طلال سلمان

يوسف سلامة:شاعر الحياة

كما ننتظر العيد يكون انتظارنا النتاج الجديد ليوسف سلامة، ويجيء الينا متهاديا ببهجة العيد الذي لا يذهب توقعه برونقه، ولا يلغي موعده المحسوب فرح الهدايا ومتعة التذكار.
ولقد »شرفنا« يوسف سلامة ليخطف شوقنا اليه والى أسلوبه الممتع وحكاياته الطريفة بتفاصيلها التي يحولها قلمه البطيء الحركة الى أخبار مدوية واحداث جليلة تستحق صدر الصفحات الاولى من صحف أيام العطلة.
نادرة هي الاقلام القادرة على إذلال مرضى الموت وقهر وجع المرحلة الاخيرة بمثل هذه الشفافية ولذة الانتصار المستحيل.
يخترق القلم الكسول قلب السرطان، يعبث بخلاياه، يفضح حركة اخطبوطه المدمر وهي تتسلل عبر الدم الى اللحم والعظم، ينثر تركيبته العلمية، يعمم أسراره المتفجرة التي طالما أفاد من جهل الناس بها لكي يفتك بهم في قلب صمت الجهل.
انه يواجه السرطان: فارسا لفارس… لا يتركه يأخذه غيلة او بالحيلة. يسد عليه منافذ التسلل، يسلط عليه انوار العلم، ينازله في الفحص السريري، في المختبر، في التحاليل الكاشفة لنسيجه العنكبوتي. يغوص معه في قلب الامعاء، منحدرا الى المثانة. يطارده بنور الارادة وقرارها العظيم برفض الموت إلا بعد فض بكارة السر فيه. يضيء جوانب ذلك الدهليز المعتم الذي فيه تتوالد الشياطين، فتكاد تفر بعدما تم تعطيل سلاحها الفتاك: المباغتة.
لا يدّعي البطولة ولا يسعى اليها حتى والموت يتراجع عنه متعثرا. لا يسعى الى الانتصار، ولكنه يريد ان يعرف، ويدخل التحدي في ان ينظر الموت في عينيه… لكي يمد له لسانه، ويعبث بمنجله الخرافي الطويل.
كان الموت قدرا. صار الموت ارض صراع، وصارت مواجهة الموت منبتاً لأعمال إبداعية خالدة، لكن المواجهة بذاتها تظل الاروع والاكمل.
لطالما أبكانا الموت وأذلنا وقهرنا وأشجانا. لطالما ارهبتنا قوة السر فيه واستحالة الحوار معه، فكيف بالمواجهة واحتمال الانتصار عليه.
انفك الختم عن الكنز المرصود، وهتك ستر العفريت.
اذا صار الموت »معرفة« اقترب الانسان على معارج النبوة من سدرة المنتهى.
يوسف سلامة ظل يتقدم وانفاس الموت تلفحه حتى شك قلمه في عينيه.. وفر منه الموت، بينما هو ينتزع عنه ألغازه المحيرة، ويكشف أسراره لمجاميع البشر المذعورين والقابعين في قوقعة استسلامهم الجبان لكلمته القاطعة.
ومع السطور الاخيرة من »شرّفنا لنخطف انفاسك« يتهالك امامك جبروت ذلك القدر الذي لا يُقهر وهو يتوسل اليك: بعرضك استرني الله يستر على حريمك! إرحموا عزيز قوم ذُلَّ!
نادراً ما حقق القلم مثل هذا الإنجاز!
كان لا بد من الألم،
وكان لا بد من مثل هذا الشغف بالحياة والقدرة على ارتشاف رحيقها حتى الثمالة.
وحده شاعر الحياة يستطيع ان يحول الموت الى كرة قدم فيلهو به ويضحك مقهقها وهو يقتحمه بدلا من ان يهرب منه اليه.
الوجه الآخر لسعد الله ونوس يكتمل الآن مع يوسف سلامة.
حمى الله شعراء الحياة.

