طلال سلمان

28 ايلول فلسطيني

الحشد أعظم لكن المهابة أقل.
وبرغم أنه »أكبر تجمع دولي وعربي« فإن الاهتمام به ظلّ أقرب إلى مجاملة الداعي منه إلى الحفاوة باللحظة التاريخية.
بعد المصافحة الأولى لا يعود مهمù الاطمئنان على صحة الأولاد، بين عدوين سابقين، وإلا »تشرشح« الصلح وامتُهنت قيمة »السلام«.
المصافحة الأولى تدخل التاريخ، أما المصافحة الثانية فتجيء من الجغرافيا لتطمس بعض التاريخ.
في أي حال فقد أراح »المجتمع الدولي« ضميره، أمس، وهو يشهد في البيت الأبيض الأميركي على »التوقيع الفلسطيني الثاني« الذي يسمح ونهائيù بطي الملف الثقيل والدامي لواحدة من أخطر قضايا العصر، والأخطر بالتأكيد بعد الحرب العالمية الثانية وعلى امتداد النصف الثاني من هذا القرن، وأعظمها شعبية على امتداد الكرة الأرضية: فلسطين، جوهر الصراع العربي الاسرائيلي وعنوانه.
لا يملك المهزوم غير توقيعه، ولقد أعطاه،
أعطاه على الورق، على الخرائط، على الأرض، على الأحلام والأماني وذكريات الزمن الجميل.
ولن تخفّف تواقيع الشهود الكثر من كبراء العالم و»أشراف« العرب، من وقع الهزيمة، ولا هي ستبدل من طبيعة التوقيع الفلسطيني الثاني المؤكد للتوقيع الأول والذي يحدد دلالاته بالدقة وبغير أوهام، وإن بكثير من الإبهام المقصود.
ليس ذلك الذي جرى الاحتفال به، أمس، بمختلف عما جرى الاحتفال به قبل عامين: النصر للمنتصرين وحدهم، ولن يفيد إلا القادر على استثماره من أجل انتصارات جديدة.
ولقد أخلى »عرب التواقيع« طرفهم من المسؤولية، رسميù وأمام عيون العالم بأجمعه: أخرجوا أنفسهم من فلسطين، وأخرجوها منهم وسلّموها »أمانة« للإسرائيلي، تحت الرعاية الأميركية.
لذلك ليس مستهجنù أن تكون النروج أكثر حرارة في التعامل مع »المستقبل الفلسطيني« من السعودية، مثلاً أو الكويت، وأن تكون اليابان معنية ومهتمة بدورها في هذا »السلام« اكثر من الجزائر أو اليمن أو العراق،
بشهادة العالم كله، وبما أمكن جمعه من التواقيع العربية والشهود العرب، باتت فلسطين شأنù داخليù إسرائيليù. هو بالأصل شأن أمني، وبالأمن يمكن التحوّط للمفاعيل السياسية. لذلك كان شرطù ضروريù أن يدين عرفات »الارهاب« بعبارات أعنف من تلك التي استخدمها »شريكه« إسحق رابين الذي أقر به »جارù« ولكنه ما زال يضن عليه باللقب الفخم المشتهى: الرئيس!
»لقد تحقق الأمن لكل بيت في إسرائيل«،
هكذا قال كلينتون مفتتحù مهرجانه الانتخابي من أجل ولاية جديدة سيكون الفضل فيها، لو تحققت الأمنية، عربيù بشكل عام مع منزلة خاصة »للصوت الفلسطيني« الذي يجيء تعزيزù لقدرات الصوت الإسرائيلي المرجح.
أما شمعون بيريز، الذي يسكنه هاجس التاريخ واعادة صياغة الحلم الصهيوني بحيث يصير واقعù جغرافيù وسياسيù واقتصاديù صلبù، فقد اغتنم المناسبة لكي يعلن توسيع ارض الميعاد لتشمل الشرق الاوسط برمته وليس فلسطين وحدها مع تلك الاطراف المتصلة بها جنوبù الى نهر النيل وشرقù الى نهر الفرات.
لقد انضوى »الجيران« الاقربون في »المشروع« وسلموا باسمه الجديد (برغم انه يلغي اسماءهم!!) ووظيفته المبتدعة، والاهم: بقيادته الاسرائيلية.
انها حقù »احدى اكبر الفجوات في التاريخ«.
لكن المطلوب، كما يقول الاميركي ويطلب الاسرائيلي ويتمنى المصري والاردني وصاحب التوقيع الفلسطيني، أن يؤتى بسوريا ومعها لبنان الى »حلقة السلام«.
والكل يفترض ان الامر بات ممكنù الان، وبعدما عزز »عرب الاحتفال« الحصار على الحصن الاخير المتمرد، والذي سيواجه بعد الان ضغطù ثقيل الوطأة من حيث كان يتوقع الدعم والمساندة، أو الصمت وهو اضعف الايمان.
على ان الاحتفال لا يغري كثيرù بدليل ان شبكات التلفزيون الاميركية وجدت ان محاكمة الرياضي الاميركي او. جي. سيمبسون اكثر اثارة منه، فانصرفت عن حفل التواقيع المهيب الى نقل دفوع المتهم بالاغتصاب والقتل.
الذي لا يستعجل اكتمال الهزيمة يستطيع الانتظار. والذي يتعامل مع التاريخ ويعترف بالناس يستطيع ان يراهن على احتمالات التغيير والهوامش التي قد يتيحها صراع المصالح بين الاقوياء. وفي كل الحالات فلا شيء يستحق التلهف على طلبه، فعرض اللاشيء سيظل مفتوحù امام الراغبين.
28 أيلول 1961
28 أيلول 1970
28 أيلول 1995
المصادفات القدرية تجيء، أحيانù جليلة يحف بها ما يليق من الحزن النبيل.
والمناسبة الجديدة تليق بالحزن الجليل على الزمن الجميل الذي انطوى ومعه احلامه وبطله، في اليوم نفسه بالتحديد، وربما في الساعة نفسها.
لقد صار لمدمني الحزن العربي المعتق ثلاث مناسبات تاريخية في يوم واحد: سقوط اول دولة للوحدة في العصر الحديث، وهزيمة اول مشروع ثوري في مواجهة الغرب الاسرائيلي او اسرائيل الغربية، وانطفاء جذوة القضية الجامعة الاقدس، فلسطين.
انه عصر اخر، يحتاج نمطù مختلفù من الرجال والأفكار والمؤسسات.
ولعل اقتراب دائرة الهزيمة من الاكتمال يكون الموعد لمراجعة شاملة تفتح الباب المرصود لغد خارج المشروع الاسرائيلي.

Exit mobile version