طلال سلمان

ولماذا مفاوضات ولا انسحاب

تشير الوقائع الميدانية إلى أن قادة جيش العدو الإسرائيلي سيستمرون لمزيد من الوقت في صرف جزء أساسي من ساعات دوامهم اليومي في تشييع القتلى من ضباطهم وجنودهم والملتحقين بهم من العملاء في ميليشيا لحد، وسيخصص كتبة الإعلام العسكري بعض وقتهم لتدبيج خطب التأبين ورسائل التعزية والتعهّد بالانتقام الشديد!
ولعل تعليمات ستصدر غداً إلى وحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأرض اللبنانية بإقفال »كوى الرصد« في تحصيناتهم حتى لا تظل مصدراً لموتهم الجماعي، فيقبعون في حصون مقفلة من جهاتها الست (بإضافة تحت وفوق)، فيكون على مجاهدي المقاومة الباسلة أن يبحثوا عن وسيلة أخرى لاصطيادهم وإعادتهم من حيث أتوا ضحايا إضافيين للمكابرة الإسرائيلية في رفض الانسحاب إلا بشروط »أكرم« منها الاحتلال!
ومع أن القيادة السياسية للعدو تعلن بأنه »لا يجوز أن يحدد لنا »حزب الله« رد فعلنا« فإنها تندفع برد الفعل العصبي إلى أقصاه »منذرة« بأن »غياب الأجواء المناسبة يجعل من العسير علينا الاستمرار في العملية التفاوضية«!!
أما في المفاوضات فإن إيهود باراك يرفض التعهّد بالانسحاب، ويرفض ترسيم الحدود مع سوريا (خط 4 حزيران)، بينما يحاول »قضم« بعض الأرض اللبنانية بنقل الإشارات والعلامات التي استند إليها الانتدابان الفرنسي والبريطاني في العام 1923 لترسيم الحدود اللبنانية الفلسطينية.. (والطريف أنه يواصل لعب ورقته المكشوفة ذاتها: التعهد بالانسحاب، وباتفاق قبل تموز 2000)؟!
وطالما لا انسحاب من كامل الأرض المحتلة فلماذا التفاوض؟!
بل إن التفاوض في غياب الانسحاب المؤكد والكامل يقترب من حافة التفريط بالأرض والمياه والسيادة والأمن.
أي أن باراك يريد أن يقبض ثمن احتلاله بأكثر مما كان يأخذ بقوة الاحتلال!
إنه يريد السلام ومعه الأرض!
وها هي الأرض تقاتل مَن يحتلها، وتتحوّل إلى مقبرة لجنوده ولعملائه الذين باعوا وطنهم بثلاثين من الفضة.
ولن تستطيع القيادة الإسرائيلية الادعاء بأن ضباطها وجنودها محصّنون ضد الموت وأكفأ في صده من عملائهم في ميليشيا لحد، فإذا كان عقل هاشم قد بدأ »رقيباً« وانتهى بالمكافأة على الكفاءة »عقيداً« فإن تيد هارتمبلهوف »رائد« وخريج الكلية العسكرية الإسرائيلية، وقد سقط معه قتلى أو جرحى كل الجنود الذين كانوا معه في موقع العزية (والمعترَف بهم رسمياً سبعة..).
إذن فلا بد من العودة إلى النغمة القديمة: لا رجوع إلى طاولة المفاوضات قبل وقف »حزب الله«.. لكأنما المشكلة بدأت مع انبثاق »حزب الله« ومع تعاظم عملياته الجهادية، أو كأنه هو السبب في الاحتلال!
القفز من السبب إلى النتيجة، والتذرّع بوجع الضحية لتبرير الجريمة!
… وهل كانت المقاومة إلا بسبب الاحتلال ومن أجل تحرير الأرض منه؟!
ثم من أجل ماذا التفاوض؟! أليس من أجل الانسحاب كمدخل بل كثمن لتسوية مقبولة؟
من أسف أن بعض تجارب إسرائيل مع بعض الأطراف العربية قد شجعتها على اشتراط تسليم السلاح أولاً، والاعتراف بها، والتنازل لها عن بعض السيادة وبعض الموارد وبعض الثروات الوطنية، وبعد ذلك تذهب معهم إلى احتفال التوقيع بانتصارها »السلمي« في حديقة الورود خلف البيت الأبيض الأميركي.
ومن أسف أيضاً أن قادة إسرائيل عموماً، وآخرهم باراك، لا يتورّعون عن إطلاق التهديد بالغزو أو بالتدمير أو بالقتل الجماعي في لبنان بينما هم »ضيوف« في عواصم عربية وبحضور قادة عرب يفترض أنهم مسؤولون ولو معنوياً عن الأمة جميعاً.
ومن أسف أيضاً وأيضاً أن باراك ما زال بوسعه أن يكرّر اللعبة المفضوحة والممجوجة القديمة وهي أن يضع مساراً عربياً في وجه مسار آخر، سعياً إلى مزيد من التنازلات… والمخزي أن لعبته ما زالت تجوز على بعض الباحثين عن عذر من أجل مزيد من التفريط بأرضهم الوطنية وبالحقوق القومية (وها هم المفاوضون سراً يستأنفون مفاوضاتهم السرية، بينما رفاق لهم يفاوضون سراً، وربما في مكان غير بعيد.. من أجل صفقة سرية جديدة تذهب بالمزيد من حقوق الفلسطينيين في أرضهم..).
إن المفاوضات وسيلة وليست غاية بذاتها، ولا أحد يطلبها أو يسعى إليها لكي يعطي سلماً ما عجزت إسرائيل عن غصبه قتالاً.
ومما يزيد في شرف لبنان، ويعطيه مكانة متميّزة في الوطن العربي وفي العالم، أن المجاهدين البواسل من أبنائه البررة يقاتلون في صفوف المقاومة المجيدة لتحرير أرضه ولتحرير الإرادة العربية جميعاً، ويقاتلون في إسرائيل »العدو« بينما يطلبها بعض المهرولين في صورة »الشريك« ويكادون يتحالفون بل يتواطأون معها مفترضين أن ذلك سيجلب لهم الربح بينما هم لن يجنوا غير »جزاء سنمار«… ومعه الذل!
إن شبر أرض واحداً أغلى وأكرم من المفاوضات جميعاً… وخصوصاً أنه مطهّر حديثاً بدم الشهداء الذين يعطون حياتهم لحفظ كرامة أمتهم.

Exit mobile version