مشيت في معظم شوارعها واستخدمت أغلب مواصلاتها العامة وسكنت في بعض فنادقها وأكلت وشربت في كثير من مطاعمها ومقاهيها. كانت هونج كونج على طريقي من نيودلهي إلى بكين. نصحوني في نيودلهي قبل السفر أن أرتب رحلتي بشكل يسمح بأن أقضي في هونج كونج أطول مدة تسمح بها تعليمات الانتقال من بعثة دبلوماسية إلى أخرى. كانت التعليمات في ذلك الحين مرنة. أذكر بكل الامتنان كيف كانت الدولة المصرية كريمة في التعامل مع أعضاء سلكها الدبلوماسي. كنا أحرارا في اختيار وسيلة السفر من البدائل المتوفرة. إن شئنا ركوب البحر فلتكن بواخر الشركات الإيطالية الأغلى والأفخر. وإن اخترنا الطيران فلتكن كبرى الشركات الأمريكية والبريطانية وفي مقاعد الدرجة الأولى.
في ذلك الوقت لم تكن لبكين عاصمة الصين الشعبية سمعة طيبة بين الدبلوماسيين عموما. قضيت أياما أتسوق في السفارات والقنصليات الأوروبية في الهند معلومات وتجارب عن تفاصيل معيشة الأجانب المعتمدين في الصين. اكتشفت أن الحصيلة مهما طال التسوق لن تكون ثرية والمفيد منها ضئيل. لا أحد سألت إلا واكتسى وجهه أو وجهها بالأسى والحزن. الأسى لأني منقول من موقع شاق، وهو الهند، إلى موقع لا يقل صعوبة ومشقة بل لعله كان في ذلك الحين الموقع الأشد مشقة بعد تيرانا عاصمة ألبانيا ولا باز عاصمة بوليفيا. قليلون بين من قابلت، وكلهم من الدول الإسكندنافية اعترفوا بأنهم يحلمون بزيارة بكين ولكن لا يتمنون العمل فيها، بكين هذه العاصمة الغامضة المثيرة للجدل وحاملة أسرار إحدى أهم الحضارات العظمى. ولكنها العاصمة التي لن يجد فيها الدبلوماسي سكنا إلا بصعوبة بالغة ولن يجد دائما ما يحن إليه هو وعائلته من خضراوات وفواكه ولحوم. لا ملابس جاهزة للبيع أو بالتفصيل والشتاء زمهرير والصيف خانق. الشيء الوحيد الموجود بوفرة وبسعر زهيد هو الكتاب الأحمر. النصيحة من الكل أن أتوقف في هونج كونج لمدة كافية لشراء كل ما يعن على البال. كانوا مخلصين في نصيحتهم فمن قابلت من التجار في هونج كونج أكدوا جميعا حاجتي إلى فتح حساب يضمن لي استلام شحنة شهرية من ضرورات الحياة في بكين، المدينة التعيسة. لم تغب عن بالي لشهور نظرات الإشفاق التي غمرني بها التجار الصينيون في هونج كونج.
وصلت بكين لأعرف فورا ومنذ اللحظة الأولى أن الناصحين في دلهي والتجار في هونج كونج كانوا صادقين، عرفت في الوقت ذاته أن بكين نفسها كانت صادقة. لم تتجمل لاستقبالي، وبقيت صادقة حتى يوم رحيلي، لم تتجمل يوما واحدا حتى يوم عدت إليها باحثا وصحفيا بعد حوالي خمسة عشر عاما.
قضيت ساعات عديدة خلال الأسبوع الماضي أمام شاشة التليفزيون أتابع بكل الشغف المخزون المظاهرات الشعبية وهي تجول شوارع في هونج كونج أذكر بعضها جيدا. إحدى هذه المظاهرات استحقت بالفعل صفة المليونية. استمدت هذه الصفة في تقديري أهميتها الفائقة من أنها مليونية في إقليم تعداد سكانه لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، بمعنى أن فردا من كل سبعة خرج ليحتج. رأيت أناسا من جميع الأعمار والشباب النسبة الأكبر ومن جميع الأعراق وإن كان المنحدرين من صينيين هم الأكثر عددا. لم تكن المظاهرة الأولى التي يخرج فيها أعداد ضخمة فقد شهدت في السنوات الأخيرة على الشاشة احتجاجات شعبية في المدينة نفسها أخذت أشكالا مختلفة. احتج مرات عديدة أهل الإقليم، وبالمناسبة يتكون هذا الإقليم من جزيرة هونج كونج وشبه جزيرة كولون بالإضافة إلى ما يعرف بالأقاليم الجديدة، احتجوا ويحتجون في كل مرة جربت الحكومة المركزية في بكين إخضاع أهل الإقليم المدلل لقوانين الدولة الصينية. كان شرط المملكة المتحدة المنصوص عليه في الاتفاق المعقود مع الرئيس دينج تشاو بينج في عام 1979 أن تحتفظ هونج كونج بوضع خاص في خريطة الوطن الصيني تحت عنوان دولة واحدة ونظامان. وبالفعل سلمت لندن مفاتيح الإدارة المحلية إلى سياسيين منتخبين محليا ورحل آخر حاكم للجزيرة بعد 156 سنة من حكم الاستعمار الإنجليزي.
