طلال سلمان

ومن يفتح في دمشق باب كلام عن لبنان

الطريق بين بيروت ودمشق مقفلة على الخطين بالغضب والمرارة وخيبة الأمل والرغبة في الانتقام.
وليست مواكب الشاحنات الموقوفة عند »خشبة القطيعة« بسائقيها من الرجال المتروكين للشمس والريح، والبضائع المصدّرة إلى ما وراء جبل الغضب السوري، إلا المظهر السطحي للمرض الخطير الذي يتهدد علاقات الأخوة التي أُنزلت من »الطبيعي« إلى »المميّز« وجرى تقنينها في معاهدات واتفاقات وبروتوكولات لم يلمس لها أثر في حياتهم من قبل، ولا هي منعت هذه »الإجراءات الأمنية« المتعسفة، اليوم.
الأخطر أن تلك المعاهدات لم تصمد لفورة الغضب التي أعقبت الانسحاب السوري، الذي تأخر عن موعده الطبيعي فصار هزيمة، وصيّرته أخطاء الممارسات مطلباً وطنياً وأداة ابتزاز دولي لسوريا ومدخلاً إلى الوصاية الأجنبية على لبنان، وبالتالي إلى محاصرة سوريا.
لكأن لبنان اليوم غير ما كان بالأمس، بل لعله أقرب لأن يكون نقيضه.
ولكأن سوريا اليوم هي غير ما كانت بذاتها، وغير ما كانته في لبنان.
لكأن هوة عميقة انفتحت بين البلدين الشقيقين منذرة بمخاطر تتجاوز الحاضر إلى المستقبل، وتتخطى النظامين الحاكمين إلى الشعبين اللذين وصل الأمر بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى اعتبارهما »شعباً واحداً في دولتين«، ثم خطا وريثه الرئيس بشار الأسد خطوة أوسع في اتجاه الاعتراف الرسمي والعملي بالجمهورية اللبنانية، كدولة شقيقة ولكنها مستقلة.
أخطر ما في هذا الوضع الشاذ الذي يحكم العلاقة بين البلدين، في هذه اللحظة، أنه متروك للريح لا يجد من يعالجه جدياً، ويخرجه من دائرة الانفعال إلى التصرف المسؤول والحافظ لمصالح الشعبين الشقيقين.
وأبأس ما في توقيته أنه يقع في لحظة شلل مطلق للسلطة في لبنان، العاجزة عن استكمال هيئاتها الرسمية بحكومة مسؤولة، بينما رئيس الجمهورية فيها معطل دوره، بالرغبة في تعديل الأمر الواقع مع وعيه بصعوبة مثل هذا التعديل في ظل ميزان القوى الداخلية الذي أفرزته الانتخابات بالأمر ووفق قانون مطعون فيه وبتوقيت لا يخدم غير الهياج الطائفي والمستفيدين منه.
هو لغم يعترض طريق إعادة صياغة العلاقات بين البلدين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر… التي لا تجد من يهتم بها بما ينقذ الأخوة من أن تتحول إلى قطيعة تستغلها قوى الوصاية الدولية لمصلحتها على حساب مصلحة البلدين في الحاضر والمستقبل؟
ولكن… مَن يجرؤ على فتح باب الحديث مع دمشق، ومتى وكيف يمكن أن تكون دمشق جاهزة للحديث مباشرة إلى لبنان لحسم القضايا والمشكلات والمسائل المختلف عليها وتصفية تركة »العهد« الذي صار ماضياً من أجل استنقاذ المستقبل.
* * *
ربما في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أو قبلها بأسابيع، بدأ العمل دولياً لإخراج سوريا من لبنان. ولقد أفادت القوى الدولية ذات الغرض من تدهور العلاقات بين البلدين سياسياً، بالأساس، وافتراق التكتلات والتحالفات التي كان يجمعها »الخط« لأسباب شتى بينها اقتراب موعد انتهاء الولاية، والاستعداد لانتخاب رئيس للجمهورية.
وكان أبأس ما تمّ الترويج له في هذا المجال أن بعض السياسيين اللبنانيين، الذين صنفوا فجأة »معادين لسوريا« هم الذين حرّضوا »الدول« حتى أقنعوها ثم تبرعوا فكتبوا لها نص قرار مجلس الأمن الدولي 1559. ومن أسف أن ثمة في دمشق من صدق هذه الترهات ومن اعتمدها في أحكامه وقراراته والتي كان أخطرها أثراً: قرار التمديد للرئيس لحود.
