طلال سلمان

ويسالونك عن لبنان ديموقراطية عند عرب

لا يمكنك، وأنت »ضيف« في أي عاصمة غربية، أن تستمر في الهرب من »الكمائن« التي يحتشد بها أي سؤال عن الأوضاع الداخلية، في لبنان خصوصاً، أو في البلاد العربية عموماً، سواء اتصل الأمر بالديموقراطية وقضايا الحريات، أم الأسباب الفعلية لتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكلها في نظر السائل مولّدة للإرهاب!
يعاملك مضيفك المهذب جداً لا سيما إذا كان بريطانياً بشيء من الإشفاق، ويداري وهو يطرح عليك ما يعرف جوابه من الأسئلة المحرجة، أن يُشعرك بالإهانة أو بأنه لا يحترم رؤساءك المبجلين أو »اللانظام« الحاكم في بلادك، ولهذا فهو يشير إلى استغلال الطائفية لشرعنة الفساد، وإلى تزوير إرادة الناخبين عبر تفصيل قانون الانتخاب على مقاس أصحاب الحظوة من السياسيين الذين يصيرون بالطائفية زعماء شعبيين وأركاناً للسلطة ينتفعون بخيراتها العميمة على حساب الفقراء الذين يزدادون فقراً.
يسألك، مثلاً، عن »الطبقة الوسطى« وسبب اندثارها، وهي التي كانت تلعب دوراً تنويرياً في المشرق عموماً، وفي لبنان بصورة خاصة.
ويسألك، ببراءة، إذا ما كانت الديموقراطية تتناقض مع الدين الإسلامي، أو مع »العروبة« كحركة سياسية تصدى بعض رافعي شعارها للإمساك بالسلطة في أكثر من قطر عربي، فكانت النتيجة تراجعاً شاملاً في مسألة الديموقراطية كما في البناء الاقتصادي أو في محاولة تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية.
وتفتقد ما كنت تستشعره في لقاءاتك القديمة قبل عقدين أو ثلاثة مع ضيوف أو مضيفين غربيين من تودد واحترام يصل إلى حدود التهيّب، لاحتمالات التغيير الجذري في المنطقة التي كان اسمها »العالم العربي« وباتت الآن »الشرق الأوسط«، تحت راية الطموح إلى التقدم، سياسياً نحو الديموقراطية، واجتماعياً بتوفير »الخبز مع الكرامة« واقتصادياً بالانهماك في استثمار القدرات والكفاءات الوطنية والإمكانات الظاهرة والكامنة وتوفير فرص العمل لكل القادرين عليه.
أنت الآن، في أي مكان تذهب إليه، موضع مساءلة: »لماذا تتراجعون بينما حركة التقدم تتسارع وتيرتها بما يهددكم بالبقاء خارج الغد«؟!
».. وأين هو لبنان الذي كان له دور حيوي في »استحضار« العرب دولياً، عبر صورة مشرقة عن قدراتهم الكامنة، وفي تقديم الدليل على أن النظام الديموقراطي حتى لو كان ناقصاً أو معتلاً، كما هي الحال عندكم هو بطاقة انتساب إلى العصر؟«.
* * *
في »زيارة« لمجلس العموم البريطاني، تستطيع التحقق بالعين المجردة أن الديموقراطية لا تحتاج إلى مقاعد وثيرة ولوحة ضوئية بأسماء الحضور، وتجهيزات فائقة الحداثة لمقاعد السادة النواب.
»البنوك المدرسية« الخضراء، والرخيصة التكاليف، تتراصف متواجهة في القاعة الضيقة على من يحتشد فيها: الحكومة، ومن خلفها حزبها، في مقابل المعارضة (تتقدمها حكومة الظل)، وفي الوسط »الرئيس« فوق مقعد عال، وأمامه الخبير الدستوري، بشعره المستعار، للاستعانة به إذا لزم الأمر..
الديموقراطية تحب البساطة، وهي غير مكلفة.
يبدو أن الديموقراطية لا تعيش إلا بالفقراء ومعهم، بشرط أن يكون ممثلوهم ممثليهم فعلاً!
… ومع أن الجلسة التي شهدنا بعض وقائعها قد حفلت باتهامات خطيرة للحكومة، وبالذات لرئيسها طوني بلير، بينها أنها »خدعت الشعب« و»غيّبت عنه الحقيقة« و»أخذت البلاد إلى حرب لاحتلال العراق. ثبت أن مبرراتها كانت مضللة وكاذبة«، فهي قد انتهت بلا اشتباكات أو ضرب بالكراسي أو اختلاق تهم جنائية للمعارضين (وكثير منهم أعضاء في الحزب الحاكم).
لم يشكل الاختلاف في الرأي، كما في بلادنا خروجاً على الجماعة.
ولم يخرج النواب العماليون من الحزب في انشقاق يستولد أحزاباً، بل هم تصدوا لرئيسهم مباشرة وعلناً… بينما كل حزب في بلادنا، صار بمجرد الاختلاف في الرأي، أحزاباً.. وكل من اعترض خرج أو أُخرج مشهّراً به وملعوناً إلى يوم الدين.
ومع أن العصمة في بلادنا امتياز للأنبياء، فقد أضفى كل رئيس على نفسه صفة العصمة، من رئيس الجمهورية إلى رئيس المجلس إلى رئيس الحكومة إلى رئيس الحزب إلى رئيس النقابة إلى رئيس جمعية الحبل بلا دنس. الرئيس فوق الحساب أما الشعب فتحت الحساب، وهو من يدفع الحساب دائماً.
* * *
وحديث النيابات والمجالس يفتح الباب لحديث الانتخابات، في لبنان، وقوانينها العجائبية.
