهرت بعطائها الفياض وأحضانها الرحبة المتشبثة. صورة بالأبيض والأسود لمياه النيل “المتسحبة” بين جنادل النهر في أسوان. صورة الحب الذي أقاموا له معبدا في كاجوراو بجنوب الهند وصورة الحب الذي عينوا له آلهة من صنع خيالهم ونصبوها لتقف في صف آلهة القوة والبطش في أساطير قدماء حضارة الغرب. صورة الحب المسجل على أواني زهور الحضارة الصينية منذ القدم، الشاطر حسن يقف فوق حصانه يسترق النظر من فوق جدار قصر تسكنه بنت الامبراطور. صور الحب المنقوشة على جدران معابد الفراعنة وقصورهم. صورة الحب كما جاء في الأغنية التي حفرت لنفسها مقرا دائما في جدول ذكرياتي. كانت المدخل إلى سلسلة دروس تعلم اللغة الإسبانية كما قررتها المعلمة التي صعدت بى بسرعة وصفتها هى نفسها بالسرعة غير المألوفة نحو قمة التل المطل على العاصمة سنتياجو.
أينما ذهبت حرصت ألا أرحل إلا ومعي في خيالي إن لم يكن في حقيبة سفري صور كي لا أنسى. وللحق ولا فخر مبالغا فيه، لم أنس. عشت أجمع حواديت الشاطر حسن الناطقة بلهجات أهلها. عدت بحدوتة من تراث أهل جزيرة موروني وأخرى نقلها مواطن من كينيا وثالثة ورابعة وخامسة من ريف السنغال ومناطق أمازيج الجزائر ومن تراث الأكراد، كلها لا تنسى. وحواديت من أزقة البوكا في بيونس ايرس وشواطئ الطبقة الراقية قرب ماردى لبلاتا ومونتيفيديو وفالبرايزو وريفييرا الزهور انطلاقا من جنوة أو وصولا إليها.
الذين قالوا، مراحل ومرت، أخطأوا أو لم يفهموا. لم يفهموا أنه في هذا الوقت من كل عام تجتمع صور الفرص التي عشتها تدعوني للاطلاع والاستمتاع. ترسم الصور على وجهي ابتسامة أقوم بتوزيعها أو نسخا منها على كل أهلي وجيراني ومن ساقته أشجانه وعواطفه من أصدقائي وصديقاتي. أحب هذه المرحلة من حياتي. لم يبلغني في أى من حواديت أم فاطمة أو غيرها أن الشاطر حسن عاش حتى بلغها. أقول لكل الأطفال أن الشاطر حسن عاش حتى بلغ الرابعة والثمانين وقد يعود، وهو بالتأكيد سيحاول ليعود، إليهم في حلقة جديدة من حواديت أم فاطمة في العام القادم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق