تدخل »السفير« غدù الأحد في 26 آذار 1995، سنتها الثانية والعشرين، يتملّكها شعور ممضّ بأن الصحافة في لبنان قد هرمت وهي بعد في شرخ شبابها، وأنها تفتقد الوهج الذي ميّزها وأحلّها في مكانة مرموقة، عربيù، منذ أواسط الخمسينات وحتى نهاية الثمانينات تقريبù.
ولقد هرمت الصحافة لأن الحياة السياسية قد شاخت وابتذلت وتعثّرت، على المستوى العربي عامة وعلى المستوى المحلي بالذات.
لكأنَّ العمل السياسي بات حرفة مهجورة، أو بالأحرى محظورة!
ففي معظم الأقطار العربية يحتكر الحاكم بشخصه (ومعه بعض المعاونين) السياسة وكأنها اختصاص نادر لا يمكن أن يتقنه إلاَّه، ومن غير المأمون تركه للعامة والدهماء، ولو ادعت »نخبها« المعرفة والثقافة والعلم والمعرفة بأسرار الاقتصاد والصناعة والزراعة والتجارة وسائر الفنون!
سياسي واحد لكل بلد، وفي ذلك الكفاية.
أما في لبنان، فالسياسيون لا يجيئون من العمل العام، أو من برامج التغيير التي تقوم عليها الأحزاب، وإنما فرض عليهم جميعù أن يحنوا هاماتهم (إذا ما كانت مرتفعة) ليمرقوا من خلال فتحات ضيقة في دهليز العصبيات الطائفية والمذهبية.
فجأة، انسحبت العقائد من الميادين، وهرب بها أصحابها إلى الظلمة يُخفونها خوفù أو خجلاً أو تنصّلاً من شرف العمل تحت لوائها، ذات يوم، بل ذات دهر،
باتت العقائد تهمù، بل »جرائم شائنة«، وكأنها أدلة إثبات على التخلف والغربة عن العصر وعدم استيعاب التحولات التي مهَّدت لبزوغ فجر الإنسانية الجديد ممثلاً بالنظام العالمي الجديد.
وربما لأن معظم الحكّام العرب قد سلَّم بإسرائيل دولة مركزية للمنطقة عمومù، فهو قد ترك لها السياسة وهمومها وشجونها وأسرارها ومتاعبها، وانصرف هو إلى التمتّع بحياته في ظل »قيادته« الجديدة الرشيدة.
ربما لهذا شاخت السياسة العربية قبل أن يعرفها العرب تمامù،
أما في لبنان فقد فتك سرطان الطائفية بالعمل السياسي واستولد له زعامات من طبيعة خاصة جدù، وهي تمارسه على قاعدة: مَن لم يسلّم بزعامتي فهو خارج على الدين ويقام عليه الحد بوصفه كافرù أو مرتدù أو مشركù بالزعيم الأوحد.
وفي ظل تهاوي الصراع السياسي وغياب الفكر والبرنامج والتنظيمات المعبّرة عن تناقض المصالح، كما في ظل تهافت السياسيين على مغانم الصفقات وملايين التلزيمات ونفاق ذوي النفوذ، أيù كانوا وحيثما كانوا،
في ظل ذلك كله باتت الصحافة أشغالاً شاقة…
كيف تصنع صحافة ناجحة في ظل الخواء السياسي المطلق؟!
مع ذلك، ما زلنا في »السفير« وفي بعض الزميلات الأخرى نحاول حماية ما تبقَّى من المهنة، وربما من السياسة.
لن نيأس، ولن نترك المسرح للبوم واللصوص والغربان والخواء والسم الطائفي.
وكل عام وأنتم بخير..