طلال سلمان

مناقشة ابعد من الموازنة

نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 6 أيار 1999

خلال أيام، سيكون على المجلس النيابي قطع إجازته المفتوحة، وتلبية استدعائه لخدمة العلم عن طريق مناقشة الموازنة التي اجتهدت الحكومة لإخراجها من تقليديتها فما استطاعت وما كانت لتستطيع في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد،
سلفاً يمكن القول إن المناقشة لن تكون »متوازنة«، وستغلب عليها البلادة المضجرة
، ذلك أن هذه الموازنة المتقشفة لا تصلح لأن تكون أرض الحوار حول المخاطر الجدية، اقتصادياً وبالتالي سياسياً، التي تتهدّد لبنان إذا هو لم يواجه دولة وشعباً واقعه المتردي والذي يعترف الجميع، في الحكم أو في »المعارضات« المختلفة، بأن لا حلول سحرية له.
ربما ستوفر »الرؤية الخمسية« التي ستتقدم بها الحكومة كمنهج عمل لكسر الحلقة المفرغة التي يكاد يختنق فيها لبنان، الدين العجز خدمة الدين تفاقم العجز المزيد من الاستدانة، منطلقاً لحوار وطني يتجاوز اليومي إلى استشراف آفاق خطة علمية عملية لمواجهة المهمات الثقيلة لحماية المستقبل.
لا تنفع المسكّنات أو التدابير الجزئية والحذرة والمراعية »للمزاج« اللبناني ا
لذي »تعوّد« أن ينفق أكثر بكثير من دخله الطبيعي، والذي يطلب من دولته رعاية شاملة ومكلفة ثم يضنّ عليها بالحد الأدنى مما يتوجب عليه من »ثمن« لتلك الرعاية.
لا بد من الصراحة الجارحة لوقف النزف المنهِك لطرفي العلاقة، أي الدولة والشعب، خصوصاً وأن بعض التصرفات تظهرهما وكأنهما خصمان، فالمواطن يفتش دائماً عن وسيلة أو حيلة لخداع حكومته والتهرّب من أداء حقوقها عليه، والحكومة أي حكومة تلجأ أحياناً إلى التعامل معه وكأنه متهم في أمانته حتى يثبت العكس، فتنصب له »الكمائن« وتعقِّد أمامه الإجراءات الإدارية لكي تستوفي منه ما يبرع عادة في التهرّب منه والتباهي بأنه أشطر منها وأمكر..
لا مشكلة لدى »الكبار«… فهم يعرفون ليس فقط من أين تؤكل الكتف، بل أيضاً ك
يف تخرق القوانين.. بالقانون، الذي أخذ مصالحهم في الاعتبار عند إعداده.
المشكلة متعددة الجوانب والوجوه:
فالدولة أكبر رب عمل في لبنان… لكن نسبة كبرى من العاملين في الإدارات والمؤسسات والمصالح الرسمية لا ينتجون إطلاقاً، ولا مكان شرعياً لوجودهم فيها، فوظائفهم مختلقة، أصلاً، أو كانت مؤقتة ثم حُوِّلت إلى دائمة، وهكذا نشأت معادلة شوهاء: يتزايد الإنفاق الحكومي على البطالة مقنعة وغير مقنعة ، وتترسخ مفاهيم مغلوطة تقطع بين الانتاج والدخل… ويتزايد العجز المالي، وأخطر منه العجز عن مواجهة المشكلة بالقرار الصحيح الموجع والضروري،
من يتحمّل، مثلاً، مسؤولية صرف عشرين ألفاً (أو ربما أكثر بكثير) من الموظفين
أو الأجراء أو المتعاقدين أو العاملين بالفاتورة، ممَّن لا يعملون، ولا ينتجون، والذين تتضخم أجورهم وأعباؤهم كل عام، فتصير مشكلتهم أكثر تعقيداً، وتترسخ »حقوقهم المكتسبة« كأعباء إضافية، ويكتسبون ملامح الضحايا، ويصير العلاج عقاباً أو عقوبة غير مبررة، بينما تسقط على الدولة ملامح الجلاد!!
وعلى امتداد السنوات الماضية، ولأن الدولة عجزت بتأثير انعكاسات الحرب الأهلية والضغوط السياسية وخطورة الحساسيات الطائفية والسياسية عن تحديد الكادر الوظيفي اللازم، وإنهاء حالة التسيير اليومي بالتكليف، وخلق فرص عمل جديدة أو المساعدة على توفيرها في قطاعات إنتاجية خارج الإدارة الرسمية، فقد اعتبرت أن من واجبها أن تتحمّل هذا العبء الثقيل،
