طلال سلمان

يتساءلون عن المسؤول.. أمريكا أم ترامب

حقا إن جئت لتلوم فمن تختار، أمريكا أم الرئيس ترامب. نرى أمامنا رجلا في منصب رئيس أقوى دولة في العالم جعل الكلام، كلام اللسان وكلام الجسد، وسيلته إلى إثارة عواطف الناس، إعجابا أم كرها. كثيرون في وزارة الخارجية الأمريكية يسرون إلى أقاربهم بأنهم بلا عمل تقريبا. أعفاهم الرئيس حين قرر أن يتعامل مع قادة العالم وشعوبها بالكلام من خلال مؤتمراته الصحفية وليس عن طريق جهاز الدبلوماسية، أي الجهة المسؤولة عن التواصل مع “الخارج”.

كثيرون في مواقع أخرى في الحكومة الفدرالية يتوقعون صيفا سياسيا حارا للغاية لا بسبب الانتخابات الرئاسية ولكن لما يبدو أنه سوف يأخذ شكل مذبحة تطال رأس كل مفتش عام في وزارة أو وكالة فدرالية أمريكية. طارت حتى ساعة كتابة هذه السطور خمسة رؤوس. الواضح أن الرئيس الأمريكي يفعل ما يفعله كثيرون من قادة العالم النامي، يتخلصون من خصومهم ومن قادة المجتمع المدني منتهزين فرصة انشغال الرأي العام بمذبحة أخرى، المذبحة التي دشنها فيروس الكورونا. أتساءل من موقعي البعيد نسبيا عن النوايا الحقيقية لرئيس رشح نفسه لدورة ثانية في البيت الأبيض، يتخذ قرارات منافية لأبسط التزاماته الدستورية ومسئولياته تجاه ناخبيه. الإجابة البسيطة جاءت من صديق أمريكي اقترب من دونالد في مرحلة من حياته، قال في رسالته “توقعوا منه الغدر والانتقام في الأيام الأخيرة من ولايته الأولى، وفي الظروف السوداء توقعوا من ناحيته وجماعته شرا عظيما”.


قيل إن دراسة أعدتها هيئة بحثية مرموقة في ألمانيا توصلت إلى أن قادة أوروبا ونخبتها السياسية وصناع الرأي فيها كادوا يجمعون على أن الولايات المتحدة تخلت عن قيادة العالم، أي عن الدور الذي أنيط بها أو صنعته لنفسها قبل قرن من الزمن. أقيمت الدراسة على نتائج اتصالات بريدية وهاتفية ومن خلال مؤتمرات ولقاءات تلفزيونية أجراها أفراد في فريق بحث متعدد الجنسيات مع مئات من قادة الرأي والسياسة في أوروبا. كاد جمهور البحث يجمع على أن صدمة جماعية عنيفة أصابت مجتمعات أوروبا السياسية والأكاديمية لموقف الولايات المتحدة في الأزمة الوبائية. كان المشهد ثقيلا ومؤلما في آن واحدة، “الآن تأكدنا من أمر كنا نعرفه ونرفض التصريح به. نعم تأكدنا من أن أمريكا فشلت في دور قيادة العالم بعد عقود اثبتت فيها القدرة على توحيد العالم خلفها، تأكدنا أيضا من أنها فشلت كذلك في الداخل بعد قرون حققت فيها إنجازات هائلة”.


يذكرون ونذكر معهم كيف أن رؤساء تفاوتت خبراتهم وتجاربهم استطاعوا تجميع صفوف قادة وحكومات على أهداف اختارتها أمريكا. لن نذهب بعيدا إلى بدايات حلف الأطلسي أو إقامة صرح الأمم المتحدة وابتكار الأسس والقواعد لنظام القطبين. نعود إلى وقت أقرب كثيرا، نعود إلى عهد بوش ونجاحه في توحيد العالم وراء هدف مكافحة وباء الايدز، أو نعود إلى عهد باراك أوباما وحربه على الإيبولا. في عهود سابقة كان العالم أو غالبيته يسير وراء أمريكا تدفعه دوافع شتى، ليس أقلها شأنا الطمأنينة والخوف والحاجة. نادرا ما لعبت شخصية الرئيس الأمريكي دورا في تجميع الدول وقادتها وراء أمريكا. لم يكن نكسون شخصية محببة إلى غيره من رؤساء الدول، وكان بوش الصغير مثار سخرية عديد الرؤساء وصناع الرأي في معظم أنحاء العالم، وكان باراك أوباما متعال دائما أو متكبر فلم يكسب ود قادة عديدين. رغم ذلك ظلت أمريكا قادرة بدرجات متفاوتة على تجميع أكبر عدد من الدول وراء هدف أو آخر وسياسة أو أخرى من أهداف وسياسات الولايات المتحدة.


