طلال سلمان

يداي أيضا ملطّختان بالدّم

قطرة قطرة، تسيل الدماء على يديّ. صمتي قطرة، عجزي قطرة، جلوسي في منزل مضاء قطرتان، احتسائي للمياه النظيفة خمس قطرات، وجه ابنتي وجسدها الخاليان من أي خدش مئة قطرة، استحالة مجيئي إليكم ألف قطرة، ألمي وبكائي مليون قطرة: حتى البكاء والألم أسرقهما منكم.

أنا أيضا أشارك في المجزرة.

لأنني لا أعرف كيف أساهم في وقفها، لأنني لم أتمكن من إيجاد طريقة للمساهمة في وقفها، وأشياء أخرى بلا معنى كهذه.

ولكن، فعليا، أنا أيضا أشارك في المجزرة لأنني هنا، ولست هناك، معكم. أن أكون في غزة اليوم هو السبيل الوحيد كي أغسل الدم عن يديّ. ليس أقلّ من ذلك.

وفلسطين التي ترافقني منذ أن كنت، تسندني حين أقع، ترسم الطريق إن أنا تهت، وفلسطين التي وحدها ستنصرني إن كنت سأنتصر يوما، أتابع عبر شاشات برائحة النفط، دماء أبنائها وهي تًسفك على مدار الساعة، وأشهق بالبكاء وأعلّق وأبدي أراءً وأشتم وأبتسم وأحيا في تفاصيلها.. من هنا، فيما هي تُستباح من أجلي.. هناك. يطوقني عجزي عن مرافقتها، وسندها، وسبل الوصول إليها ولو من هنا.

***

والفلسطيني هو صورة “العربي” المشتهاة. يقاوم ظالمه باللحم الحيّ، وينهض ما إن يقع، يُقتل ثم يُبعث أقوى وأمتن وأكثر تصميما. ولا ينسيه ظلمه إنسانيته وفطرته “القروية من غير سوء”، فلا تسوده مرارة أو تخاذل أو استسلام.

عدّوه واضح، وطريقه معروف، ومقاومته مشروعة، على عكس العربي الممتهنة كرامته والمهان كل في دولته.

ها هم في غزة، حفاة، فقراء، يبادون رويدا رويدا، ويبكون، ويبتسمون، ويغنون، ويتهافتون على المباني المنهارة لإنقاذ من بقي حيا فيها، ثم يقتلون على درب جلجلتهم الحالية وهم يعبرون من الشمال إلى الجنوب، ويقبعون في الخيم، يلملمون أشلاء أبنائهم يحملونها في أكياس بلاستيكية ويمضون، يعطشون، يجوعون، يدفنون شهداءهم في حفر جماعية لتحضنهم تراب أرضهم، يودّعون أولادهم الشهداء “معليش” ثم يكملون مهامهم، رجال، نساء، فتيان، فتيات، شيوخ… ولا يرحلون!

شهر وثمانية أيام. قصف يوازي في مجمل قوته أعتى القنابل النووية، حصار يتواطأ في إحكامه العدو و”الشقيق”، موت كثير بأساليب متنوعة، أوّلها الظلم! أبشع ما في الأرض: الظلم. والكوكب يشاهد بالبث الحيّ على امتداد 24 ساعة، والمجزرة تستمر وتشتد فتكا.

أنهار في بيتي المضاء، وأشرب الماء كي تهدأ أعصابي، وهم لا يتعبون. لا يرحلون.

تدور نقاشات حادة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من غرف مضاءة ومزّودة بالإنترنت، وهم لا يأبهون. لا وقت للكلام في غزة، لا وقت للنقاش، إما أن تموت وإما أن تبقى.

بيديّ الملطختين بالدم، أغيّر القناة الغارقة بالنفط، إلى أخرى تنقل صور مستشفيات غزة تتهاوى.

أنظر إلى يديّ بأسى: هل أستطيع أن أرسل هذا الدم إلى شرايين غزّة؟ ثم أتذكّر صديقي في غزّة وصوّته عبر الهاتف يقطعه انهمار الصواريخ: “لا تقلقي، فلسطين ولّادة، ولو بقي فيها طفل واحد، سيصرخ أنه سيقاوم”. أبتسم. فلسطين التي تنزف تداوي جراح قلبي بنبلها وبسالتها. ربّما وحدها فلسطين قادرة على مسح الدمّ عن يدي!

هامش شخصي: لكنك لو كنت هنا، معي، كنت ستريني الطريق، كنت سترشق إسرائيل كل يوم بحجر، وتروي بعضا من عطش غزّة، فتمسح بكل حجر وقطرة ماء بعض الدماء عن يديّ. من سيصحبني إلى فلسطين بعد رحيلك؟

Exit mobile version