فبعد أكثر من سبعين عاماً من التجارب الانتخابية، خلال الانتداب، وفي عهد »استقلال الدولة« ثم في ظل »دولة الاستقلال«، وأخيراً في دولة ما بعد الحرب الأهلية (اتفاق الطائف) لم يستقر لبنان (الرسمي) على قانون انتخابي واحد له طابع الديمومة بما يؤكد فيه »قواعد« اللعبة الديموقراطية في تمثيل أهله.
جرّب بعض حكامه تكبير الدوائر وجرّب بعض آخر تصغيرها، وجرّب آخرون الصيغة الوسطى، ثم جرى تكبير المكبّر، وكانت لكل صيغة حيثياتها وتبريراتها المرتبطة باللحظة السياسية والتوازنات بين أقطاب اللعبة وليس بالإرادة الشعبية أو بهدف سامٍ مثل تدعيم الوحدة الوطنية.
في كل انتخابات كانت »الديموقراطية« تتعرّض لإعادة تفصيل وتقطيع لكي تأتي على مقاس مزوّريها ومنتحلي صفة تمثيلها… مرة ممطوطة بالطول لتشمل محافظتين، ومرة مقطعة بالعرض لتتسع لقطبين مع كتلتيهما، ومرة تقص المحافظة الواحدة إلى ثلاث دوائر، ثم تجمع الثلاث في واحدة.. بالمعارضة.
ان الانتخابات، في التجارب اللبنانية، تكاد تكون الأداة اللاغية للديموقراطية وليست منبتها أو مصدرها الأصلي.
أما على الصعيد العربي فقد حرِّمت الديموقراطية أو هي اعتبرت بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار… وانتهى الأمر بأن صارت الديموقراطية اشتراطاً أميركياً على الحاكم العربي الذي في الغالب الأعم لم يعد يملك لتأكيد حقه »الشرعي« في الحكم الا شطب معارضيه جميعاً، والاستمرار في السلطة بالديموقراطية!. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أليست هذه احدى خلاصات تجربة صدام حسين في إخضاع العراق لطغيانه باستفتاءات المئة في المئة من أصوات الشعب!! والتي انتهت بالاحتلال الأميركي (بغير مقاومة تذكر).
* * *
عبر المناقشة مع »الأجنبي« يتكشف لك المزيد من الحقائق التي نحاول نسيانها أو الهرب من مواجهتها، وبينها:
ان الخيار الذي يفرض على »المواطن العربي« هو بين أمرين أحلاهما مر:
÷ ففي العراق، مثلاً الخيار هو بين »سيادة« تحت الاحتلال ومعه، أو الديموقراطية ولا وطن… لأن »الديموقراطية« المعروضة على العراق ستنتهي إلى تثبيت الاحتلال خوفاً على وحدة الوطن من ان تتقاسمه الأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية الخ.
÷ وفي الجزائر كادت التجربة الديموقراطية اليتيمة، في ظل الحكم العسكري، ان تؤدي إلى الحرب الأهلية… وهكذا، فقد الجزائريون أمنهم الشخصي واستقرار بلادهم (واحتمالات تقدمها) وحرموا من الاستمتاع بالديموقراطية، ولو في نسخة أولى قد لا تكون نموذجية، ولكن الممارسة كفيلة بتصحيحها.
÷ في مصر وأقطار عربية أخرى كثيرة، يمكن ادراج لبنان بينها، الخيار هو بين الاستقرار في ظل ديموقراطية غير ديموقراطية أو الانقسام والفتنة والعياذ بالله..
÷ في السودان تكاد الديموقراطية ترتبط بالانفصال، كأنما وحدة البلاد خطر على حريات السودانيين أو العكس.
÷ في الكويت وأنحاء الخليج يحاول المبهورون بالقوة الأميركية الجبارة الترويج للديموقراطية باعتبارها العلاج الشافي من العروبة… لأن العروبة في منطقهم تعني الدكتاتورية وفرض الوحدة بالغزو العسكري، وهم يستشهدون بمقامرة صدام حسين لتأكيد صحة هذه »المعادلة« التي ابتدعها طاغية قصير النظر!
÷ في السعودية كاد بعض المغالين في استغلال الشعار الديني لاغراض سياسية يصورون الديموقراطية اعتراضاً على الاحكام الإلهية وخروجاً على طاعة أولي الأمر وردة عن احكام الدين الحنيف.
* * *
… ونعود إلى لبنان فإذا الأحاديث الرئاسية تمنن اللبنانيين بأن السلطة ستسمح لهم بممارسة حقوقهم الطبيعية التي يكفلها الدستور، فتتم الانتخابات البلدية في موعدها القانوني!
أما الانتخابات الأرفع مستوى فمصيرها معلق.
… وأما المجلس النيابي فقد مددت ولايته الدستورية استثنائياً ولمرة واحدة، حتى يكون له وليس لمن يأتي بعده شرف اعلان اسم رئيس الجمهورية، ومن بعد يقوم هذا الرئيس العتيد جديداً أو مجدداً له بالتمديد برد الجميل فيجدد للذين رفعوه (أو ثبتوه) في سدة الرئاسة الأولى… وكما تراني يا جميل أراك!
ولقد عدت من بريطانيا بسؤال ما زال معلقاً في ذهني لا أملك له جواباً هو التالي: ترى كم يحتاج الانكليز وسائر شعوب أوروبا من زمن لبناء الديموقراطية في بلدانهم »المتخلفة«؟!

Exit mobile version