زمن الصحو بعيد، بعد، فالكابوس الذي ولدته »غزوة صدام« قبل ثماني سنوات يمتد ويفرد ظلاله الثقيلة السواد على اليوم العربي، ويكاد يحتل مساحة الغد العربي بحيث يجيء، إن هو جاء، مشوهاً ومعتلاً وكسيحاً وبلا روح.
ذهب العراق، ولم تعد الكويت،
ذهب »الموقف العربي«، بثوابته المفترضة وركائزه المنطقية ومصالحه الحيوية، ولم يعد »التضامن العربي«، ولو بحده الأدنى،
تهاوت مؤسسة »القمة العربية«، فلم يعد الحكّام يجدون الحافز أو المبرّر الكافي لعقدها، بالعراق أو من دونه، بل هي صارت عبئاً يهربون من تبعاته المكلفة،
ذهبت »قضية فلسطين«… دخل القليل من شعبها المشتت خارجها إليها، لكن الأكثرية الساحقة من ذلك الشعب دخلت عصر الشتات الشامل، فكريا وسياسيا، كذلك فإن معظم مساحة أرضها قد انطوت تحت الاحتلال الإسرائيلي، من دون أمل بالتحرر ذات يوم، مهما رفعت »السلطة« من أعلام فوق »البرزخ« الذي أوكلت إسرائيل حراسته إلى من كانوا رواداً على طريق التحرير، وبالكفاح المسلح،
ذهب نفط العرب فلم يعد للعرب منه حتى ما كان قد بات في أيديهم، ولم يعد ممكناً أن نتخيل ولو بالخيال قرارا كالذي اتخذ في تشرين 1973، بالحرب أولاً، ثم بوقف تصدير النفط العربي دعماً للحق العربي في تحرير إرادتهم واستعادة أراضيهم المحتلة والحد من مخاطر المشروع الصهيوني على مستقبلهم.
ذهبت أرصدة العرب، المجمدة أو الموظفة (في استثمارات خارجية)، المالية منها والسياسية، الاقتصادية والعسكرية، والأهم: ذهب معظم الرصيد الذي لا يعوض من العلماء والخبرات والمصانع والتجهيزات التي كانت تهيئ لنهضة كانت تعد بما يخالف المألوف.
ذهبت »قيمة« العرب، أو ذهب وزنهم على الصعيد الدولي،
والأهم، ذهب احترامهم لأنفسهم، وإيمانهم بقدراتهم، وصارت »الهرولة« الى الصلح الإسرائيلي بلا قيد أو شرط »مخرج نجاة« للعديد من حكّامهم الذين فرحوا واحتفلوا بانتهاء زمن »الصراع« واعتبروا الهزيمة قدرا لا يرد، وان الإسرائيلي جبار لا يقهر، ولا بد بالتالي من الخضوع لهيمنته باعتباره »الغرب كله«، و»العلم كله« و»الحداثة كلها« والقوة المطلقة من القنابل النووية الى التقنيات العالية الى الزراعة المطورة إلى النموذج الفذ للديموقراطية الخ..
ولقد خسر العرب على جبهتي الحرب التي أطلق عليها تمويهاً اسم »حرب الخليج الثانية«،
خسر الذين قامروا على صدام حسين، وساندوه، وزينوا له »غزوته« باعتبارها انتقاما وتأديبا لأولئك الذين هربوا بثروة الأمة من فقرائها الذين يشكلون الأكثرية الساحقة،
ولم يستطع أولئك الذين حاولوا، وبمنطق تحديد الخسائر، التخفيف من حدة »التدخل الدولي« بمشاركة عربية رمزية، إنقاذا لهوية الخليج العربية، إذ كانت الموجة العاتية أعلى من قدراتهم، وكان القرار المتخذ بمعزل عنهم، وبالرغم منهم، يأخذ بعض »النصر« الذي حققته القيادة الأميركية في لحظة هيمنتها المطلقة على العالم الى إسرائيل »مكافأة« لها على عدم تدخلها في حرب تدمير مصادر القوة العربية، موقفا وسلاحا ونفطا وإمكانات اقتصادية.
وجاء »مؤتمر مدريد« كجائزة ترضية للعرب المهزومين على الجبهتين: في الكويت كما في العراق، بل في كامل المنطقة العربية،
وها مؤتمر مدريد، بعد ثماني سنوات من الغزوة التي أنجبت حربا مدمرة للقدرات العربية، ذكرى شاحبة من الماضي، لا أفق له، وكل الآمال التي علقت عليه سقطت اغتيالا بالرصاصات التي قضت على إسحق رابين، علما بأن ذلك المؤتمر كان قد تلقى صدمة عنيفة بسقوط مهندسه الأصلي: إدارة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش ومعه وزيره جيمس بيكر.
والاهم: كانت قدرة العرب على تحقيق الحد الادنى مما يأملونه منه قد ضربت بتوزيعهم الى مسارات منفصلة وممنوع عليها التلاقي!
***
الصورة اليوم وبعد ثماني سنوات من تلك الغزوة الكارثة مفزعة،
انفرط عقد العرب، وذهب كل في اتجاه، وتخلى الجميع عن شعاراتهم الاصلية: لا جامعة عربية تضمهم جميعا على قاعدة الحد الادنى او سيروا بخطى اضعفكم، ولا »جبهة صمود وتصدي« تجمع »دول الطوق«، ولا دول مواجهة ودول مساندة، ولم تعد فلسطين »قضيتهم«، وشجرت خلافاتهم حتى حول القدس،
كذلك لم يكسب العرب »صداقة« الولايات المتحدة، ولا هم يملكون الآن الحد الادنى من التأثير عليها، او التخفيف من ثقل الضغط الاسرائيلي الذي تحول الى سيطرة شبه مطلقة على القرار الاميركي في ما يتصل بالصراع العربي الاسرائيلي،
ومع »اختفاء« الاتحاد السوفياتي، الذي شكل ولفترة طويلة رافعة سياسية عسكرية اقتصادية ممتازة للموقف العربي القائل بالتحرر والتحرير، فقد العرب المزيد من اسباب قوتهم ومن توازنهم السياسي، ومن احتمالات تطورهم.
كذلك فإن العرب الضعفاء والممزقي الصفوف والمحتربين في ما بينهم لم يستطيعوا وما كان ممكنا ان يفيدوا من اوروبا، او ان يعززوا سعيها الى التوازن، سياسيا، كصديق محتمل وان كان التحالف معه ظل مستبعدا دائما.
***
انه الشلل العربي الكامل.
لا قدرة على الحرب، وبالتالي لا قدرة على تحقيق السلام او بالاحرى التسوية،
لا قدرة على المناورة، ولا وزن سياسياً يسمح بعقد »صفقة« مقبولة، فالضعيف العاجز عن الحرب لا يستطيع انجاز مهمة اصعب مثل »السلام«،
… وضعفهم يضيف الى التطرف الاسرائيلي، ممثلاً بنتنياهو، قوة وتجبرا، فيواجه العالم كله بعجز »عدوه« اكثر مما بقوته الذاتية… وهذا ينطبق على الادارة الاميركية، كما على اوروبا، ناهيك بروسيا التائهة عن ذاتها، و»الدول« التي خرجت من الاتحاد السوفياتي نثاراً او مساحات مفرغة مفتوحة للقادر على أخذها.
انها لوحة قاتمة: أمة مفككة، مبعثرة، تائهة عن نفسها وعن مصادر قوتها، محرومة من حقوقها كدول وكشعوب وكأفراد، لا تثق بنفسها وبقدراتها، ولا يثق بها الآخرون، لا تحترم نفسها ولا يحترمها الآخرون.
لا مدريد ولا بديل متاحاً من مدريد، ولا قدرة على »التمرد« ومن ثم »المواجهة«.
اوضاع معلقة على المجهول، ومصائر غامضة تتوقف على صحة القائمين بالامر، لا دولهم دول حقيقية، ولا مؤسساتهم مؤسسات قادرة على التأثير، ولا شعوبهم هي المرجع او مصدر القرار،
بعض اقطارهم مهددة بالتمزق، نتيجة لحروب اهلية معلنة او مستترة،
وبعضها الآخر مهمش ومعزول نتيجة فقره وانعدام الموارد الاولية فيه،
وبعضها الذي كان غنياً بات حديثه المفضل العجز المتفاقم في موازنته!
والبعض القليل الصامد يكاد يكون معزولا، يخافون منه اكثر مما يخافون من اسرائيل، ليس فقط لانه يكشفهم، بل لانه يفضح هرولتهم ويحد منها ويعطل استعدادهم للتسليم بهيمنة نتنياهو ذاته.
***
ذهب العراق ولم تعد الكويت،
ذهب مدريد ولم تعد الأرض المحتلة، وطبعا لم يأت السلام!
ذهبت القضية ولم تعد فلسطين،
ذهب النفط ولم تسلم الجزيرة والخليج، بل سقطت في براثن الحماية الدولية خوفاً من الغزو العربي،
ذهبت العروبة، او تكاد، وبقيت الانظمة المهزومة، على الطرفين،
مع ذلك فهو »كابوس« طال واستطال، ولكنه سينتهي ذات يوم،
فليس من عربي واحد ما بين المحيط والخليج راض عن وضعه، الشخصي او الوطني او القومي، السياسي او الثقافي او العسكري او الاقتصادي،
ولعل اليأس او العجز المطلق هو المصدر الاساسي للامل باليقظة العربية الثانية الآتية بلا ريب، ولو بعد حين…