طلال سلمان

يا قدس.. اني اعتذر

يا قدس، أعتذر.

لم يعد الغضب جواز مرور اليك. ليست الاحزان لائقة بنا. بتنا أملاً عضالاً لا شفاء منه ولا نفع له. كلما فتشنا عنك بيننا، مشينا اليك وما وصلنا.

أنتِ التي تنأين ونحن الذين في المنفى عنك. ولكنك، أنتِ الحقيقة الساطعة ونحن الخرافة. لولانا، لكنتِ الآن بيننا ونمتلئ منك.

عذراً، اعدادنا بالملايين. برهنا كيف تساوي الملايين أصفاراً. عرب يسيرون إلى موتهم بشغف الباطل. برهنا أن الصلاة لا تُجدي. لا أثر لها عند الله. هو لا يسمعنا ولا يرانا لأن آخرتنا هنا، منذ ولادتنا. لا أحزابنا ألفت الحياة ولا ادياننا بعيدة عن مقابرنا. أموات نحن، لنعيش حياتنا، ومرشدنا راوٍ يحترف التبشير بما يكفي للكفر بكل شيء، غير الاحساس بالظلم والسحق والامحاء.

عذراً يا قدس. يشبه إلينا اننا احياء. مخيلتنا كسولة جداً. من زمان نسينا من نحن. عابرون إلى حد التواطؤ. القدس هنا، ونحن لسنا الا هناك، في الكلام الذي يولد من الشفتين ميتاً، في الارتطام بمن يصلي كمن يزني. لا صدى لنا. لولا العدو، لأثبتنا اننا من أهل الكهف، إذا ماتوا استفاقوا على موتهم.

عذراً يا قدس. نحن لسنا عربا. نحن البائدة. لسنا مؤمنين بالآية الا إذا كانت للنحر او الانتحار. نحن لسنا امة. امم امية من الوريد إلى الوريد. تخّر على جباهها وتسأل، لماذا العالم يسير بالمقلوب… اثرياء جداً نحن. لسنا فقراء. لدينا آبار لا تنضب. الحشود حولها من أهل التخمة والانفاق والسيلان. لسنا اغبياء. تجار نحن، نتاجر بالآية ونتاجر بالله، ونربح المزيد من الحماية والمزيد من الصداقات الدولية.

عذراً يا قدس. انتِ على مرمى من اهلك، وينأون عنك. يثورون يوماً أو أكثر، ثم ينحرفون إلى صراط النسيان. مشغولون نحن عنك، لدينا اعداء سيئون جداً. اعداء من اخوتنا وآبائنا وابنائنا. توزعنا على جبهات، الموت حارس لأمة تقتل من اول خطوة في الخليج إلى آخر مرمى في المتوسط… مشغلون جداً. لم نحسم بعد أن كنا سنة ام شيعة ام موارنة ام مسيحيين ام اكراد ام يزيدين ام شافعيين ام اولاد الشمطاء واحفاد العهر… مضطرون نحن أن نحس من نحن. للأسف، لا نحن بعد اليوم. اعتصروا هذه الامة من رأسها حتى أخمص حماقاتها، فلن تجدوا فيها الا قلة مقدسية، فلسطينية وايتام الكيانات التي يتمها احتلال القدس والتفريط بفلسطين. كيف نعيش بلا امومة؟ شعوب داشرة، تأكل وتشرب وتنام ولا حياة فيها.

عذراً يا قدس، لقد ضاق بي صبري. أكره ظلي لأنه يشبهني. فاشل مثلي. يكتب بقدميه مسيرتي الفاشلة. حتى الآن، لم يضجر مني. لم يتحرر بعد. انتظر أن يتخلى عني، فهو أصدق مني واسرع مني اليك، فهو شديد الالتصاق بالأرض، ولا يملك ذكاء خبيثا وظيفته تبرير العجز وتأكيد المستحيل.. لا يتركني ظلي ويمضي، فهو اقوى مني.

أمس استفقنا على الغاء لكِ، أخذك القرصان الاميركي. وهبك لمن اغتصب سماءك والهتك وناسك.. دبت فينا حمية صادقة وقصيرة العمر. القدس مغتصبة من زمان، يذكرنا العدو بك عندما يرتكب فوق الارتكاب ما يريد من افعال وكلمات ومستوطنات. انت له يقول. يقول ويفعل. ولكنك لنا في الاصل، هكذا نقول، ولكننا لا نفعل. غريب، يقف العالم معنا أكثر منا، ونسب العالم. ما ازنانا!

فيا قدس، لا نعدك بشيء. لسنا احراراً لنحررك. نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا من التخلف، من ضوضاء المصالح، من زنازين الانظمة، من فكي الارهاب، من ثقافة الاتكال. نحن بحاجة إلى من يحررنا او إلى أن نحرر ذواتنا، أن كان إلى ذلك التحرير سبيل. الطغاة عندنا ابا عن جد إلى ولد فأحفاد. الظلم سياسة سائدة. صرنا نقبل اليد ولا ندعو عليها بالكسر، توالفنا مع العبودية، نبرر مصيرنا بتحميل غيرنا مسؤولية ضعفنا. نحار من اين نبدأ وكيف نبدأ. اننا كائنات طبيعية طيبة الاصل، لكنها تدربت على امتهان كرامتها وحقوقها واوطانها.
فيا قدس، مأساتنا، نحن المليونيين، أعظم من مأساتك. لدينا حكام وانظمة وملوك وامراء، الغوا امة. انفقوا شعوباً، على مرأى من عالم يفرك يديه وهو يتفرج على افدح عملية تحويل في التاريخ، تحويل البشر إلى حيوانات اليفة، توزع عليها بطاقات التدجين، اثباتا للانتماء إلى فصيلة النعاج.

عذراً يا قدس. “سأجد يوماً ما اريد”. سنصير يوما ما نريد. لن نبقى حشيشاً على ارض تُداس. سيكون لأقدامنا وقع موحد. ولأجسادنا قبضات مشددة، ولجباهنا صداقة مع السماء. سيصير الفلسطيني نموذجاً، يقلده العربي المقاوم، الذي يقرأ المستقبل بحروف يكتبها هو، وبنصوص يؤلفها هو. موتنا العمومي ليس نهايتنا. القيامة تبدأ من “كن فيكون”. وفعل الكينونة خلق وابداع. وعندها، سيكون للقدس مقام التحرير.

الفباء البدايات. أن نعود إلى الاصل الانساني فينا. عندها، نكتشف اليقين. نحن بشر حقيقيون متساوون وأحرار، ومسؤولون عن كل حبة تراب في هذه الامة وهذا المدى الحضاري الضارب في التاريخ. نحن مؤهلون لان نحكم أنفسنا بأنفسنا، على دين الديموقراطية بلا زغل طائفي او مذهبي: فليذهب الحكام إلى الجحيم، ولتذهب معهم مآثرهم الجرمية، وأعظم جرائمهم تسليم القدس وفلسطين بموازاة سحق الشعوب بأقدامهم البربرية وتسلطهم الهمجي.

لا يحرر القدس غير الاحرار.

“فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدق”.

هذه الامنيات الخيالية، هي واقعنا غداً، وإلا، فإننا من البائدة.

فيا قدس، لا نقول لك وداعاً، بل إلى اللقاء. إن صدق الوعد الجديد.

Exit mobile version