طلال سلمان

وسط أوروبا يعود مصدرا للقلق

“ما أن تأتي سيرة وسط وشرق أوروبا إلا وأسرعت أتصفح موسوعتي التاريخية”. عبارة سمعت أستاذا للتاريخ السياسي يفتتح بها التعقيب على مداخلة من باحث مرموق. أعرف أنه كان يوجد جيل من علماء السياسة متأثر بنظرية توازن القوى والعوامل الجيوستراتيجية كأدوات فهم وتحليل العلاقات الدولية واستطلاع مستقبلها. كان بين هؤلاء من أعتقد بكل الإيمان الأكاديمي الممكن في الرأي القائل بأن من يتحكم في منطقة وسط أوروبا سوف يسيطر على العالم. أتصور أن شيئا من هذا الإيمان تسرب من جديد إلى معلقين يميلون إلى وضع الاهتمام الصيني الراهن بمنطقة وسط وشرق أوروبا ضمن موروث علم السياسة الغربي كما خلفه محاضرون غربيون في أذهان تلاميذهم الصينيين قبل انتصار الثورة الشيوعية. شيء مماثل أتصوره يحدث منذ أن عدت أسمع أساتذة غربيين يبررون الإصرار الروسي المتجدد على استعادة السيطرة على المنطقة مستخدمين في تبريراتهم أدوات الجغرافيا السياسية ونظريات القوة التي كانت سائدة بشكل خاص في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى وسنوات ما بين الحربين.

***

جاءت سيرة هذه المرحلة من تاريخ الصراع على وسط أوروبا كما ورد في كتابات أساتذة العلاقات الدولية خلال أمسية جمعت أصدقاء مشارقة ومصريين اجتمعوا لمناقشة صعود اليمين اللافت للنظر في أمريكا اللاتينية. كان الرأي الغالب يميل إلى عدم المبالغة في الاهتمام بالظاهرة، فالعالم بأسره يبدو متوجها نحو اليمين. حتى الدول التي اختارت في العقود الماضية نظاما وحزم سياسات يمينية وترتيبة طبقية محافظة هي نفسها عادت في السنوات الأخيرة فاختارت أن تزداد غوصا في يمين أشد يمينية من كل ما عرفته عن اليمين في تاريخها الحديث. في الواقع كان الاهتمام نابعا من حجم التركيز الأيديولوجي والإعلامي والدولي الذي حظيت به مرحلة كادت تنقضي. أقصد تحديدا مرحلة الإنتقال من حالة يمينية ديكتاتورية هيمنت طويلا على عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، ومرحلة انتقال من حالة يسارية، وإن متشققة، هيمنت هي الأخرى طويلا على عدد كبير من دول شرق ووسط أوروبا. الانتقال في الحالتين كان للتأسيس لمرحلة جديدة من الديمقراطية وصياغات ليبرالية.

***

لا تغيب عن ذاكرتي الأجواء الاحتفالية في مختلف دوائر السياسة والبحث العلمي بمناسبة انطلاق ما عرف بفكر الانتقال في علم السياسة وعلوم المجتمع. راح بعضنا يقترح شروطا لانتقال معافي وسليم. راح بعض آخر يفلسف أسباب تخلف دول عن المشاركة في محاولات الانتقال وأسباب إقدام دول أخرى. انشغلنا بكل صغيرة وكبيرة وقعت في تشيلي والأرجنتين والبرازيل، انشغلنا بكل انتخابات جرت في الإكوادور وكل هبة ومظاهرة في نيكاراجوا وبيرو وبكل انقلاب فاشل، بل أذكر أننا خصصنا مساعدين يتابعون التغيرات التي أدخلتها دول القارة على أنظمة أمنها الداخلي وبرامج إصلاحها، وفي صدارتها تدريس قوانين الحقوق الإنسانية لطلبة الكليات الأمنية. رأينا أجهزة العدالة في الأرجنتين والبرازيل تنتفض لتحاكم مسؤولين أساءوا إلى سلامة مواطنين أو أهملوا في حقوقهم. رأينا أجهزة إعلام تتحرر في اتزان من قيود فرضتها عليها حكومات متطرفة في هيمنتها. رأينا نشاطا غير مألوف يلف أنحاء المجتمع يفرز أفضل عناصره ليقود قطاعات مدنية نحو تعليم أفضل وأخلاق أحسن وتعايش أقوى وحب للوطن. كانت المرحلة، في عرف بعض المتخصصين، مرحلة ثورية تستحق أن تدرس في المعاهد والجامعات باعتبارها مرحلة عزم وإصرار على الانتقال بالطرق السلمية من أنظمة غير ديموقراطية أو غير ليبرالية نحو أنظمة ديمقراطية وليبرالية.

