كانت الأمة تعيش حالة حداد، وملايينها العديدة المتناثرة على الرقعة العربية الشاسعة في ما بين المحيط والخليج غارقة في غمار الحزن والفجيعة، عندما تقدم حافظ الأسد ليصحح مسار الحكم المدموغ بالتهور والارتجال، ومنطق التوريط والمزايدة الذي كان قائماً في دمشق، في مثل هذا اليوم قبل ست وعشرين سنة.
كان جمال عبد الناصر قد رحل في 28 أيلول 1970، أي قبل تسعة وأربعين يوماً، تاركاً خلفه فراغاً مخيفاً وإحساساً متفاقماً باليتم والضياع، خصوصاً أن رحيله جاء بينما العرب جميعاً يترقبون عودته (ومصر) إلى ميدان المواجهة مع العدو الإسرائيلي »لإزالة آثار العدوان« ومسح نتائج الهزيمة المريعة في 5 حزيران 1967.
في البداية، افترض الناس أن انقلاباً جديداً قد وقع في سوريا فسلَّّم الحكم للعسكري الأقوى، وهو مَن كان، آنذاك، وزيراً للدفاع وقائداً لسلاح الطيران.
ظلت الأنظار مشدودة إلى القاهرة، وظلت الخواطر نهباً للقلق: هل سيعوّض »رفاق« جمال عبد الناصر الخسارة بغيابه المبكر؟! هل سيكملون المسيرة؟! وهل يبقى العرب صفاً واحداً بعدما غاب القائد والمرجع؟ وهل ستبقى فلسطين عنواناً لقضيتهم وحافزاً لوحدتهم وإطاراً جامعاً لصفوفهم، وطلائعها المقاومة ما تزال تنزف دمها في عمّان الهاشمية، وأرتال الفدائيين تخرج من المملكة إلى الضياع، حتى أن بعضهم لم يتورع عن اللجوء إلى العدو الإسرائيلي ذاته بدافع اليأس قبل طلب النجاة؟!
وكان أمام حافظ الأسد رحلة امتدت حتى حرب تشرين التحرير لكي يثبت بالقرار الشجاع والدم المقدس والحنكة السياسية، أنه صاحب مشروع قومي خطير، وأنه »قائد« يملك رؤية تاريخية، ويعمل لها بدأب وبإصرار وبصبر وبإيمان ثابت لا يتزعزع.
* * *
يعرف الناس الكثير عن حافظ الأسد كأحد الأذكى والأدهى والأصلب بين الرؤساء في العالم كله، وليس في الوطن العربي فحسب.
يعرفون عن المعارك الهائلة التي خاضها، على جبهات متعددة، وضد قوى عاتية، عربية ودولية، إضافة إلى إسرائيل،
وهم قد تابعوا بإعجاب اضطرهم إلى التسليم بكفاءته العالية بالنتيجة، كيف واجه الحصار القاسي، ثم كيف خرقه محققاً انتصارات تفوق التوقع على محاصريه، وقد كان بينهم أطراف عربية مؤثرة بقيادة أنور السادات تارة، وقيادة صدام حسين طوراً، وغالباً باستخدام الوهج الفلسطيني عن طريق استدراج ياسر عرفات، أو بالافادة من خصومته الثابتة للتوجهات القومية، أو بتثمير خوفه من الدور السوري المتميز في القضية الفلسطينية وأثر ذلك على زعامته.
هذا كلام في الماضي، لكن ذلك الرصيد الكبير من النجاحات، عربياً ودولياً، قبل أن نصل إلى حديث الداخل، هو الذي يقدم حافظ الأسد اليوم بوصفه رجل المستقبل.
فأما الداخل فليس من المبالغة في شيء أن يوشح حافظ الأسد بوسام »باني سوريا الحديثة«.
لقد نجح هذا القائد الفذ في تحويل بلاده الصغيرة (نسبياً) والفقيرة والولودة، إلى واحدة من الأكثر تقدماً بين دول العالم الثالث، محققاً فيها إنجازات باهرة على صعيد استكمال البنية التحتية:
ففي سوريا الآن أربع جامعات ذات مستوى طيب، وقد وصلت المدرسة والطريق والمياه والكهرباء إلى كل قرية تقريباً، وامتدت شبكة مواصلات ممتازة واصلة أطراف سوريا بعضها ببعض، وتستكمل الآن شبكة اتصالات هاتفية بامتداد البلاد.
وفي سوريا من المستشفيات وأسباب العلاج ما يكفي ويزيد، ومستوى الطبابة جيد.
كذلك، فقد حققت سوريا فائضاً في إنتاج القمح والمواد الغذائية عموماً، محققة نهضة زراعية لا يتورط أي مكابر في إنكارها، وانتشرت السدود الصغيرة في مختلف الأنحاء لاستثمار كل قطرة مطر، إضافة الى سد الفرات وأثره البارز على إنعاش شرق البلاد.
ولعل في مقدم عوامل صمود سوريا هذا الفائض في إنتاجها الزراعي، وبالذات القمح، الذي عصمها من الارتهان للضغط الأجنبي الذي طالما وظّف الحاجة إلى الرغيف لإلغاء الاستقلال السياسي للعديد من البلدان.
* * *
إن سوريا، اليوم، وباعتراف الجميع، قلعة الصمود العربي.
ولقد تخطى الإعجاب بصلابة حافظ الأسد، وبذكائه، وبدوره المتميّز كقائد سياسي محنّك، وبثقته الفائضة بنفسه وإحساسه العميق بمكانته التاريخية، حدود سوريا ليصل إلى مختلف أنحاء الوطن العربي… كذلك فهو قد أعطاه الحق بموقع دولي متميز.
ليس تفصيلاً أن يكون أربعة من الرؤساء الأميركيين قد سعوا إلى لقاء »عدوهم« حافظ الأسد، ودائماً في »أرض محايدة« أو في دمشق ذاتها، بينما لم يذهب إلى أي منهم في واشنطن،
وليس تفصيلاً أن يكون بعض كبار السياسيين والكتّاب والصحافيين الغربيين، والأميركيين تحديداً، وفي طليعتهم هنري كيسنجر وجيمس بيكر ووارن كريستوفر قد كتبوا أو قالوا في حافظ الأسد شهادات تدل عن عقيق التقدير لحكمته، وتكشف إعجاباً استثنائياً بدقة قراءته السياسية وتنبهه المبكر للتحولات المذهلة التي غيّرت خريطة الكون.
* * *
بعد ست وعشرين سنة من قيادة سوريا، يتصدّر حافظ الأسد الصف الأول للرجال الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الأحداث في نهايات القرن العشرين، عربياً.
وتبدو سوريا الآن، وتحت قيادة حافظ الأسد، بين الدول التي تعدّ نفسها لدخول القرن الحادي والعشرين مستشعرة أهليتها بالدور الكبير الذي يفوق مساحتها الأصلية ودخلها القومي المتواضع.
إن حافظ الأسد أكبر بكثير من صورته.
وأبرز ما في حافظ الأسد أنه إنما يكبر ببلاده وبأمته، وليس عليها.