طلال سلمان

ومصر »خارج سياسة« تبديل وزراء لا يعني »التغيير«

هَزُلَتْ… حتى صار تعديل حكومة متهالكة فشلاً وإعياءً، مهدودة الحيل بفعل الشيخوخة، مشهر إفلاسها المالي والإداري وعجزها عن إصلاح الإدارة فضلاً عن تحديثها، يتطلب أسبوعاً من الترشيحات والتقديرات والتخمينات توّجه الفشل في العثور على وزير للسياحة في »مصر المحروسة«!
هَزُلَتْ… حتى صارت »أسرة السيد الرئيس« في متناول الألسنة والأقلام، يُحسب بعض المرشحين على »السيدة الأولى« في حين يُحسب آخرون على »النجل الثاني للسيد الرئيس«، ولولا بعض التحفظ وخوف العقاب لذُكر في تزكية هذا أو ذاك من المستوزرين أو من الموزرين سلفاً أنهم »شركاء« أو في موقع الشركاء »للنجل الأول للسيد الرئيس«!
هَزُلَتْ… حتى استقر »الحزب الحاكم« في موقعه الطبيعي كآخر من يعلم، وبالتالي آخر من يُسأل رأيه في الحكومة الجديدة أو أعضائها… أما مجلس الشعب فيشرعن القرار المتخذ بغض النظر عن الأسماء، ويمنح الثقة لمن اختارهم »السيد الرئيس« الذي جاء تبديل الحكومة ليؤكد أنه قد استعاد كامل عافيته بعدما تخلص من الغضروف الذي كان يزعجه ويعطل قدرته على الإنجاز.
للإنصاف فإن مثل هذا الهزال في الحياة السياسية لا يخص مصر وحدها، بل هو »ظاهرة« عربية عامة، حيث صارت »السياسة« اختصاصاً لواحد أحد لا شريك له في الحكم، وإن كان له الكثير من »المعاونين« و»المستشارين« و»منفذي التوجيهات«.
فمن زمن بعيد فقدت الحكومات في مختلف الأقطار العربية »صفتها السياسية« وبالتالي »دورها السياسي«. صارت أقرب إلى ان تكون إدارة تنفيذية عليا للجهاز البيروقراطي، تأتي إلى »السلطة التنفيذية« باعتبارها »حكومة جلالة الملك« أو »حكومة السيد الرئيس«، تحوّل أوامره وتوجيهاته، وأحياناً تقديراته وتوجيهاته إلى »قرارات«.
فالقرار لصاحب القرار، بوصفه »القائد« و»الموجّه« و»المسؤول السياسي« الأول والأخير، بل الأوحد، في حين أن »حكومته« بوزرائها جميعاً حفنة من التكنوقراط وأصحاب الخبرة كل في مجال اختصاصه، ولا علاقة لهم بالسياسة من بعيد أو قريب (بمن في ذلك وزير الخارجية..)، لأن »السياسة« من اختصاص »القائد« ملكاً كان أم رئيساً أم أميراً جعل نفسه ملكاً صاحب عظمة أم شيخاً جعل نفسه أميراً صاحب سمو!
بالمقابل فإن البرلمانات التي أعطيت ألقاباً مفخمة مثل »مجلس الأمة« أو »مجلس الشعب« أو »المجلس الوطني« أو »مجلس الشورى« (حيث استحدثت هذه المجالس) فإنها أقرب إلى أن تكون »حامل أختام الملك« تكاد مهمتها تقتصر على المصادقة على ما يقرره »القائد« عبر الحكومة، منها إلى أن تكون الملتقى المنظِّم للصراع بين القوى السياسية المنتخبة فعلاً في ضوء برامجها المعبّرة عن احتياجات »الشعب« وطموحاته
إلى حياة كريمة في مجتمع سليم ومؤهل لأن يتقدم إلى غده بكفاءة النخبة من أبنائه المؤهلين… والمتشوقين إلى الديموقراطية والقادرين على ممارستها.
بهذا المعنى فإن مصر هي الأخرى »خارج السياسة«، أي أن الحكم فيها قد أغلق على نفسه الباب، وتخلى عن لعب الدور السياسي المؤثر والفاعل والحيوي والضروري الذي من حق مصر أن تمارسه في محيطها كما على المستوى الدولي.