وافقت الصين على هذا الشرط لأسباب مفهومة أهمها من وجهة نظري سببان. الأول يعكس حاجة القيادة الجديدة في الصين لعلاقات طيبة بالعالم الخارجي وبخاصة الغرب فلم تشأ تصعيد نزاعها مع إنجلترا على مستقبل الجزيرة، وهي تعلم أن المدة طالت أو قصرت ففي نهايتها تعود هونج كونج إلى حضن الأم الطبيعية. السبب الثاني، وهو الأهم، يتعلق بعنصر الضرورة. بكين كانت بالفعل وإلى درجة مدهشة تعيش على ما يصل إليها من هونج كونج أو عن طريقها من معلومات وواردات ومدخرات المغتربين وخبرات التصدير والسمعة المصرفية. إذ أنه فور خروج جيش الاحتلال الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية انطلقت هونج كونج صعودا لتحتل مرتبة متميزة بين المراكز المالية والاقتصادية في العالم الرأسمالي، العالم الذي كانت القيادة الصينية تحت رئاسة الرئيس دينج تستعد للاندماج فيه.
لا أحد عاقلا في إقليم هونج كونج يشكك في مبدأ تبعيته للصين، كثيرون، على كل حال اختاروا أن يرحلوا مع رحيل الإنجليز أو يعيشوا متأففين ومعتقدين أنهم يستحقون هوية مستقلة. ظنوا خطأ أن المواثيق والمعاهدات الدولية ضمانا كافيا للاحتفاظ بتميزهم وتفوقهم وسمو مكانتهم في الأسواق المالية العالمية. عاشوا، والحق يقال وكنت شاهدا، في ظل بحبوحة حريات وحقوق لم تتح لشعب في شرق وجنوب شرق آسيا. حتى اليابانيون كانوا يحسدون أهل هونج كونج والكوريون جميعا كانوا أول الحاسدين. أظن أن الغرب أراد أن تظل هونج كونج نموذجا حيا للتطبيق الليبرالي أكثر أهمية وجاذبية من برلين الغربية في عصر الحرب الباردة. كانت هونج كونج، وبقيت لسنوات، تلمع في سماوات آسيا. اثنان من زملاء المرحلة الدبلوماسية في حياتي شاركاني هذا الرأي، كل وقت كان يرأس قنصلية مصر هناك، هما السفيران الموقران والقريبان إلى قلبي إيهاب وهبة وفاروق حلمي.
تبادلت معهما الرسائل حيثما كنت في أمريكا اللاتينية ثم من خارج المواقع الدبلوماسية، كنت كمن يريد الاطمئنان على قيمة وديعة تركها في آسيا، أوعلى بريق جوهرة يخشى عليه الانطفاء. كنت مع الأيام واثقا أن الصين الأم مهما صعدت وبأي سرعة نهضت لن تنفعل يوما فتمزق معاهدتها مع المملكة المتحدة حول مستقبل هونج كونج. كنت أرى هونج كونج جوهرة يعتز بوجودها الفريد كل اقتصادات قارة آسيا. لا مصلحة لأحد في أن يرى لمعان هذه الجوهرة يخبو. حتى بكين تمنت لو بقيت هونج كونج شعلة نشاط وإبداع وإن تمنت في الوقت نفسه أن تمتنع عن أن تكون مصدر إلهام سياسي لشعوب المنطقة.
كانت هونج كونج ضرورة لبكين كما كانت لغيرها. حاولت بكين بإرادة حديدية ألا يصل غضب أو احتجاجات شعب الإقليم إلى نقطة اللاعودة في العلاقة بين إرادة شعب هونج كونج من ناحية وإرادة قيادة الحزب الشيوعي الصيني في بكين. الآن، وبعد المظاهرات الأخيرة التي وقعت في بكين بدأت وربما للمرة الأولى أتوقع للعلاقة بين بكين وهونج كونج أن تتغير. تغيرت قناعتي. لن تحظى هونج كونج بتدليل خاص من بكين بعد الآن.
تغيرت قناعتي وحجتي أن هونج كونج لم تعد الجوهرة الوحيدة بين مدن وموانئ الصين التي تدر ذهبا. لآلئ وألماسات عديدة تبرق في شتى أنحاء الصين وبخاصة في الشرق والجنوب الشرقي حيث توجد هونج كونج.
الصين، وأقصد الحزب الشيوعي الصيني، قد لا يتمنى أن تأتي الساعة التي يجد نفسه مجبرا على تجاهل هونج كونج كلية، إلا إذا تأكد من أنها بالفعل لا تبرق بأكثر من أقاليم أخرى في الصين، وهي بالفعل لم تعد الأولى بامتياز، وإذا تأكد من أن احتجاجاتها السياسية تهز سمعته ومكانته داخل الصين وبين مختلف القوى المناهضة لللبرالية السياسية والصاعدة في العالم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق