إذا كان هناك فرد واحد يحق له أن يترك بصمته على دبلوماسية الستين عاما الماضية فهو هنري كيسنجر. لا يهم الآن إن كنا نحبه أم نحمله وزر ما نحن فيه من مهانة وما آلت إليه قضية فلسطين، ولا يهم عدد ضحاياه من أمم وشعوب وحكام في آسيا وفي أمريكا اللاتينية، ولا يهم ضخامة المبالغ التي يتقاضها سنويا وبالقطعة من دول حديثة النشأة نظير توصيات وإرشادات تتفادى بها هذه الدول عواقب التخبط في أدغال عالم لا يرحم الضعيف أو الضائع.
***
المهم أن الرجل وقد تجاوز منتصف التسعينات من العمر ما يزال مؤثرا وصانعا للتاريخ الدبلوماسي. يذكر له الإسرائيليون وبعض العرب أنه لعب أحد أهم الأدوار السياسية في حرب أكتوبر عام 1973 وفي رسم وتنفيذ مرحلة ما بعد الحرب. يذكر له الروس أنه هو الذي أخرجهم من الشرق الأوسط أو من معظم وأهم مواقعهم فيه وفي شرق إفريقيا. يذكر له العسكريون الأمريكيون أنه اشترى بأنهار من دماء الفيتناميين وشعوب أخرى في شبه جزيرة الهند الشرقية خروجا كريما للدولة العظمى بعد هزيمة محققة في فيتنام وأوقف استقطابا كاد يهدد استقرار النظام السياسي الأمريكي. ثم أن أحدا لا ينكر الأهمية الكبرى لخطته كسر طوق العزلة الصينية وتشجيعه الصين على الخروج إلى النظام الدولي لاعبا حرا وفاعلا. واليوم وبعد حوالي نصف قرن يخرج علينا العجوز كيسنجر بدعوة صريحة للتوصل إلى تقارب عاجل بين الولايات المتحدة وروسيا بهدف العمل المشترك لوقف التوسع الصيني. يقال في واشنطن إنها ليست الدعوة الأولى، إذ يشاع أنه حث الرئيس أو المرشح للرئاسة السيد دونالد ترامب بالعمل على تهيئة الأجواء المناسبة بين أمريكا وروسيا التي يمكن أن تساعد في يوم قريب على ردع الصين إن تجاوزت، ومنع حكامها من التهور إن حاولوا انتزاع موقع على القمة بدون تشاور مسبق مع أهل هذه القمة. إذا صدقت الأنباء فلن تكون بدون سابقة، فقد سبق أن استنتج مراقبون أن الرئيس باراك أوباما تلقى دعوة مماثلة من كيسنجر وعمل بالفعل على تنفيذها يوم قرر إجراء “ريسيت” للعلاقات الأمريكية الروسية.
***
لم أسمع عن أو أقرأ نصا موثوقا به عن إرشادات محددة أوصى كيسنجر باتخاذها في هذا الشأن. أتوقع أن يكون قد اكتفى بتوصية خلق أجواء أفضل لتقارب روسي أمريكي. لا أظن أنه صرح علنا بتفاصيل خطة إقامة تعاون عسكري بين الروس والأمريكيين في مواقع قريبة من أقاليم تمدد حتى وصل إليها النفوذ الصيني. أتصور أنه بالتعاون إنما يقصد الدعم السياسي لإجراءات يقوم بها الطرفان لتأكيد اتفاقهما على رفض تمدد الهيمنة الصينية بدون أفق أو حد محدد. هناك أمور أتصور أنها استقرت حقائق جديدة في الجغرافيا السياسية لسباق النفوذ الجاري حاليا بين الدول العظمى. نعرف مثلا أن الصين نجحت في عسكرة مياه بحر الصين الجنوبي إلى الدرجة التي تستطيع الصين عندها إعلان هيمنة شبه كاملة على هذا البحر. نعرف أيضا أن تشكيلات من جيش التحرير الصيني تخرج الآن في اتجاه القرن الأفريقي وفي اتجاه مواقع بناء وتشييد وشق طرق ومد خطوط سكة حديد في إفريقيا وباكستان وأفغانستان لحماية العمال الصينيين العاملين في هذه المواقع، وهناك تستقر وتقيم وتتدخل وتدرب قوى الأمن وتراقب الموازنات لأن لها نصيبا فيها بحكم نصوص اتفاقات القروض.
***
أراقب الصين. وقد لاحظت في الآونة الأخيرة نشاطا أكبر من المعتاد في العلاقة بين الوطن الأم من ناحية وتايوان من ناحية أخرى. دأبت الصين في العهد الشيوعي والحرب الباردة على إثارة أجواء حرب دائمة حول الجزيرة المتمردة. ثم جاءت فترة هدوء في العلاقة الأمريكية الصينية سمحت بوضع أشبه بالهدنة. أتصور في خلاصة ملاحظاتي أن التوتر عاد يخيم على هذا الجانب من جوانب الأمن القومي الصيني. نقرأ مثلا تقارير ودراسات سياسية وأمنية تؤكد أن شعب تايوان طور لنفسه قومية تايوانية خاصة به مستغلا فترة الهدوء أو الهدنة. لا يمكن، حسب ما أتصور، أن تقبل الصين ليس فقط بانتعاش قومية منفصلة عن الوعاء القومي العام ولكن لن تقبل أساسا أن تنشأ هكذا قومية في أي موقع انتمى ذات يوم إلى الإمبراطورية الصينية. واضح جدا أن هناك دعما لهذه الحركة القومية في تايوان من جانب الولايات المتحدة وواضح أيضا أن الصين انتبهت إلى خطورة الأمر لو ترك بدون تدخل حاسم. بمعنى آخر، لا أخفي اعتقادي بأن حكومة بكين لن تترك الأمريكيين أو غيرهم يعبثون.