منذ تلك اللحظة انقطع حبل الكلام بين لبنان وسوريا، وانفتح البوغاز اللبناني المكبوت، بالمصلحة أو بالغضب، بخيبة الأمل أو بالرغبة، في وجه دمشق التي تبدت ضعيفة الحجة في ما أقدمت عليه، لا سيما أنها كانت تقدر على الأفضل للبنان ولها.. وبغير اعتراض جدي.
لم يكن تبرير التمديد ممكناً في لبنان. ومع أنه تمّ بالأكثرية النيابية فلقد كان مرفوضاً بما يشبه الإجماع الشعبي…
وجاء القرار 1559، الذي استبقه بساعات، ليعطي التمديد أبعاداً من الخطورة تجاوزت كل التقديرات، في بيروت كما في دمشق… فقد فَقَدَ التمديد »سحره« كسلاح دفاعي لا راد له، في وجه الهجوم الأميركي الفرنسي، بدليل أن هذا القرار صدر عشية إقرار التمديد بالأمر، وبتبريرات لم يستطع قبولها أقرب الحلفاء إلى دمشق.. فهم التزموا بغير أن يؤمنوا بجدوى التمديد، محمّلين المسؤولية لصاحب القرار.
بعد التمديد تلطخ الحوار المختل أصلاً والذي صار أشبه بأسطوانة مشروخة، بالدم: وقعت محاولة اغتيال مروان حمادة، أحد رموز معارضة التمديد، ما وضع المستفيدين من التمديد، والذين سيصير اسمهم بعد اليوم »دولة النظام الأمني«، في موقع المتهم بالجريمة.
وبعد التمديد اضطر كبير حلفاء دمشق، الرئيس رفيق الحريري، إلى الخروج من سلطة تبيّن له عملياً وبالتجربة المرة أنْ ليس له مكان فعلي فيها.
ثم كان أن انشطر الجسم السياسي، الذي رعت دمشق قيامه ونموه وتوزعه مسؤوليات السلطة ومغانمها، على نفسه، خصوصاً أن الحرب الدولية على دمشق قد تزايدت عنفاً، ثم إن الانتخابات النيابية كانت على الأبواب..
وكان من نتائج انشقاق الأكثرية على نفسها أن فرضت عزلة قاسية على رئيس الجمهورية. وحين شكّلت هذه الأكثرية حكومتها الكرامية كانت تلجأ إلى خط دفاع أخير متهالك ولا يملك من »الذخيرة السياسية« ما يكفي لحماية ذاته فكيف بحماية »العهد الممدّد له«.
لم تتأخر الكارثة عن موعدها المرتقب، وإن كانت تجاوزت أي تقدير: فظهر الاثنين الأسود الواقع فيه 14 شباط 2005 تفجّر قلب بيروت وسقط رفيق الحريري شهيداً ومعه صحبة من أصدقائه ومرافقيه أبرزهم الوزير السابق باسل فليحان.
ولقد أصاب الانفجار القاتل الوجود السوري في الصميم، فاختفت كل إيجابياته التي استهلكها الزمن والأخطاء والارتكابات، ولم يتبق منه إلا فعلة التمديد التي أسقطت الحصانات وحللت المحرمات وحوّلت لبنان إلى شعب ناقم يتفجر بطلب الثأر من الغلط السياسي الذي أرقص الدم وأدخل البلاد في دوامة الموت.
انغلق باب الحوار مع سوريا، تماماً: سدته الهتافات المعادية التي تجاوزت كل حد، فشملت إلى النظام الشعب، وصبّت جام غضبها على الموجودين في لبنان أو القادمين إليه، فضلاً عن الرموز السياسية التي ابتدعتها والتي تهاوت كالكرتون..
تبدى وكأن سوريا، التي استهولت هذه الغضبة الثأرية، لم تعد ترغب في أن تسمع ما يقوله اللبنانيون فيها قيادة وجيشاً ومخابرات وصولاً إلى شعبها وكل ما يقولونه يسوؤها..
وتبدى كأن اللبنانيين لم يعودوا معنيين إلا بأمر واحد هو خروج سوريا من لبنان.. فمن حاول أن يبرئها من الدم حمّلها مسؤولية وقوع الجريمة (التي ما زال مرتكبوها مجهولين)، كما أحال إليها مسؤولية »النظام الأمني« الذي كانت ترعاه وتوجهه وتقوده.
