عندما تفقد الزعامات السياسية وهجها المذهب، تتقدم المراجع الدينية المتقدمة وذات الطموح لتتصدر الصفوف كقيادة اصيلة تشهد لها مرجعيتها ولباسها المرصع بالبركة وبعض الذهب وهيبة المقام.
وبمراجعة اولية للتحولات “الميدانية” في السنوات القليلة الماضية يتبين بوضوح أن رجال الدين، لا سيما عند الطوائف المسيحية قد برزوا وأخذوا يحتلون الصدارة بينما الزعامات التقليدية تختفي بالموت او بالعجز عن مواكبة التطور وتجديد اللغة والصورة والارتباط بعواصم القرار.
يمكن الافتراض أن السيادة الاميركية على القرار الغربي عموماً قد جعل من واشنطن والادارة الاميركية برئيسها ومخابراتها في الجو والبحر كما على الارض، قد ازاحت إلى حد كبير المراجع الاوروبية عن مركز القرار وتسلمت القيادة، وقفز الوجهاء الجدد الذين اعتمدتهم الادارة الجديدة إلى مقاعد الإمرة والادارة وباشروا مهامهم في بلادهم باسمها وبإشرافها وتحت حمايتها.
صارت الثروة، نقداً او صناعة او ملكية واسعة تستوعب المصانع او المزارع الحديثة، مصدرا للوجاهة المؤهلة لان تنجح بزخم ثروتها وبريق الشهادات العلمية والخبرات الاقتصادية في السياسة، نيابة فرئاسة فمرجعية سياسية.
رسمت خرائط جديدة للمدن عندما جاءت الثروات الوافدة اليها من وجاهات الريف الذين عرفوا طريقهم إلى السياسة، مباشرة او عبر تبني الزعامات التاريخية لتضفي على صورتها القديمة شيئاً من التجدد.
وفي بلد محدود المساحة كلبنان لا مجال لإقطاع زراعي او ملكيات واسعة خارج المدن تدر ارباحاً مؤثرة وتصير الارض هي الثروة، مع تعاظم وتيرة البناء بأموال الاغتراب او معرفة الطريق إلى مصادر الثروة في الخليج بالشراكة هناك او هنا لا فرق او هناك وهنا في آن معاً.
منذ الخمسينات تصدرت امارات الخليج بعنوان الكويت ثم ما جاورها دولة الامارات وقطر، السعي إلى اللحاق بالركب، من دون أن ننسى السعودية وان ظلت حركتها بطيئة ومحصورة بعدد محدود من الامراء واعوانهم وعدد أكبر من رجال الاعمال الذين لهم بيوت كثيرة في عواصم عديدة، عربية وعالمية.
بعد النفط ومعه تفجر الغاز غزيرا وذهبا مصفى في بعض اقطار الخليج والسعودية، فانبثقت الابراج وناطحات السحاب من قلب الرمال، واقيمت الاسواق، وبنيت الجامعات والمستشفيات والمدارس، وكذلك الفنادق للزائرين او المقيمين على عجل.
خلال سنوات معدودة اختلفت صورة الارض وأهلها: اندثرت الخيام والأكواخ تقريبا، وشيدت العمارات الفخمة إلى جانب القصور الملكية والاماراتية ورجال الاعمال الذين انبتتهم الثروة الطارئة والتي أعادت خلق تلك البلاد وأهلها مرة أخرى.
لا صلة للكويت اساسا، ثم الامارات وقطر وحتى البحرين بماضيها، بالعمران، كما نعرفه اليوم، اما السعودية فقد ظلت صورة الحكم الملكي هي الطاغية لأن اعداد الامراء وورثة القيادات الوهابية وشيوخها عظيمة بما يجعلها اشبه بالحرس الحديدي للنظام الملكي “بفضل الله ونعمته”.
الثروة اقوى من الزمن… وهكذا خلال عشرات قليلة من السنين ظهرت مدن ما كانت لتبنى لولا الزمن الجديد وثرواته المتدفقة من دون مجهود شخصي، وقامت صناعات ومزارع واستنبتت قصور في مختلف الجهات للأمراء الذين تتعبهم المدن والمشاغل ويطلبون الراحة والهدأة بعيداً عن ضجيج السلطة بطلابها وخدمها.
الثروة تغري وتيسر بالقفز ارتفاعا في الارض او البناء والعلم واسباب الحياة وانماطها ايضاً. المعيار واحد: بسرعة ما قفز هؤلاء من القاع إلى مركز القرار والى تصدر مشاريع النهوض الخاصة اساسا ثم العامة، ورشوة القبائل والرعايا بالسكن والقوت ثم تيسير التعليم والطبابة والاستشفاء وبعد ذلك الاهتمام بإرسال الطلاب إلى أرقى الجامعات من اجل التخصص في مختلف العلوم والمختبرات.
*****
… ولقد صار البطريرك الماروني بشارة الراعي زعيماً بقدر ما فقدت “الزعامات والبيوتات والوجاهات السياسية” من رصيدها لدى جمهورها، سواء بسبب التحولات الاجتماعية وتراجع نفوذ اهل الاقطاع التقليدي والثراء الموروث في العقار والاراضي التي كانت زراعية ثم تم تصنيفها ولادة مدن وقرى ومزارع.
في البدء كانت الزعامة لأهل الوجاهة بالنسب الموروث ومعه الملكية الزراعية الواسعة، لا سيما في العاصمة والمدن ذات الكثافة السكانية، اما الارياف فلم تكن ارضها المروية ومعها الانهار والينابيع لأهلها بل للعائلات الاقطاعية الاقطاع الغرباء عنهم والذين يفوضون بعض الوجهاء ادارتها وحراستها وتأمينها.
كنت تعبر القرى، او تزورها احيانا، للقاء اصدقاء او معارف فتكتشف الحقيقة التي يهرب منها ضحاياها، إما بدافع الخجل او الخوف من اهل المال والنفوذ، وإما تجنبا للإساءة إلى الآباء والاجداد الفقراء والذين ظلوا يعطون جهدهم وعرقهم لأرض الغير، ثم يرتضون من هذا الغير ما يقيم الاود .. للاستمرار في خدمته.
وعندما لم تعد الارض تكفي اهلها الفقراء كان طبيعيا أن يهجروها إلى ضواحي المدن حيث يعملون في مهن يتعلمون اصولها بكلفة ثقيلة يدفعونها من عرق الجباه والزنود قبل أن يتيسر لهم أن يعيشوا منها ويعلموا ابناءهم، وقد يشترون مساكن متواضعة، وبالتقسيط، بأجورهم فيها حتى لو باعوا احيانا ما تبقى لهم من املاك محدودة او بيوت فقيرة في قراهم.
ولقد استقطبت العواصم الجديدة بقدراتها المفتوحة كفاءات العالم العربي العتيدة (مصر، سوريا، فلسطين ولبنان)، فضلاً عن استعادة آلاف المهاجرين من حملة الشهادات العالية والقيميين على مراكز الابحاث واصحاب الاحلام الفخمة في الصناعة والبناء.
لا مجال للتنافس: صاحب الثروة هو السيد والآتون بشهاداتهم العليا وامتيازاتهم ومؤهلاتهم موظفون برواتب فخمة وتحت قيادة اصحاب الالقاب المفخمة والثروات المحصنة والنفوذ المفتوح..
يبني بنا. نبني له.
يشتري افكارنا وجهدنا بالثمن…