طلال سلمان

<الاستقلال ثاني> وطوائفة كثيرة

يستحق الاستقلال الثاني احتفالاً بمثل هذه الأبهة والفخامة والجلال الذي أقيم، على عجل أمس، فهو استقلال استثنائي ومميّز عن لبنان الذي نعرفه، وإن كان لكل دولة فيه نصيب، حتى ليكاد يكون أممياً بدليل مشاركة أخطر رجل في العالم (الأمين العام للأمم المتحدة) في تبنيه شخصياً.
لا يهم أن الرئيس غير الرئيس (الطبيعي)، وأن مكان الاحتفال غير المكان (الطبيعي)، وأن الحكومة غير الحكومة (الطبيعية)، وأن الخوف يظلل البلاد ويصادر آمال الشباب وابتسامات الأطفال، وأن الفوضى الخلاّقة تسود البلاد فتلتهم خبز الناس وأحلامهم البسيطة (وسائر حقوقهم الطبيعية في وطن طبيعي)..
الاستقلال الثاني لا يهتم لهذا كله، بل هو معني بالشموخ والعنفوان والمجد المحفور على صخور نهر الكلب التي توزعتها دول الماضي بالعدل والقسطاس، وبالكاد استنقذت منها واحدة لتخليد الجلاء الذي استولد الاستقلال الأول ، ثم سقط بالضربة الطائفية القاتلة.
ها هي الدول جميعاً هنا، مرة أخرى، تتزاحم الطائرات الخاصة لمبعوثيها وموفديها الممتازين في أجواء الوطن الصغير، حتى أنها استولدت الرعد، بل العاصفة، قبل أن تنطلق السيارات بمواكبة زاعقة بين المقار المحصنة لقادة الطوائف وزعمائها، وإن ظلت بكركي هي نقطة البداية والختام، تستمع فتنصح، ويُطلب رأيها فتفتح قلبها، حتى إذا اتهمت بالتخلي تورطت فأعطت أسماء من تحب وترى فيهم أمل الإنقاذ، فإذا السيوف تتقاطع عليها جميعاً..
تواترت المبادرات، داخل المبادرة الأولى، والاقتراحات والأفكار والنوايا الطيبة والمساعي الحميدة… ثم اجتمعت الدول ثنائياً وثلاثياً لصياغة مبادرة مشتركة. وهرع الأمين العام للجامعة العربية، مرة أخرى، يبذل جهده، حتى يكون للعرب أثر في الحل يخفف من آثار خلافاتهم على الأزمة… وجاء الوزراء الكبار ومعهم ثياب النوم والمعاطف تحسباً لشتاء طويل، وأمضوا الليالي يحاولون تفكيك اللغز اللبناني المعقد، من أجل التوافق بين الطوائفيين على طائفي ممتاز لتمثيل الطائفة الممتازة.
لكن أياً من الدول لم يبحث عن الدولة التي غدت أطلالاً تشهد على أنها كانت هنا ثم غيّبتها صراعات الطوائف التي تحتشد في باطنها الدول .
أما الاستقلال الثاني الذي وُلد جهيضاً وكادت الدول تخنقه بتزاحمها على احتضانه، فلعله لفظ أنفاسه الأخيرة مع احتفال الأمس، وفي حضور ذويه الذين جللهم الصمت والتهيّب!
لم يعد أحد يتذكّر القرارات الدولية المتتالية والصارمة، والتي تلامس البند السابع، وتقضي بتسييج الاستقلال وحمايته من أهله.
… والآلاف المؤلفة من الضباط والجنود في قوات الطوارئ الدولية الذين جاءوا فطوّقوا الاستقلال لحمايته، وحتى لا يفيض عن حاجة اللبنانيين فيصيب جواره بالأذى..
كل ذلك لم يساعد على استيلاد الاستقلال الثاني ، بل لعله قد تسبّب في اغتياله بفقر الدم وسوء التغذية ونقص الهواء!
لكن لبنان مزدحم بالاستقلالات:
الكل مستقل عن الكل،
كل طائفة مستقلة عن الأخرى استقلالاً تاماً وناجزاً،
وفي قلب كل طائفة نزعات استقلالية وتشققات تحررية، فما دام الاستقلال هو الموضة فلماذا لا تمارسه الجماعات وحتى الأفراد؟!
وها أن الموفدين قد تثبتوا من أن لكل طائفة استقلالها المسوَّر بالغزائر الشائكة، بحيث يحظر على أي منها التدخل في شؤون الأخرى، أو المفاضلة بين قياداتها ووجاهاتها والمؤهلين من رجالها لترميم الدولة .
الطريف أن الأغلبية الساحقة الماحقة من الموفدين إنما جاءوا من دول تحكمها أنظمة علمانية منذ دهر، ولكنهم عندنا يستعيدون تراث أجدادهم في الانحناء لكلمات المراجع الدينية واعتبارها باب الخلاص.
الأطرف أن هؤلاء الآتين من دول عريقة في اعتمادها الأنظمة الديموقراطية البرلمانية (والتي كان اللبنانيون يتمنون تقليدها ويعتبرونها مثلهم الأعلى) قد تعبوا وأتعبونا في محاولة إقناعنا بأن الطائفية لا تتنافى مع الديموقراطية… بل هم قد اقتنعوا منا فعادوا يحاولون إقناعنا بأن الطائفية هي أقصر الطرق إلى الديموقراطية… وربما إلى العلمانية!
مع ذلك، وبرغم ذلك، ومن أجل ذلك، وعلى ذلك فقد اقتنع اللبنانيون بالنظام الطائفي وبطوائفية الرئاسات، لكن مَن يدّعي احتكار تمثيل الطائفة لم يرضَ…
لعله يرضى غداً.. أو بعد غد، ليبدأ عهد الاستقلال الثالث !

Exit mobile version