طلال سلمان

ولبنان يعج سياسة ويضج سياسيين مباراة على موقع مدمر اول

… أما لبنان فهو على نقيض معظم الأقطار العربية »يعج« بالسياسة »ويضج« بتصريحات »السياسيين« الذين ينبتون كالفطر ويغطون الأرض كالطحالب، فلا يحتاج »العمل السياسي« في هذه المرحلة لغير بعض الثرثرة التي أولها نفاق وآخرها شقاق!
للوهلة الأولى يفترض السائح أو المصطاف أو العابر أن اللبنانيين يتنفسون »سياسة« ويأكلون »سياسة« ويشربون »سياسة« وليس لهم من مهن ومصادر رزق وهوايات ومتع إلا »السياسة«!
يسألونك عن فضائح الكهرباء: لماذا أثيرت، وبهذا التوقيت، ولماذا يبدأ التحقيق فيها ولا ينتهي، فلا تجد جواباً غير أن الغرض السياسي قد أطلقها وأن النفوذ السياسي قد أوقفها عند خط وقف إطلاق النار بين قوى سياسية متحالفة في الظاهر ولكنها مختلفة »عقائدياً« على الحصص… والمال يتقدم على البنين حتى في النص المقدس، ولا سماح…
ويسألونك عن فضائح النفط التي يشيب الولدان لأرقام النصب المنظم فيها والمستمر على امتداد العهدين (وربما من قبل ذلك)، من أثارها ولماذا وما سر التوقيت، ثم ما هي »اليد العليا« التي تدخلت فأوقفت حتى إشعار آخر الوصول بالتحقيق إلى نهاياته الطبيعية… فيكون جوابك الاعتذاري المخجل: السياسة أعطت والسياسة أخذت!
… ويسألونك عن الكسارات والمرامل ولماذا وكيف أغلقت بعدما اكتشف المكتشفون فجأة أنها تدمر البيئة وتزلزل الأرض فتخفي عن سطحها جبالاً وتفتح في بطنها »فلقاً« أين منه خنادق خط ماجينو الشهير… فلا يكون أمامك غير أن تقول إن السياسة في لبنان تأتي بالخوارق والمعجزات فتحوّل الصخر إلى دولارات وتصطنع من الرمل ثروات تعجز عن صنعها مناجم من الماس، وأن من أخذ لم يعط ما عليه أن يعطيه، فنال جزاءه لأن »الانفراد« بالثروة و»التفرد« بالنفوذ ممنوع في عصر الإصلاح والديموقراطية وحقوق الإنسان.. ومن أخلّ بشروط »هات وخذ« قيل له: هذا يكفيك، لقد جاء غيرك… بهذا تقضي السياسة التي هي مصدر العدالة التي لم تغمض عيناها بالمصادفة، بل حرصاً عليها حتى لا ترى ما يزيّن لها العمى!
… ويسألونك عن الهاتف الخلوي وما جرى له فيه من عجائب وغرائب، وما درّ من ثروات لم يحلم بمثلها قارون ولا استطاع الوصول إلى معدلات الربح فيها بيل غيتس بكل عبقريته، فلا تجد جواباً غير القول إن للسياسة مقتضياتها، وإن مصلحة الوطن لا تتناقض مع مصالح بضعة من المواطنين، فمن »نفع« فرداً واحداً فقد أفاد الناس جميعاً، وان السياسة أعطت كثيرا والسياسة أخذت قليلاً، وسبحان من يعطي من يشاء بغير حساب!
… فإذا ما استدرجوك إلى تحديد الأسباب الموجبة للإضراب عن التخابر بواسطة الخلوي، اليوم بالذات وليس قبل عام أو عامين أو أربعة أعوام، وليس بعد شهر أو عام، فقل: إنها السياسة، حتى لو كان الغموض يطوّق بعض الأبرياء الذين تصدروا الدعوة إلى الإضراب من خارج السياسة!
… حتى الزبالة في لبنان تغوص في السياسة أو ان السياسة تغوص داخل أكوامها التي تدر ذهباً لمن عرف كيف يسوس الزبالة ويسيّسها فيدخلها ضمن البرنامج السياسي للإنقاذ!
ولأن للسياسيين مصالحهم المتضاربة فإن الحلفاء قد يقتتلون والشركاء قد يخرّون بعضهم بعضاً والأصدقاء قد يتخاصمون، ثم يغطون كل ذلك بالاختلاف على الخط السياسي، فيتلطى بعضهم وراء »المسار« في حين يتستر بعضهم الآخر بالحرص على »المصير«، وهكذا تنفرط وحدة المسار والمصير من أجل حفنة من الدولارات!
ولأن »العهد« إلى انتهاء فإن الكل يقاتل الكل بلا هوادة، »فالضرورات تبيح المحظورات«، أو على حد قول الشاعر »إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر«، وهو شعر انتحله لنفسه أحد ملوك فرنسا وحرّفه فجعله »أنا ومن بعدي الطوفان«.
وليس سراً سياسياً خطيراً أن معظم سياسيي لبنان هم من أتباع هذه المدرسة المؤمنة والملتزمة بخط مكيافيلي الذي لا يموت، والقائل بأن الغاية تبرّر الوسيلة.
وهكذا يُتم أهل السلطة واجبهم في شطب الدولة في لبنان منهجياً وبأسلحة الدمار السياسي الشامل:
يخرب الكل، مشتركين ومنفردين، ما تبقى من المؤسسات المتهالكة، أصلاً، ويدمرون ما تبقى من الإدارات المعطَّلة والمعطِّلة، من زمان.
بل إننا نشهد مبارزة غير مسبوقة في التاريخ عنوانها: مَن مِن أهل السلطة يفوز في سباق تدمير الدولة جميعاً؟!
إن الرؤساء بمجملهم، والوزراء بعديدهم اللجب وبالتواطؤ مع النواب الأشاوس (حراس الدستور) يتبارون في سباق جهنمي عنوانه أن العهد المقبل سيكون من نصيب »المدمِّر الأول« أو »المخرّب الأعظم« أو المفجّر الأخطر«…
ومن الحنكة السياسية أن يتواطأ الجميع في التدمير المنهجي للدولة التي استنزفوها حتى صار وجودها رمزياً، ذلك أن مشاركة الكل في مثل هذه الخدمة التاريخية الباهرة تعفي الكل من المسؤولية، فيستطيع كل واحد منهم أن يتهم الآخرين فتكون النتيجة السياسية لهذا الإنجاز أن تثبت براءة الجميع وطهارة الجميع ونظافة أكف الجميع…
ويكون على المواطنين العاجزين عن فهم اللعبة السياسية أن يدفعوا من جديد كلفة كهرباء لن تضيء بيوتهم، وأثماناً وهمية لنفط لم تستهلكه معامل التوليد ولا تمّ تخزينه، وأثماناً أعلى للبحص والرمل وسائر مستلزمات البناء، وأسعاراً أعلى لرفع الزبالة من الشوارع، واستنزافاً مريعاً لخزينة منهكة في إدامة إدارة لا تعمل.
لكأنما العهد الجديد سيطل من باب الخراب…
أليس هكذا تُساس الإبل، أيها اللبنانيون؟!

Exit mobile version