بهكذا قضية حساسة وقد لا تنتظر حتى 2049، عام إعلان استعادة الصين لشبابها ومرور مائة عام على قيام جمهورية الصين الشعبية، موعدا مناسبا لإدماج تايوان في الوطن الأم. بل أتصور أنها لن تنتظر حتى 2030، الموعد الذي حددته لاستكمال البنية العسكرية الصينية اللائقة بدولة عظمى. لا ننسى في الوقت نفسه أن القيادة الصينية، مثلها مثل كافة قيادات العالم، لا شك تحمل من الشكوك في سلامة تصرفات الرئيس الأمريكي الحالي ما يجعلها تفكر في استخدام أعتى الضغوط الشعبية والحزبية لبدء تحرير تايوان فورا وقبل أن يقدم ترامب على إجراء أو آخر يزيد المشكلة تعقيدا. هنا تكمن أهمية دعوة كيسنجر الأمريكيين إلى تقارب مع الروس وحاجة بكين إلى التصرف قبل أن يتحقق هذا التقارب.
***
أستطيع أن أفهم ما دار في عقل كيسنجر وهو يدعو كلا من أوباما وترامب للتقارب مع الروس لعرقلة تقدم الصينيين. عقل كيسنجر عقل أوروبي وبالأخص ألماني، أي عقل يستطيع بقليل من الجهد والفكر تقدير طموحات زعيم أوروبي من نوع فلاديمير بوتين، ولكنه يحتاج إلى جهد أكبر ليقدر الطموحات العالمية لقائد آسيوي، وبالأخص صيني، من نوع شي الرئيس الحالي للحزب الشيوعي الصيني ورئيس الصين. يستطيع مثلا تقدير كلفة التقارب مع الرئيس بوتين ولكنه لن يستطيع بسهولة تقدير كلفة التعاون أو التقارب مع الرئيس شي. هذا الرئيس الآسيوي أنفق حتى الآن على ممر التجارة في الجزء الباكستاني في طريق الحرير حوالي 62 مليار دولار وعلى مواني في سيريلانكا وباكستان وميانمار واليونان مبالغ أكبر، كلها والعاملون فيها الآن وبعد الانتهاء منها في حاجة ماسة إلى قواعد عسكرية لحمايتهم وحمايتها.
***
مرة أخرى خلال العقود القليلة الماضية أجدد تصوري عن مستقبل علاقات الصين الدولية. ما تزال أوروبا، من وجهة نظري، الجائزة الكبرى للمتسابقين على النفوذ في طريقهم إلى القمة. الرئيس بوتين لا يدع فرصة تفوت دون التأكيد على أن غاز روسيا لأوروبا تستخدمه آمنة مطمئنة ودون كثير من الإيحاء بأن الثقافتين السياسيتين تتقاربان في ظل المد الشعبوي في دول جنوب ووسط أوروبا. من ناحية أخرى لم تتوقف رسائل الرئيس شي لدول أوروبا عن التصريح بأن بلاده ليست ضد مبدأ تعدد الأقطاب وليست ضد الرأسمالية كما هي مطبقة في الغرب وأن شيوعية الصين غير قابلة للتصدير. كلها وغيرها رسائل إلى شعوب وحكام أوروبا من قطب أسيوي صاعد يردد أنه لا ينوي، وليس من مصلحته، أن يتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وكلنا شهود على أنه وجد في اليونان المثال على التزامه ما يتعهد به للأوروبيين، فاليونان تشيد بتجربة الصين معها حين قدمت لانقاذ اقتصادها المنهار ما لم تقدمه روسيا أو أمريكا.
***
السباق على القمة احتدم في اليوم الذي أطلقت فيه الصين صاروخا دمر قمرا اصطناعيا. جرت العادة، نذكر هنا مثال عهد ريجان، على أن تجر الدولة الأغنى القطب المنافس في سباق تسلح باهظ الكلفة بغرض كشف ضعف اقتصاده وإخراجه من حلبة القيادة الدولية. هذه المرة الصين، وهي ليست الأغنى، تجر القطبين المنافسين إلى سباق لحيازة ترسانة أسلحة لحرب فضاء يعجز عن الوصول لنهايته قطب باقتصاد يعاني شروخا وبنية متعبة. هذا السباق لن يخلو من مفاجآت وبعضها فيما أتصور يمس، إن لم يهدد، استقرار الشرق الأوسط وبشكل أخص مصر لأسباب نقدرها، أو هكذا أتمنى.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق