طلال سلمان

تنتظرنا أيام أخرى صعبة

تقرأ ما يكتبون وما يذاع في أمريكا وبعض دول الغرب عن عالم يعيش حرب أوكرانيا فتتخيل أنك مطالب بأن تزهو بزهوهم وتعيش في أوهامهم. أنت مطالب بأن تؤمن إيمانا قويا بأن التاريخ انتهى فالغرب مكتسح بقيمه وقوته وأحلافه ولا مكان فيه لدخيل أو لجديد إلا بإذن من الولايات المتحدة ولدور تحدده. مثلا، لم أجد في معظم ما كتب هناك وأُذيع من ردود الفعل على نتائج القمة الأفريقية الأمريكية إلا المبالغة أو القصور المتعمد أحيانا في الفهم والتفسير. اختلفت قراءتنا عن قراءتهم للنتائج. كنا قبل انعقاد القمة على علم بأنه لم تكن لدى الولايات المتحدة سياسة مستقرة ومعروفة تجاه إفريقيا، وبعد القمة ازدادت قناعتنا الأولى رسوخا ليس فقط بأن أمريكا لا تهتم كثيرا بإفريقيا ولكنها أيضا ليست معنية بصنع سياسة خاصة للمستقبل تهتم بهذه القارة. بدت لنا أمريكا وهي تصر هنا  في إفريقيا كما في غيرها على اجترار التاريخ وفرضه بالقوة .

أظن، ولا أعتقد أنه ظن خائب، أن زعماء القارة الذين لبوا الدعوة لحضور هذه القمة في واشنطن لم ينتظروا أن تسفر القمة عن نقلة إيجابية معتبرة نحو صيغة مختلفة ومضمون بناء. قليلون راودهم الأمل في أن تكون الحرب الأوكرانية لفتت الانتباه الأمريكي إلى أهمية الإصغاء إلى زعماء القارة قبل فوات الأوان. أغلبهم راحوا إلى المؤتمر وكلهم ثقة وعلى يقين بأن واشنطن، على مختلف مستويات المسئولية فيها، إنما تدعوهم لتلقنهم درسا في مزايا الديموقراطية الليبرالية وفي مساوئ النموذج الصيني بعد أن اكتشفت المدى الذي وصلت إليه الصين في سباقها مع الغرب على ثروات ومقدرات القارة. ذهب زعماء إفريقيا إلى واشنطن يصحبهم الاقتناع  بأن أمريكا تريد التأكد من أن إفريقيا لن يؤول النفوذ فيها إلى أي من الصين وروسيا، أمريكا كعادتها تريد أن تحصل من القمة مقدما على التزامات على هذه الدرجة من الأهمية، والأفارقة كعادتهم انتظروا أن يحصلوا بدورهم على التزام قوي بأن تسعى واشنطن إلى تخفيض أو إلغاء ديونهم الخارجية. لم يقدم الأفارقة التزاما بوقف التعاون مع الصين وروسيا في مجالات استكمال البنى التحتية ولم يحصلوا على وعود جازمة بدعم اقتصادي من جانب الولايات المتحدة.

واقع الأمر يعلن صراحة أن إفريقيا ليست بأهمية شرق آسيا في الاستراتيجية الأمريكية. يعلن أيضا بلغة واضحة وصريحة أن أوروبا لم تعد تحظى بموقع الأولوية في قائمة الاهتمامات الأمريكية. هناك من توقع انحسار أهمية أوروبا في الاستراتيجية الأمريكية نتيجة التطورات الناجمة عن حرب الرئيس بوتين ضد أوكرانيا. لكن في الوقت نفسه كان هناك من يقول أن هذا الانحسار ليس جديدا أو طارئا وغير ناتج عن حرب بوتين، بل كان علامة مميزة من علامات عهد الرئيس دونالد ترامب. نذكر جيدا كيف كان الرئيس ترامب يتعامل مع زعماء أوروبا بينما تعامل مع قضايا وزعماء شرق آسيا بطريقة مختلفة. تدخل ترامب بكثافة ليحاصر الصين وتفاوض بحماسة مع  رئيسي الكوريتين ومع اليابانيين. نذكر في الوقت نفسه ونقارن تعامل إدارته مع مشكلات وقضايا إفريقيا وتعامله الشخصي المهين والمحقر أحيانا لقادة إفريقيا وللقارة عموما.

