طلال سلمان

يوميات جدار برلين السوري

٤- عن هذا الديكتاتور الذي دخل رؤوسنا

قد يكون أسوأ ما تصنعه الديكتاتوريات هو احتلالها لرؤوس الناس التي تتحكم بمصيرهم لا تستثني منهم معارضاً، مؤيداً أو غير مبالي. داخل رأس كل فرد، يحتل الديكتاتور مكاناً ما، صورته نوع من الفلتر الذي يجعلنا لا نرى الأمور إلا من خلاله. يحصل هذا في كل البلادٍ الخاضعة لديكتاتوريات من اسبانيا فرانكو إلى تشيلي بنوشيه، لا سوريا وحدها.

الديكتاتورية تنتهك خصوصية الأفراد، تدخل بيوتهم وتجعل من كل جدار احتمال جاسوس، تتعدى على إنسانيتهم، تُفقِدُهمْ بعضها وتجعل من الحفاظ على ما تبقى منها مهمة محفوفة بالخطر.

وهكذا يُسبغ على “سيد الوطن” صفاتاً بطولية على يد مناصريه وأخرى شيطانية على المقلب الآخر. بين الاثنين نقطة مشتركة واحدة: رؤية البلد والعالم من خلال صورته، محبةً أم نفاقاً، رفضاً أو كراهية وبين الرؤى كلها يختبئ العقل محققاً للديكتاتور أهم أهدافه.

يستغرق الأمر وقتاً لا يستهان به لتحقيقه، وفي سوريا ثمة أجيال كاملة لم تعرف خلال حياتها إلا أحد رأسي النظام السابق أو الإثنين معاً. أجيال دُمغت حياتها ورؤوسها وشوِهَت كل مفاهيمها النفسية والاجتماعية. الخوف، المداهنة، احتقار الأضعف، الانصياع للأقوى، الكلام بمقدار، التأكد من هوية السامع لمعرفة ما يجب أن يقال… كل ذلك من وجوه الحكم المطلق ونتائجه على الناس.

في سوريا، وبعد معاناة شديدة، انقلبت الصورة. سقطت الديكتاتورية وستسقط معها عاجلاً أم آجلاً كل المفاهيم التي رافقتها. لكن هذا ليس بديهياً ولا آلياً ولا يكفي الاستناد إلى شعارات الشعب الواحد للاستكانة إلى المستقبل.

من المهم طبعاً نزع صورة الديكتاتور من الرؤوس وإزالة الخوف والرقيب الداخلي من آليات تفكيرنا. لكن الأهم هو ألا نستبدل صورة بأخرى وهذا تحدٍ كبير. لقد أتى الأسد الأب على جناح القومية والعروبة عندما كانت الحقبة تتسع لهذه المفاهيم. واليوم تأتي الحكومة الانتقالية على جناح الثورة السورية التي أعطتها شرعيتها الشعبية، ولأنها نجحت بأيادي وتنظيمات إسلامية مقاتلة، فهي تستند إلى جدار الإسلام القوي والشعبي. لكن هذا الخلط بين الحكم والإسلام شديد الخطورة. الإسلام دين غالبية المجتمع لا كله، وعلى الناس أن تقول ما اذا كانت ترغب أن يكون مصدر التشريع الوحيد أو أحد مصادره. وهذا لا يتم إلا عبر إشراك الناس عبر الانتخابات وتقوية المجتمع المدني والصحافة الحرة وكل ما يجعل من الفرد شريكاً بالبلد.

هذه عملية داخلية تبدأ بألا يكون أي إنسان فوق المحاسبة كائناً من كان. ومهما كانت شرعيته أو شعبيته.

لإغناء في هذه العملية عن التعليم والثقافة وإعمال العقل، هذه كانت وتبقى مهمة الكلمة وهي ضرورية اليوم، لا لتخاطب الغرائز بل لتحفز العقول والوجدان. الكلمة مسؤولية وهي مسؤولية فردية أولاً وجماعية ثانياً. التخلص من الديكتاتورية وضمان عدم تكرارها يبدأ من هنا.

Exit mobile version