 

المغني والراقصة والتفاح

سرت النشوة في الساهرين، وانفرد كل منهم مع صوت المغني، فسافر على رقراقه الى زمانه الجميل، بالتذكر او بالتمني.
هتفت الجميلة: الله، الله، الله..
رق صوت المغني. صار ذوب طرب مصفى. صار حنينا خالصا. صار آهة حب موصولة تتغلغل في ثنايا الروح فتنعشها، وأصاب الخدر الاجساد فاسترخت بينما تركزت العيون على وجه المغني الذي بات يستمد وسامته من رخامة صوته، فإذا هو الآن كأنما صُنع من ملامح الاطفال والقديسات.
قالت الجميلة كأنما تتحدى ذاتها قبل الآخرين: سأرقص!
نضت عن كتفيها »الساري« واندفعت الى وسط الحلقة.
تلوت محاولة التواؤم مع الصوت الذي بات الآن احلاما مغزولة، يخيم كقوس قزح من الفرح العميق يغمر الناس والأشياء في القاعة التي غدت أبهى من الجنة.
ظلت الأذن تشرب النشوة من الصوت المسحور، لكن العيون اندفعت تتلطى او تتسلق تعرجات الجسد المتثني على وقع موسيقى تأتيه من داخله فينثرها على المتناثرين في أفيائه، ويتشهاه الرجال، وتفح النساء كراهيتهن له وخوفهن على الازواج.
تمازجت النشوة بالنشوة. اخترق الصوت المسحور الجسد المسحور، وقال كل: آه.
ملأ الجسد القاعة، ملأ الفضاء، داخَل النور وألقى ظلاله على الساهرين.
فحّت الأرملة الطروب: انها الأفعى، انظروا، انها الافعى.
لم يكن المشهد بحاجة الى مَن يوضحه: كان الجسد الطري للرغبة يتلوى وسط طوفان التشهي، وكانت الانفاس قد اكتسبت تلك الحرارة التي تجعلها أقرب الى الزفرات واللهاث في قلب غابة الصمت.
هي الافعى، هي الافعى..
صاحت الارملة.
وحملق الجمع في رأس الجسد المتدفق شهوة من خلل مَيَدانه.. كان رأس الراقصة قد اتخذ الآن شكل تفاحة، وكانت وجوه الرجال جميعا مغطاة بأوراق تين كثيرة الثقوب.
اما المغني فكان ما زال يواصل اصطناع جنته بآه عذاباته الطويلة.

 

ملائكة الشياطين

تردد متجاهلا الدعوة الصريحة. قال في نفسه: العوانس هن الأخطر! فحذار!
ارتاحت في مجلسها تاركة لجسدها المضغوط في قيود المشدات والضوابط ان يتنفس.. ولقد تنفست اجزاؤه العليا والسفلى بعمق!
قالت متظلمة (وقد فهم التظلم استدراجا): هكذا انا، انسى نفسي وانا اسعى الى خدمة غيري.
قال معبرا عن تعاطفه: لا أحد يستحق ان نعطيه اكثر مما نعطي أنفسنا..
ترطبت لهجتها بطلائع الدمع وهي تضيف: حرمت نفسي من كل ما رغبت فيه. ضيعت شبابي لكي انهض بالآخرين، وها انا اجدني، من جديد، اغطس في ما لا شأن لي فيه، ولست على اقتناع به، من أجلهم..
قال مواسيا: ولكنك في عز الشباب، انت فوارة بالشباب.
نظرت إليه من تحت اهدابها المسبلة وهي تستمر في التذمر الباكي: اي شباب؟! إحساسي بالهرم يتعمق كلما انتبهت الى حركة الاجيال الجديدة. أين انا من صبايا هذه الايام؟! أحس نفسي غريبة.. لا موسيقاهن تطربني، ولا استطيع مجاراتهن في رقصهن العنيف الأشبه بحركات المصارعة اليابانية.. والاهم انهن يتمتعن بحرية لا اجرؤ على ممارستها مع انني اعيش وحدي، ولا اخضع لأية رقابة او تدخل في شؤوني، فانا سيدة نفسي.
قال بعفوية: اطردي الشرطي الذي في صدرك، وعيشي حياتك.
مسحت آثار الدمع، ومدت يدها ترفع شعرها الذي كان قد تهدل على وجهها، جربت الابتسام، وأراحت جسدها اكثر فوق المقعد في مواجهته وهي تردد: الشرطي؟! ظريفة هذه! كيف أطرده؟! أحسه متغلغلا في عظامي، يسري مع الدم في شراييني، يحصي الكريات الحمر والبيض.
لم يعلق. خافت مما قالته فاستدركت: انتم الرجال تزرعون فينا هؤلاء الشياطين! تربيتكم الشرقية تصور الرجل للانثى وحشا شهيا، وتصور الأنثى للذكر شهوة وحشية، ثم تحرم الاتصال وتطلق الوحوش.
بهت لطرافة ما يسمع. صار فوق السلك المشدود تماما، وعليه ان يضاعف حذره، وان يقرر محطة الوصول: لسنا جميعا من الشياطين!
احتدت وهي ترد بعصبية: لن تحاول إقناعي بأنك ملاك! قبل لحظات كنت على وشك ان تدعوني الى العشاء.
بغتته الاندفاعة الاستدراجية، فحاول التراجع بهدوء، ولكنه فوجئ بأن رده قد اتخذ منحى هجوميا: آسف، ان شيطاني ليس ذكياً الى هذا الحد.
ضحكت، عادت يدها ترفع الغرة عن عينيها، ثم مدتها الى قميصها تشده ليعطي صدرها فرصة إثبات حضوره العالي، تفقدت حقيبتها، فتحتها ثم أغلقتها، اعادت اليها علبة تبغها والولاعة، ثم عادت تخرجهما لتشعل لفافة… نفثت الدخان، وتشاغلت بمتابعة تهويماته قبل ان تنفجر ضاحكة: وماذا لو تفضل ملاكي بدعوتك؟!
قال بسرعة: لا تأكل الملائكة، ولا تسهر خارج البيوت، ولا هي تحب صحبة الشياطين.
اعتبرتها نكتة، وقامت لتنصرف، فوقفت ازاءه تماما تعيد ترتيب هندامها، متفقدة جميع المشدات والضوابط، ثم اخرجت المرآة لتطمئن الى ان الكحل في مكانه من عينيها، والحمرة في مكانها من شفتيها، والشعر في مكانه من حول الخدين، ومشت في اتجاه الباب وهو يواكبها، ثم فجأة استدارت لترميه بالقنبلة الاخيرة:
طوال عمري كنت أكره الملائكة! اليوم تزايد حبي للشياطين! لا تُطِلْ غيابك عني، احب ان اسمع اكثر عن الشباب وفوراته! وأحب لو…
صمتت فجأة، ابتسمت، ثم سحبت ابتسامتها عائدة الى تجهم »المدير«، فتحت الباب واندفعت خارجة وهي تجتهد في ان ترسم على وجهها ملامح الملاك.. الوحشي!