تسرب الفيروس إلى الولايات المتحدة. ما ظهر لنا كشف عن رئيس غير مبال للخطر الذي يمثله هذا الفيروس، لامبالاة مختلطة بكم هائل من العداء والانفعال. حاول الرئيس إقناع ملايين الأمريكيين أنها مجرد إنفلونزا عادية تخف وتزول بقرصين أو أكثر من الاسبيرين. تفاقم التهديد فقرر الرئيس متهورا تسييس الفيروس متهما الحزب الديموقراطي بافتعال القصة بكاملها، أي اتهمها بترتيب خدعة للتأثير في الانتخابات الرئاسية القادمة. اشتد الخطر ومعه تصاعد رد فعل الرئيس فأمر فجأة بوقف رحلات الطيران من أوروبا. لم يستشر الطرف الآخر، وأقصد الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الغربي التي كان المفترض أن تنطلق من مطاراتها بعد دقائق هذه الطائرات ثم توالت التصرفات غير المدروسة وبعضها كاد يمس نقاطا حساسة على حدود الأمن القومي الأمريكي. لم يهتم بالأطباء والعلماء حين قرر الاسبيرين دواء ناجعا للفيروس القادم من الخارج، ولم يهتم بخبراء السياسة الخارجية عندما قرر إقامة جدار يفصل أمريكا عن أوروبا أسوة بجدار يشيده على حدود بلاده مع المكسيك. ولم يستمع إلى مستشاريه، أو لعله بالفعل اختار فئة معينة من هؤلاء المستشارين تسعى منّذ شهور لإشعال فتيل حرب ثم أخرى مع الصين، من هؤلاء أو على رأسهم السيد مارك بومبيو، النجم الذي هوى قبل أن يصعد بعيدا في سماء واشنطون.


كنت شاهدا في دول عديدة على رؤساء بالعشرات تمسكوا بالحكم بعد أن واتاهم ولم يفاجئهم موعد تخليهم عن مقعد الرئاسة. كنت في أمريكا اللاتينية قريبا من جرائم عديدة ارتكبت في حق الناس والقانون والدين لمجرد أن الرئيس المنتهية مدته يرفض مغادرة قصر الرئاسة. كانت الحجة واحدة في معظم الحالات التي حضرتها. الرئيس ما زال لديه ما يفعله لصالح هذا الشعب وهذا الوطن. أسمع هذه العبارة يتردد صداها داخل أجمل الصالات وتحت أبدع السقوف زخرفة وأعلاها ارتفاعا. أسمعها هذه الأيام في الكرملين. وها نحن جميعا نسمعها الآن في عقر دار الديموقراطية الليبرالية. هنا في واشنطون تختلف النبرة كثيرا، إذ تأتينا بصيغة التهديد أو ما يحمل معنى الخطر. التخريب والحصار إذا دعت الضرورة وحرب عالمية، تبدأ تجارية وتنتهي فضائية، إذا اختارت الصين طريق العناد وحاولت حرماني من مقعدي.


ما زالت أمريكا قادرة على تجميع دول وراءها، كما أظنها فعلت في المظاهرة التي نظمتها لها استراليا في الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية. هذه المرة الدول أقل، والحلفاء انقسموا وراوغ بعضهم. أكرر السؤال، أمريكا أقل قدرة أم ترامب مصدرا للشك وسببا للضعف.

تنر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version