طلال سلمان

وقوفا عند باب مصر في انتظار عودتها الى ذاتها

على غير موعد، تلاقى في صالات السفر بمطار بيروت مئات من اللبنانيين الذين اختاروا أن يذهبوا إلى شرم الشيخ، في مصر، لتمضية عطلة عيد الفصح عند الطوائف المسيحية الشرقية.
كانوا خليطاً من أبناء مختلف المناطق والطوائف، الإسلامية والمسيحية، وغالبيتهم الساحقة عائلات فيها الأجداد والأبناء والأحفاد، ونفر من الشبان والصبايا جمعتهم الرغبة في أن يكونوا معاً في هذه الإجازة القصيرة (خمسة أيام تمتد من فجر الخميس وحتى مساء الإثنين).
كانوا بأكثريتهم الساحقة قد حصلوا على تأشيرة دخول من السفارة المصرية في بيروت… حتى من تجاوز سن الستين حرص على أن يحمل جوازه تأشيرة منعاً لأي إشكال أو التباس.
وحدهم حملة جوازات السفر الأميركية والكندية والأوروبية كانوا بغنى عن تلك التأشيرة، باعتبار أنهم «أصدقاء» أو «متحضّرون» وليسوا من أهل الشغب كأبناء العمومة أو الخؤولة من العرب.
في الطائرة المصرية وُزعت على الركاب الذاهبين طلباً لمتعة الإجازة الصحف ذات العناوين الصاخبة والتعابير الخارجة عن المألوف والكلمات أو النعوت الجارحة المطلقة ضد «الشيعة» عموماً، مع تركيز قوي على السيد حسن نصر الله والمنتمين إلى «حزب الله»… وبالاستطراد إلى إيران الثورة الإسلامية، وإلى كل من جهر بعلاقته مع الحزب أو صداقته لطهران.
لم يتوقف أحد من الركاب أمام ما قرأوه، ولو عبر العناوين ذات الحروف الكبيرة وبالأحمر. لم يجدوا في الأمر ما يعنيهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية.
في المطار كان الازدحام يعيق الحركة… مع ذلك فإن ركاباً آخرين من غير العرب كانوا يعبرون مرور الكرام من أمام موظفي الجوازات. أما اللبنانيون فكان عليهم أن ينتظروا في الطابور طويلاً وطويلاً جداً… وحتى عندما عبروا إلى الصالة الثانية طُلب إليهم أن «يرتاحوا» في انتظار أن يتسلموا جوازاتهم التي أُخذت إلى بعض المكاتب فاختفت خلف أبوابها المغلقة.
لم يكن في قاعة الانتظار أية كراسيّ أو كنبات.. وكان على الجميع كهولاً وشباباً، نساءً ورجالاً، فتية وأطفالاً أن ينتظروا واقفين.
مرت الدقائق ثقيلة. صارت الدقائق ساعة. صارت الساعة ساعتين والحشد ينتظر ما لا يعرفه. تعب الكهول فتهالكوا على الأرض، في حين تشاغلت النساء بالثرثرة، ووجد الأولاد في الصالة الفسيحة ملعباً أنيقاً فاندفعوا يتقافزون ويتراكضون.
بعد الساعة الثانية من الانتظار العبثي، غير مفهوم الأسباب، وغير المحدّد الميقات، بدأ الغضب يعبّر عن نفسه بهمهمات سرعان ما تحولت إلى أسئلة صاخبة: ما دامت جوازاتنا تحمل التأشيرة وعليها شعار جمهورية مصر العربية فمعنى ذلك أن لا مانع، أمنياً، من قدومنا، فلماذا هذا الإذلال الآن، وما هو المبرّر؟!
لم يكن ثمة من يجيب على أي سؤال.
صرخ رب عائلة ضاق بأولاده ذرعاً: ها نحن كأهل غزة. لا نجدة تصل إلينا، والمعبر مقفل!
جاء إليه بعض رفاق الرحلة يرجونه أن يصمت، وإلا تعرض الجميع لمساءلة بلا معنى: دع غزة لمصيرها! لقد تركها العرب جميعاً لإسرائيل تذلها بتجويع شعبها تحت الحصار. دعنا نخرج من هنا، وبعد ذلك سنقول رأينا صريحاً.
بعد ثلاث ساعات من الانتظار جاءت الخاتمة السعيدة اعتذاراً رقيقاً عن سوء تدبير غير مبرّر، نسبه بعض الموظفين إلى السفارة، وإلى نقص «التأشيرة الأمنية»، وهو أمر يصعب شرحه، لأن التأشيرة إنما هي بالأساس نتيجة تدقيق أمني، أو هكذا يفترض أن يكون!
[ [ [
خمس طائرات مصرية إضافية في يوم واحد، ركابها لبنانيون ينتمون إلى مختلف الأديان والطوائف، وبينهم نسبة ملحوظة من الشيعة.
ماذا يعني هذا؟!