وقد يكون السبب عائداً إلى إحساس الحكم بضعفه، وباضطراره إلى معونة الخارج (الأميركي في الغالب الأعم)، ليس فقط في ما يتصل باحتياجات جيشه عسكرياً (السلاح والتدريب) واحتياجات شعبه غذائياً (القمح) واحتياجات اقتصاده لكي ينهض بالخصخصة وبيع القطاع العام والتوقف عن تعيين المتخرجين الجدد وإلغاء ما ترتب على الإصلاح الزراعي إلخ فيُقبل آنذاك بين »الدول السائرة في طريق النمو« ويعتمده صندوق النقد الدولي ويدعى المسؤولون فيه إلى نوادي الأغنياء من دافوس السويسرية إلى الشونة الأردنية!
المهم أن حكومة جديدة قد تمّ تشكيلها في مصر بعدما تمّ العثور على وزير للسياحة، وأن أنهاراً من الحبر قد سالت في امتداح كفاءات من حظوا بثقة »السيد الرئيس«… وفي طليعة الكفاءات »أعمار« الوزراء الجدد، خصوصاً أن بين مَن أُريح أخيراً مِن عبء مقعده الوزاري مَن قد تجاوز الثمانين، وبينهم مَن كان يطالب منذ سنوات بإخلاء سبيله متذرعاً بأنه بات ينسى أن يذهب إلى مكتبه فإذا ما ذهب نسي ماذا عليه أن يفعل هناك ثم نسي أن يعود إلى البيت، لولا يقظة مدير مكتبه الهمام وسائقه الفحل وهواتف الإلحاح عليه التي تتوالى عليه كالمطر من السيدة عقيلته حتى لا يفسد طعام الغداء!
وبالتأكيد فإن في الحكومة الجديدة مجموعة من أهل الكفاءة والخبرة والطموح إلى الإنجاز.
لكن المشكلة لم تكن يوماً في الحكومة، رئيساً ووزراء، وبغض النظر عن أشخاصهم وأهليتهم، بل كانت دائماً في القرار السياسي..
فإذا كان رأي الإدارة الأميركية هو المنطلق والأساس في القرار السياسي، وكان على القاهرة التنفيذ فحسب، فإن اجتهدت فعليها ألا تغضب صاحب الأمر فيوقف المساعدات..
وطالما أن »الرأي« الأميركي في ما يخص منطقتنا يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن المطلب الإسرائيلي،
وطالما أن أي »قرار مستقل« قد يعتبر انتهاكاً لمعاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، سواء اتصل الأمر بفلسطين (أو حتى برفح التي على حدودها) أم بتصدير النفط أو الغاز، أم بمواصلة دعم الرغيف ومحاولة تأمين عيش الكفاف لملايين المصريين الذين لا يجدون فرص عمل تتناسب مع مؤهلاتهم،
وطالما أن »رجال الأعمال« من »القطط السمان« يحظون بالرعاية الأميركية فتطلب لهم دوراً في السلطة يتناسب مع أنشطتهم الاقتصادية (التي غالباً ما تمت وتتم على حساب المال العام فضلاً عن الاختلاسات والسرقات الموصوفة والرشى الفلكية بأرقامها)،
وطالما أن المؤسسات مفرغة من مضامينها، يستوي في ذلك مجلس الشعب ومجلس الشورى و»الأحزاب« بدءاً بالحزب الحاكم (الذي تمّ تبديل اسمه مرات عدة من أن يتبدل واحد في مواقعه القيادية) وانتهاءً بأحزاب المعارضة التي لم يخطئ مَن وصفها بأنها »بواقي« تخلفت من عصر مضى وانقضى، ولم يعد لها من مبرّر وجود غير حاجة النظام إليها في ديكوره الديموقراطي..
طالما استمر ذلك كله فلن يكون للتعديل الحكومي أي تأثير في إعادة مصر إلى دورها، أي إلى السياسة، من دون أن يعني هذا الكلام بخس الوزراء الجدد حقهم في تقدير أهليتهم أو كفاءاتهم في اختصاصاتهم التقنية.
ستظل مصر خارج السياسة، حتى تستعيد قرارها.
واستعادة القرار والموقع القيادي والأهلية لأن تكون »مرجعاً« في مختلف شؤون المنطقة، وليس في أمورها الداخلية فحسب، يتطلب أكثر من تبديل أو تعديل في »حكومة السيد الرئيس«.
… ويظل الأمل معلقاً على »وزير السياحة« العتيد لكي يعوّض النقص ويعالج الخلل!

Exit mobile version