انتهى العام ساحبا وراءه عددا من الصدمات ليسلمها لعام جديد. بين هذه الصدمات ما يصلح ليتحول إلى موجات وعواصف تطيح بآمال وطموحات كثير من الدول والبشر. أختار منها هنا على سبيل المثال بعضا أعتقد أن لأمريكا ودول أخرى في الغرب ومنها المملكة المتحدة دورا في صنعه.  اخترت الحرب التي يشنها فلاديمير بوتين على أوكرانيا. اخترت أيضا الأزمة الاقتصادية العالمية، وهي الأزمة التي لا يمكن لفداحتها وتعقيداتها أن يكون للدول الأقل حظا في التقدم ونصيبا في الثروة دورا في صنعها ولكن نصيبها من الأزمة وتداعياته عظيم بكل الحسابات والقيم. خلف العام لعام يليه بالضرورة والحتمية، خلف حال اكتئاب يصفه متخصصون بغير المسبوق من وجهة نظرهم. بعض هؤلاء المتخصصين يعتقدون باستحالة تفاديه وصعوبة التفلت منه. أما كيف استحكمت بعض حلقاته فقد جاءت الإجابة على لسان صديق هو خبير في علم نفس الجماعات والأمم إن صح التعبير، يقول “نحن نقف على أعتاب مرحلة ممتدة من عدم الاستقرار وتراجع الأداء ونقص في الأمان والأمن. الكساد والاكتئاب مجتمعان في مرحلة واحدة. صعوبات جمة تواجه صناع القرار على كافة مستوياتهم”. يبالغ الصديق الخبير فيضع الفرد العادي في صدارة فئة صناع القرار لينتقل من هناك إلى التنبؤ بزيادة هائلة في عدد وحجم الاحتجاجات الفئوية وفي عدد ونوع الانفراطات الاجتماعية ابتداء بالعلاقات العاطفية ومنها العلاقات الزوجية وصولا إلى ما يقارب من حال الفوضى الشاملة. لن أصدق نبوءته ولكني لا أرفض كل احتمالات تحققها في أشكال وتصرفات غير مألوفة.

ليس بيننا على ما أظن من ينكر أن البشرية تعيش هذه الأيام تحت سحابة التهديد النووي المتبادل. رعونة لم نألفها وكان الظن أنها اختفت. الواقع المعاش يؤكد أنها موجودة بل ويضاعف من الإحساس بوجودها حال عدم الاستقرار على كلا المستويين، المستوى الدولي والمستوى الإقليمي. نشهد من تداعيات هذا الوضع انكشاف درجة الأنانية التي صارت تتحكم في معظم عمليات صنع القرار في الدول الكبرى. نشهد أيضا إصرار سياسيين وإعلاميين عديدين في دول الجنوب على إطلاق تهمة النفاق وازدواج القيم على ممارسات وقيم الساسة وبخاصة في دول الغرب. نسمع  مسئولين أفارقة يحذرون ضد عودة الاستعمار الغربي إلى إفريقيا مشحونا بطاقة هائلة من العنف والنفاق والعنصرية المكشوفة، وبالفعل صدر عن المفوضية الأوروبية مؤخرا ما ينبئ بدعوة دول الاتحاد الأوروبي للعودة لانتهاج سياسات استعمارية، وفي المقابل نشهد ميلا متزايدا لدى النخب السياسية في دول نامية لاتخاذ مواقف تتحدي بها الهيمنة على مقدرات شعوبها وترد على استفزازات الغرب، آخرها مواقف للسعودية ودول في إفريقيا والهند بل وفي بعض دول الجوار الأمريكي.

تحدث الرئيس الصيني عن عواصف خطيرة قادمة وأعمال استفزاز  وتدخلات غربية سافرة. أتفهم ما قاله. فمن موقعي ومتابعتي لمراحل الصعود الصيني أستطيع أن أؤكد أن قيادات الحزب الصيني التزمت توصيات الرئيس دينج تشاو بينج لخلفائه أن يصعدوا بالصين على المهل وبدون ضجة. وهذا ما فعلوه. صعدوا بهدوء، بل وصعدوا تحت مظلة التعاون مع أمريكا في ميادين عديدة وظلت واشنطن راضية بهذا الصعود حتى وقع اكتشاف  الأمريكيين للانحدار المتدرج في القوة الكلية لبلادهم بالنسبة للصعود المتدرج للقوة الكلية للصين. هنا عادت أمريكا لتثير للصين الزوابع وتمارس شتى أنواع الاستفزاز وفي صدارتها الاستفزاز الدبلوماسي والتدخل في الشئون الداخلية مثل الوضع في سنكيانج والتبت وعلاقة جزيرة تايوان بالوطن الأم.  حدث ما حذر منه الرئيس دينج وما أوصى بتفاديه وهو الصدام مع الغرب قبل أن يكتمل الصعود. لا شك عندي في أن الرئيس شي يتوقع أذى قريبا من جانب قادة الولايات المتحدة في الشهور المتبقية من ولاية الرئيس بايدن  أو في ولاية رئيس جمهوري قادم إلى البيت الأبيض بعد عامين.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version