يعني أن اللبنانيين، بمجموعهم، لم يهتموا كثيراً لأمر الاتهامات التي كالتها القاهرة لقيادة «حزب الله» وشبكته التي تعمل لقلب النظام في مصر، والتي استدلت عليها بتوقيف عضو في «حزب الله» كان يعمل بالتعاون مع آخرين لإيصال بعض المدد إلى الفلسطينيين المحاصرين (حتى الموت) في غزة.
فلا يعقل أن تكون السلطات غفلت طوال سنتين أو أكثر عن مصدر التهريب عبر الأنفاق التي تبيّن أنها تزيد على المئتين عدداً والتي تتسع للمؤن والأدوية والذبائح وحليب الأطفال، إلخ.. وعن آلياته، وعن «أبطاله» أو المتورطين فيه..
… خصوصاً وأن العلاقة بين «حماس» في فلسطين وبين «الإخوان» في مصر، من جهة، وبين حماس والإخوان مع «حزب الله» في لبنان من جهة ثانية، ليست سرية، بل هي علنية، ربما بأكثر مما يجوز..
ثم، لأمر ما، رأت جهة رسمية ما في القاهرة، أن تكشف أسرار هذه العلاقة، وأن تحوّلها إلى فضيحة، ثم إلى مؤامرة دولية، وإلى إعلان حرب على إيران و»حزب الله»، وبالاستطراد على «حماس» في فلسطين وعلى «الإخوان» في مصر، دفعة واحدة..
الكل حائر في تفسير ما حدث، وفي توقيته، وفي دلالاته..
حتى العدو الإسرائيلي بدا غير مصدّق لما نسبته السلطات في القاهرة إلى «حزب الله»، وذلك العدو موجود في البر والبحر والجو، وداخل غزة ـ بمخابراته ـ ومن حولها.
من هنا بدأ كثيرون يحاولون العثور على الأجوبة في البعيد: في واشنطن ورغبتها المعلنة في محاورة طهران، متخلية عن كل الذين اندفعوا في عدائها حتى الحرب أو ما يشابهها، في الحقبة الأخيرة من عهد جورج بوش!
.. أو في السعودية واندفاعها نحو مصالحة دمشق، برغم اعتراض القاهرة، أو عدم حماستها، أو تجاهل شروطها، أو لكل ذلك معاً؟!
في أي حال، فثمة إجماع على استهوال أن تتزامن هذه الحملة على «حزب الله» والسيد حسن نصر الله، الذي رُفعت صوره ذات يوم في الأزهر الشريف، تقديراً لبسالة المجاهدين من رجال الحزب في مواجهة الحرب الإسرائيلية على لبنان، في تموز ـ يوليو ـ 2006، مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي احتشد فيها عتاة التطرف والعنصرية والقتلة ومصادري أراضي الفلسطينيين لاستقدام المزيد من المستعمرين، وغيلان الاستيطان الذين يكادون يحاصرون الحرم القدسي بطرد أهله من حوله والاستيلاء بالقوة على كل ما جاوره من أحياء عتيقة تعبق بالقداسة.
كذلك فمما يستوقف أن يكون الاتصال الرسمي الأول بين القاهرة ولبنان قد تجاوز رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة السيد فؤاد السنيورة، المعروف ببرود علاقته مع «حزب الله» منذ حرب تموز ـ يوليو ـ 2006.. ثم كرّر هذا الاتصال وزير الخارجية المصرية أحمد أبو الغيط متجاوزاً وزير الخارجية.
[ [ [
كل الذين يحبون مصر ويريدون لها المنعة والتقدم، استهولوا أن تندفع بعض المرجعيات السياسية وبعض أجهزة الإعلام الرسمي، وكذلك بعض المرجعيات الدينية، في حملتها على «حزب الله»، إلى حد إخراجه ـ بقيادته ومجاهديه الأبطال ـ من الدين الحنيف.. وإلى حد تصويره وكأنه مجرد أداة في يد السياسة الإيرانية، منكرة على مجاهديه عروبتهم حتى الاستشهاد في مواجهة الخطر الإسرائيلي، على امتداد عشرين سنة أو يزيد.
إن «حزب الله» أكبر حزب سياسي عربي، وأعظمها تأثيراً، نتيجة تفرغه لقتال «العدو» الحقيقي لهذه الأمة: إسرائيل، بمشروعها الاستعماري الاستيطاني، الذي يقضي نهائياً على حلم «الدولة الفلسطينية» ولو على بعض البعض من الأرض الفلسطينية.
و»حزب الله» يشهد لمصر بتضحيات شعبها وجيشها العظيمة في مواجهة المشروع الإسرائيلي، ويقدّر لمصر دورها الذي لا غنى عنه ولا بديل منه في محاولة بناء الغد العربي الأفضل، والذي كانت الحروب الإسرائيلية المتكررة على مصر وسائر الدول العربية، الأساس في تعويق إنجازه وفرض التخلف وامتداداته على المستقبل، حتى تكون إسرائيل هي السيد المطلق في كل هذه الأرض العربية… بل لعل «حزب الله» قد تعلّم من أبطال العبور في مصر وأخذ عنهم بعض تجاربهم الممتازة.
وكل العرب يطلبون مصر، ويجيئون إليها باعتبارها «دولتهم»: تمنعهم فيكرّرون المحاولة، تعيق وصولهم فيغفرون ويجيئون كرة أخرى..
وسيظل العرب يطلبون مصر وينادونها ويجيئون إليها حتى تعود إليهم: دولتهم وصاحبة الدور الذي لا غنى عنه في صنع مستقبلهم. والمهم أن تعود مصر إلى ذاتها!

Exit mobile version