 

أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
من كان له حبيب زاد صمته، ومن رغب في العشق اكثر من الكلام حاول توظيف الالتباس في الاستدراج. لا يستقيم الحب مع الثرثرة.
استذكرت بعض الروايات التي شغلتنا فسحرتنا ايام المراهقة، وبعض أغاني الصبا التي تحبب الحديث عن الحبيب، وكأنما أدرك »نسمة« انني امتحن صحة كلامه، فعاد يقول:
لطالما حدثت عنها الطير والنهر والشجر ونجوم الليل، لكنني كنت أغرق في صمتي الحيي حتى البكم اذا ما سمعت غيري يتحدث عنها. لها الحديث لا عنها. هل أطول وأمتع وأحلى من قصيدة الكلمة الواحدة »حبيبي«.

 

حوار العين والنور

تستولدك الظلمة ويذهب بك النور، وأنا الاعشى.
اجمع ملامحك من وجوه الآخرين حتى لا تغيب عني. من هذا مشيته، ومن ذاك شفتاه، ومن ثالث كثافة الحاجبين.. هلا اعدت إليّ عيني؟!
ترخين عليّ عباءة العطر، فأستكين داخل الخيمة وأقرأ في ضفائر شعرك المتهدل قصائد منسية ما ان تمسها الاصابع بنارها حتى تنساب جداول من نغم.. وتمتد النشوة الى الجيران فيطفئون انوارهم ويسافرون الى المواعيد المهجورة.
وموعدنا معلق بين غيمتين تنتظران ان تهزهما الريح فتسحّان مطراً من البنفسج.
سأمدّ يدي الى الغيم فأعتصره.
لن أستكين كهذه التكية في انتظار الريح. سأطلق من صدري الريح، سأنبت في حدائقي البنفسج، ولن اضيع زمني على رصيف محطة موعودة بقطار لا يجيء.
النور، النور، ها قد جاء الخوف. وداعاً زمن البنفسج.

 

مثل نجمتين

يقترب الموعد المرتجى للقاء مع الغد فيمتلئ الصدر زهوا ويرتبك العقل: هل نحن جاهزون؟!
لن نترك الزمن يسحبنا اليه مكرهين، سنقتحمه بإرادة الشباب وصلابة الحلم.
ما أمتع ان تتقدم احلامك وتجبرها على ان تسعى متكأكئة مترنحة إليك على قمة غدك.

Exit mobile version