في لحظة تهاوى كل ذلك البناء الذي استغرقت إقامته زمناً عزيزاً… وكان رد فعل سوريا مستهجناً: انغلقت على مرارتها وقررت أن تنسى لبنان، إلا كمصدر للشر والخيبة ونقص الوفاء ونكران الجميل!
وقال قائل السوريين: ماذا يريد منا اللبنانيون أكثر؟! لقد اعترف رئيسنا بأننا قد ارتكبنا أخطاء.. ثم إننا قد انسحبنا من بلادهم فلماذا يطاردوننا داخل بلادنا! لماذا يحاولون أن ينقلوا إلينا أمراضهم الطائفية والمذهبية؟! لماذا يريدوننا أن نتنكر مثلهم لهويتنا وانتمائنا القومي وقيمنا العليا؟ لماذا يشهّرون بنظامنا العلماني بينما تتعاظم هجمة الأصوليات علينا، كما في المنطقة بكاملها، بل في العالم قاطبة؟! لماذا يستعينون علينا بالأجنبي؟! لماذا يوقعون علينا الحرم بينما يجعلون عملاء إسرائيل نواباً وقيادات لعهدهم الجديد؟!
وقال قائلهم: لقد أخطأنا في لبنان. ارتكبنا أخطاء جسيمة، فعلاً.. لكن من يمثل »الادعاء العام« هو في الغالب الأعم شريكنا والمستفيد من وجودنا، مالاً ونفوذاً، وجاهة وشعبية، ثروة وتسلطاً.. بل إن كثيرين من هؤلاء قد جلبوا علينا النقمة في لبنان وفي سوريا.
وزاد قائلهم فقال: لم يكن ثمة من شعار في الانتخابات النيابية، لا سيما في المناطق المتاخمة لحدودنا، والتي كانت مفتوحة على الدوام لهم، إلا العداء لسوريا. كان معيار النجاح البلاغة في شتم سوريا والسوريين، والتشهير بالحكم والشعب والجيش والمخابرات وصولاً إلى العمال الذين أسهموا في بناء لبنان، والذين أعطوه أكثر بكثير مما أخذوا منه.
لكن ما قاله اللبنانيون ظل مطلقاً، خصوصاً أن السلطة في لبنان منقسمة على ذاتها ومشلولة: لا هي معنية ولا هي قادرة على المطالبة، أو على الذهاب إلى دمشق لتصفية تركة الماضي..
كذلك فإن ما قاله ويقوله السوريون ظل مطلقاً، بذريعة أنهم يعانون بعد من »الغدر اللبناني«، وأنهم سينتظرون نتائج التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد (الذي سيُثبت براءتهم منها) ليستأنفوا الكلام من خارج موقع المتهم بالقتل، ومن ثم المستعد للحساب عما تقدم من الأخطاء وما تأخر..
في انتظار ذلك كله تظل الطريق بين دمشق وبيروت مقفلة بالغضب الذي تعاظم فبات يشكل إيذاءً مباشراً لمستقبل العلاقات بين البلدين الشقيقين.
.. ويخلو الجو للتدخل الدولي كي يعمّق الخلاف ويقنّن القطيعة بين الشعبين، ويستخدم هذا المناخ المسموم لإيذاء البلدين الشقيقين..
والكلمة بعد للقيادة السورية.
لقد شكلت الأخطاء بحراً، يمكن للدول الأجنبية وليس لصيادي الأسماك المساكين أن تغرف منه لإحداث قطيعة قاسية بين الدولتين المتكاملتين..
وإذا كان لبنان يعاني من مشكلاته المعقدة والكثيرة فهل يمكن أن يشكل »العقاب السوري« مخرجاً من هذه المشكلات؟! وهل في مصلحة سوريا أن تتعمّق وتتجذر مشاعر الحنق والغضب والخيبة بإجراءات تزيد من إيلام اللبنانيين والسوريين ولكنها لا تفيد مطلقاً في الخروج من نفق المشاعر العدائية إلى الأفق المفتوح لإعادة بناء هذه العلاقة على قاعدة من المصالح والإقرار »باستقلال« كل دولة من أجل التكامل لا التباعد، ولا خاصة القطيعة..
ولكن، ترى إلى مَن يوجه الخطاب في دمشق،
خصوصاً أن ليس ثمة مَن يجرؤ في بيروت على فتح باب الكلام معها، للتعذر فوق قمة السلطة التي انتهكت شرعيتها بالتمديد ثم انتهكت وطنيتها بما جرى بعد ذلك.. وما أخطره.
طلال سلمان

Exit mobile version