.. ثم عجزت عن تحريك هؤلاء »الموظفين« المفروضين عليها، والفائضين عن حاجتها، بل هي اضطرت، في ما بعد، إلى تكليفهم بمهام ليسوا مهيئين لها على حساب غيرهم من الأكفاء الذين لمّا ضاقت أمامهم أبواب الرزق »هجّوا« شاردين في أربع رياح الأرض يحاولون بيع علمهم لمن يحتاجه، وبأي ثمن..
قد يكون من الظلم القول إن الأقل كفاءة هم الذين يصادرون ويتصدّرون المواقع في الإدارة الحكومية، لكن المؤكد أن الأكثر كفاءة ليسوا فيها، إجمالاً، ولا هي تستطيع أن توفر لهم الحد الأدنى من الدخل المتناسب مع درجة تحصيلهم العلمي ومع خبراتهم.
ما الحل؟!
لا حلّ، في الأفق.. ولا حلّ من خارج ثورة إدارية شاملة يبدو مستحيلاً إنجازها في ظل ضائقة معيشية خانقة يزيد من حدتها ركود اقتصادي شامل وتضاؤل فرص الاستثمار الجدية التي تخلق وظائف جديدة وتحرّك »السوق« وتزخم حركة الانتاج.
لا حلّ طالما استمر هذا الخلل الخطير المتمثل في الفارق بين حجم الصادرات وحجم الواردات: 642 مليون دولار مقابل 7456 مليون دولار في العام 1997، و716 مليوناً مقابل 7060 مليوناً في العام 1998.
هذا يقود، بالضرورة، إلى مناقشة »المزاج اللبناني« الذي يقوم على مجموعة مرتكزات مضادة للمنطق أبسطها أن الإنفاق لا علاقة له بالدخل، وأن الاعتراف بواقعه الفقير يسقط عنه الكرامة والعزة والعنفوان، وأن من حقه أن يستمتع بحياته وعلى غيره الدولة، مثلاً أن يدفع الفارق، أي الدين،
ذات يوم لا بدّ أن يُصدم هذا المزاج، وبقسوة، ترد المواطن إلى وعيه، وتلزمه بأن يعترف بعلم الحساب، وأن الله أو الدولة أو كل الآخرين لا علاقة لهم بسداد ديونه، أو بتأمين رفاه حياته من دون أي جهد يبذله.
ذات يوم لا بدّ أن تواجه الدولة مسؤولياتها،
.. ولا بدّ أن يواجه المواطن حقائق حياته،
فلا تظل الإدارة الحكومية تكية للعاجزين أو للمتبطلين الذين يفرضهم أصحاب السلطة أو المتسلِّطون، ولا تظل الدولة تدفع أكثر من طاقتها لمن لا يعملون ولا يستحقون، ثم تعجز عن مواجهة المتطلبات أو عن القيام بدورها الأساسي والذي لا يعوّض في الإنماء وتنشيط الدورة الاقتصادية وحماية الانتاج،
ولا يظل المواطن مضيّعاً بين وظيفة لا تؤمّن له مستقبله، وبين حقه في فرصة عمل تتناسب مع مؤهلاته في وطنه وتوفر له الحياة الكريمة،
ولا يظل، على وجه الخصوص، معلّقاً بحبال الوهم التي تصوِّر له أن دخله لا علاقة له بعمله، وأن إنفاقه لا علاقة له بدخله، وأن المال العام إنما وُجد ليُنهب وأن ما يناله هو منه ليس أكثر من فتات إذا ما قيس بما »يشفطه« الكبار، رؤساء ووزراء وأصحاب نفوذ وأصحاب رساميل وأصحاب خبرة في »السرقة المشروعة«.
… والعهد الحالي، بتركيزه على السلوكيات الأخلاقية، وعلى احترام القانون، قد يكون الأكثر أهلية لإحداث مثل هذه الصدمة الضرورية، سواء من خلال موازنة الدولة المثقلة بالديون ووجوه الهدر على الوظائف الوهمية، أو عبر »إقناع« المواطن بأن الدولة ليست خزينة بلا بوّاب، يأخذ منها القادر بغير حق، بينما يعجز الضعيف عن نيل حقه،
والأخطر: أن نلزمه بإعادة النظر في نمط حياته الذي لا توازن فيه إطلاقاً بين الدخل والإنفاق، لأنه يفترض دائماً أن ثروة ما ستهبط عليه، ذات ليل، فتسدد عجزه المتفاقم وتتيح له أن يعيش دائماً كغني محتمل مهما كانت درجة فقره ثابتة ومؤكدة.

Exit mobile version