***

ما أن سقطت دعائم الحرب الباردة حتى تكثفت جهود محلية وخارجية تسعى لبناء أنظمة حكم ديموقراطية وليبرالية محل أنظمة الحكم الشيوعية المهددة بالسقوط إن آجلا أم عاجلا. نشبت ثورات ملونة في معظم دول شرق ووسط أوروبا التي خضعت للحكم الديكتاتوري الذي فرضته روسيا، أو شجعت على فرضه على شعوبها. قامت في هذه الدول على أكتاف الثورات الملونة حكومات التزمت أمام شعوبها والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي الأخذ بالديموقراطية أسلوب حكم وبالليبرالية منهاج سلوك وتحضر. لم يكن خافيا أن حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي والرغبة في اكتساب حماية الأطلسي كانا في صدارة حوافز الاندفاع نحو إعلان الاستعداد لاقتحام المرحلة الانتقالية. ظهرت أحزاب بالسرعة الواجبة وانتشرت منظمات المجتمع المدني وانفتحت الحدود ليهاجر ملايين السكان إلى دول غرب وجنوب أوروبا حيث فرص العمل والاستقرار المالي والانتعاش الاقتصادي.

***

مرت السنوات وأظن أنها كافية لتسمح لنا بأن نبدي رأيا قاطعا في حصيلة المرحلة الانتقالية التي جرت فعالياتها في القارتين. أنا شخصيا لا أستطيع تجاهل بعض الحقائق الدامغة التي تثبت أن المرحلة الانتقالية كانت في الواقع فرصة وضاعت. أولا، لا أتجاهل حقيقة أن الفساد عاد يسيطر ويهيمن على كافة مناحي الحياة في كل أو أغلب الدول التي أجرت عملية انتقال. بل إن الفساد صار يمس في بعض البلدان قواعد اجتماعية اشتهرت قبل المرحلة الانتقالية بمقاومة الفساد، أقصد بالتحديد النقابات والكنيسة.

ثانيا، لا أتجاهل السقوط المروع للطبقة السياسية في عدد متزايد من الدول المتقدمة على صعيد مقياس الديموقراطية الليبرالية وعلى رأسها الولايات المتحدة. من ناحية أخرى كان واضحا أن الطبقة التي كانت تحكم وتسيطر اقتصاديا قبل بدء المرحلة الانتقالية استمرت تحكم بشكل أو بآخر وتهيمن خلال المرحلة الانتقالية. لذلك لم يكن مفاجئا بشدة أن كانت هذه الفئة هي نفسها التي قادت التيار الشعبوي وقيدت الحركة الديموقراطية وأسقطت الممارسة الليبرالية في عدد من الدول الانتقالية.

ثالثا، لا أقلل من أهمية عنصر تاريخي تدخل بشكل مكثف للتأثير في كفاءة العملية الانتقالية نحو الديموقراطية والليبرالية. أقصد التطور المفاجئ في الحركة السكانية في أمريكا الجنوبية في اتجاه المكسيك وأمريكا الشمالية، وكذلك في أوروبا حيث انطلقت نسبة ليست بسيطة من شباب متعلم من وسط وشرق أوروبا نحو الغرب بحثا عن وظائف تاركا ساحات العمل السياسي لأشخاص تدربوا على كراهية الديموقراطية والليبرالية. كذلك لا نغفل تأثير الهجرات الواسعة وغير المسبوقة حجما ونوعا التي هبطت على أوروبا من آسيا وأفريقيا.

رابعا، لا أهمل حقيقة أن أزمة مالية هائلة وقعت في عامي 2007 و 2008 تركت العالم الرأسمالي في حال سيئة ما زال ممسكا بخناقه إلى يومنا هذا، أضف نتائج هذه الأزمة إلى مجموعات من سلبيات العولمة التي نكتشف اليوم على أيدي الرئيس دونالد ترامب كم هي بالغة الأثر في أحوال أمم عديدة ومنها الولايات المتحدة نفسها.

خامسا، لا أنكر، ولكنى لا أعلم بالدقة الكافية، حجم التأثير الذي طاول سلبيا عمليات الانتقال نحو الليبرالية نتيجة النشاط التجاري والاستثماري الصيني في وسط أوروبا وإلى حد ربما أقل في أمريكا اللاتينية. تصلنا معلومات من جهات غربية عن تخريب أصاب اقتصادات في أفريقيا وآسيا بسبب هذا النشاط، كما أن هناك من يثير قضية الأثر الأيديولوجي للنموذج الصيني المعادي للديموقراطية الليبرالية.

***

على ضوء هذا التحليل وتحليلات مشابهة يصعب الاطمئنان إلى مستقبل تسود فيه تفاعلات دولية هادئة. ففي المنطقتين، أمريكا الجنوبية ووسط أوروبا، كما في الشرق الأوسط، تنشأ بفضل فشل التنمية السياسية فراغات تنتظر لتملأها قوى خارجية، وأخرى داخلية، نراها تأهبت وباتت مستعدة لرسم خرائط سياسية جديدة في أماكن متفرقة من العالم.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

 

Exit mobile version