طلال سلمان

يوم آخر من أيام العمر

تلقيت رسالة من صديقة عاشت ضمن حياتي لحظات كثيرة. كتبت تقول “كتبت عني في مقال لك عن تطور هام في مسيرتك دون أن تكشف عني. كان لي دور وأنت أشرت إليه. أليس حقا لي أن يعرف غيرنا عن هذا الدور ما تعرف أنت ويعرف من كانوا معنا وبعضهم ما يزال يملأ الدنيا نشاطا وصخبا”. نعم صديقتي العزيزة. من حقك أن أعلن الاسم وليس من حقي أن أخفيه عن عمد ولكن دعيني أعترف لك ولغيرك أني حاولت ولم أفلح في كثير من الحالات. لست وحيدا في هذا المضمار، هكذا أحبط كل كاتب عاش كتوما أو حافظا لأسرار من اختلط بهم من الناس أو عاش بعض حياته في صحبتهم. انتقدني أصدقاء قرأوا قبل ربع قرن “حكايتي مع الدبلوماسية” حيث اختفت معظم الأسماء. أظن أني تحسنت بعض الشئ على مر السنين ربما لأني كثيرا ما أتشاور مع من يخصهم أمر أكتب فيه أو لأن ذاكرتي فقدت بعض لمعانها فصرت لا أتردد في طلب المساعدة من آخرين عرفوا كيف يحمون الذاكرة.


استيقظت ذات يوم من أيام عام 1994 على ألم تحملته لساعة أو أقل حتى صرنا في السادسة وصار غير محتمل. أيقظت رفيقتي كاتما أمامها كعادتي أغلب الألم وراغبا في الانتقال إلى مستشفى. سمعتها تتصل بزميل لابننا وراحت تصف له الألم ليس كما ظهر لها مخففا ولكن كما قرأت حقيقته في قسمات وجهي وتهربي من نظراتها، وهي التي كانت دائما نفاذة ودقيقة. ازداد الألم قسوة. أذكر أن ممرضين ظهرا، أحدهما يحمل ما يشبه السرير المعدني سمعت فيما بعد أني رفضت أن أستلقي فوقه. وبالفعل نزلت الدرج مستندا إلى ممرض. فهمت وقتها، أو قيل لي بعدها، أن زوجتي لجأت لزميل ابننا بعد أن جربت أطباء متخصصين فلم يرد على اتصالاتها أحد منهم. كان اليوم جمعة وكنا في بدايته. تصادف أن الطبيب الشاب قضى ليلته بمستشفى خاص يعمل به متدربا وعرض أن يستقبلني فيها لإجراء الفحوصات الضرورية واتخاذ ما يلزم لوقف الألم. استطاع بسلطاته المحدودة إرسال سيارة إسعاف وفشل في حجز غرفة خاصة في قسم الرعاية المركزة وفي استدعاء أطباء متخصصين كبار حسب إصرار زوجتي التي لم تقتنع بحجة الجمعة كيوم عطلة أو أن الصباح ما يزال مبكرا.


أظن أنه تم عزلي تماما عن عائلتي والأصدقاء القريبين الذين بدأوا يتوافدون لتزدحم بهم صالة الانتظار. لم أكن واعيا بقية اليوم لتطور الأحداث داخل هذا المستشفى الصغير الواقع على مدخل إمبابة، الحي الشعبي الأشهر بكثافته السكانية وماضيه السياسي وحاضره الثوري، ولكني استطعت في الأيام اللاحقة تجميع عدد من الشهادات الحية والروايات المتداولة عما حدث في ذلك اليوم الذي وصفه أحد الأقرباء بأنه للعائلة كان يوما صعبا ومجيدا في آن واحد. أما أنا فقد اعتبرته وسجلته في أوراقي يوم بعث جديد. تعبير البعث الجديد لم أكن أنا صاحبه بل جاء على لسان أحد الزوار من بين قليلين قد يأتي ذكرهم في السطور التالية. أصر هذا الزائر على أن ينقل عن طبيب غير متخصص حضر لبعض الوقت قوله أن عمر هذا المريض كاد يفلت، ولعله بالفعل أفلت لبعض الوقت ثم أعيد بقدرة قادر.


سارت الأمور في المستشفى ببطء لا يتناسب ونفوس من حولي تغلي. زوجتي تطلب طبيبا أشهر وانتقالا على الفور إلى مستشفى دولي أحسن تجهيزا. أطباء المستشفى يرفضون الموافقة على اقتراح الانتقال فالحالة متدهورة والمريض غير واع لاتخاذ قرار. لا أحد في المستشفى مستعد لتحمل مسؤولية النقل. فجأة تغير الوضع. اتصلت ابنتنا الصغرى من البيت، أبلغت أمها أن الاستاذ فهمي هويدي اتصل بالبيت وطلب محادثة أبيها.. كان فهمي يتصل عادة ليتأكد عن صدق أو فحوى معلومة وردت في مقال لي. لم يكن فهمي هويدي وحيدا في تمسكه بهذه العادة. أنا شخصيا درجت على استخدامها منذ السنوات القليلة التي قضيتها في جريدة الأهرام وبخاصة بعد أن لاحظت أنها سمة من سمات الكاتب والصحفي المتميز. هيكل لم يتردد في استخدامها ولا بهاء الدين أو شباب الصحفيين اللامعين مثل مكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وصلاح الدين حافظ وآخرين تعلمت على أيديهم في مرحلة مبكرة من حياتي فنون مهنة رائعة.

اعتذرت الابنة للاستاذ فهمي بأن أباها في المستشفى وكانت تبكي. دقائق واتصل فهمي بزوجتي وسمع الشكوى من البطء وصعوبات فنية ونقص في الأدوية وعدم وجود طبيب. وعدها بالتصرف على الفور فهو صديق لرئيس المستشفى. بعد ساعة كانت المستشفى تغلي بالحركة والنشاط وزوار جدد منهم الاستاذ هيكل. سألت فهمي إن كان هو من أبلغ هيكل بحالتي. لم تسعفه الذاكرة وإن كان يعتقد أن زوجتي هي التي اتصلت به تطلب المساعدة. وصفت ابنتي الوضع في المستشفي في أعقاب وصول هيكل قائلة “تحولت المستشفى إلى ورشة عمل يقودها هيكل. وفي أحيان كان صوته يرتفع بالغضب فيسمعه الداني والقاصي في المبنى. سمعته يقول لطبيب مشهور وصل للتو مستدعى منه أن معه تكليفا من رئيس المستشفى بتولي المسؤولية كاملة”.


تردد عن سبب غضب الاستاذ هيكل أن الأطباء لم يجدوا في المستشفى الدواء الذي لا يستغني عنه طبيب معالج لحالة سكتة قلبية عنيفة. راح الرسل من العائلة والأصدقاء يبحثون في الصيدليات القريبة عن زجاجة أو مجرد جرعة. باءت بالفشل كل المحاولات بينما حالة المريض تتدهور إذ كان قد مضى أكثر من اثنى عشر ساعة منذ سددت الجلطة ضربتها الأولى. حل الليل وازداد عدد الزوار والأطباء والجميع في انتظار الدواء. مرت الدقائق ثقيلة قبل أن يهمس فيه أحد الحاضرين في أذن هيكل. عادت الابتسامة. نهض من مقعده واتجه إلى حيث كانت زوجتي في غرفة تخضع لعلاج أزمة ناتجة عن الخوف والقلق. قال إنه يأتي إليها بعد أن أطمأن إلى أن الدواء قادم في الطريق، يحمله الدكتور على هيكل نجله الأكبر والطبيب في مستشفى قصر العيني. هناك وجد الدواء.


بعد حقنة الدواء المضاد لتجلط الدم أعلن أشهر الأطباء المحيطين بالفراش أن المريض سوف يخضع لعزلة مدتها ثلاثة أيام، هي الفترة التي يتوقعون أن تتكرر الأزمة خلالها أو تزول الغمة. غادر الكثيرون وبقي قليلون لم تنفع معهم توسلات الممرضات. انتصف الليل أو كاد على بعض أفراد العائلة وأصدقائها بعد أن وزعوا الأدوار على أنفسهم. وبينما كان الأقربون إلى غرفة الرعاية بين النوم واليقظة ظهر بطول الباب وعرضه راهب برداء الرهبنة ورموز التقديس وهيبة الكنيسة وغموضها. عرف الحاضرين بنفسه “أنا الراهب أ.أ. من كنيسة ( ) بمصر القديمة. جئت أحمل رسالة للاستاذ ج. م شفاه الرب”. اقترب من الراهب أفراد في العائلة مرتعشون بالقلق ليهمس أحدهم في أذن الراهب مستفسرا عن هوية فحوى الرسالة وهوية المرسل فقوبل طلبهم بالاعتذار. ألحوا وأصر الراهب قائلا “الرسالة من مرسل لا يرفض له طلب”. تعمق الذعر في نفوس الحاضرين بينما ظلت ممرضة قوية الإيمان تحاول رفع الخوف وتهدئ الروع. راحت تشيد بالراهب ومكانته وتتوسل لدى العائلة للموافقة على أن يلتقي بالمريض في حضورها. وبالفعل تم اللقاء بين الراهب حامل الرسالة ومريض يكاد يكون غائبا عن الوعي. المثير في الأمر أن الذاكرة على ضعفها لم تمح إلى الآن صورة الراهب وهو يقرأ من الكتاب المقدس.


أمس، أي بعد مرور ما يقارب ستة وعشرين عاما وقبل أن أختم هذه السطور، دفعني الفضول مجددا. عدت أبحث عند أصدقاء عديدين عن مكان وحالة شخص بعينه كنا نتشارك في صداقته. حصلت بعد ساعات من الاستقصاء على رقم هاتف الكتروني واتصلت ودار حديث امتد ساعة في نهايته سألت “أنت أرسلت الراهب والرسالة؟” أجابت “نعم كنت أنا، ولست نادمة”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version