فلتترجل أفكارنا وأمانينا. مئة عام عبرت ولم ننشئ دولة، ولن…
منذ قرن، ولد لبنان الكبير. لم ينجب دولة… رسموا له حدوداً، وظل فائضاً عن حدوده، واستمرت ممراً لكل راغب تلبية دعوة جاءته من الداخل. حدوده محدَّدة على الخريطة. خطوط وهمية فقط. يتسرب منها الداخل والخارج. أي بلا سيادة.
زودوه، بدستور لا يشبهه. فضلوا عليه الميثاق الشفهي، لترضى الطوائف على حصصها، ولم يشبعوا. بات الدستور خزانة تُحفظ فيه التحف البالية. ولا مرة كان دستور لبنان مرجع قياداته. تركوا الشفهي من التصريحات، وعاينوا كيف احتذوا (من حذاء) مواده داسوها، باسم الجماعات الموزعة على طوائفها ومذاهبها.
منحوه استقلالاً سهلاً. عاهة التعظيم لهذا الحدث، تضعه في مصاف فيتنام وكوبا وجنوب افريقيا و… لا أحد ممن رُفِع اسمه عالياً يشبه هوشي منه او كاسترو او نلسون مانديلا… صفقة بريطانيا اخرجت فرنسا من الشباك فقط، وظلت في المفاصل. ويصح السؤال: هل كان لبنان مستقلاً طوال قرن، أم كان مقيماً في عواصم دولية وإقليمية؟ ويصح السؤال الثاني: هل كان واحداً او متعدداً. الجواب: لبنان وجد على قارعة الولاءات الخارجية، وتمزق نسيجه ولا يزال…لا دولة في لبنان.
أعطي اللبنانيون حق أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. ليس. هذه كذبة كبرى. لبنان ظل محكوماً من خارجه. لم يرتدع. يرضع الدعم لطوائفه من صدور سخية، مقابل قبول التبني. فمعظم قادته وسياسييه، لبنانيتهم تأتي في المؤخرة، يتقدم عليها ولاءِهم للجيران، الاقربين والأبعدين. ولأنهم كذلك تحوَّلت مؤسسات الدولة إلى سوق، يتم فيها تأجير الوزارات لسياسيين، لا يكتمون ولاءهم لدول الجوار البعيد والقريب. وأحيانا كثيرة، يستعصي عليهم تأليف وزارة، بما هب ودب من التناقضات والاحقاد والصفقات.
اللبنانيون التعيسون جداً، يصدقون انهم في دولة أو في طور بناء دولة. صدق عبد الحميد كرامي عندما كان رئيساً للوزراء واكتشف أن لبنان ليس دولة. أعلم بشارة الخوري أن هذه مزرعة، يلزم أن نلغيها لبناء دولة. رفض بشارة فاستقال عبد الحميد، وما عاد بعدها إلى النيابة او الوزارة.
منذ 75 عاماً واللبنانيون رعايا في مزرعة موزعة بين الطوائف، التي لها منزلة تعلو منزلة الدولة والدستور والقوانين والانسان. هذه دولة للطوائف. ملكيتها مبرمة، ولا يشترك فيها الا أبناء الذمة من الطوائف كافة. لا أحد، مهما علا شأنه وبلغت قيمته وبدت إنسانيته… لا أحد ابداً أقوى من الطوائف. ولا إصلاح يأتي من جانبها. وكل خراب انما من نتاج عبقريتها، وخدمها المخلصين من القيادات القوَّادة “لشعوبها” المطيعة والمفترسة.
غريب أمر “الجماهير” اللبنانية. انها تطالب بالإصلاح وبناء الدولة. عبث. طوشتنا المطالب. أصوات بلا اصداء. آلا يلاحظ هؤلاء الابرياء أن الطبقة السياسية مشغولة بأمور ذات منفعة خاصة. المطالبون في واد، وأهل “الدولة” في وادٍ آخر… يصح التشبيه: “الجماهير” تخاطب من لا يسمع ولا يكترث ولا يهش…
مسيرة لبنان، منذ ولادته الغلط، تبرهن على أن التقدم اختصاص طوائفي. لقد بلغت الطائفية تمامها. الأقوى في طائفته دليل على نجاح الطوائف وازدياد قوتها، ولا قوة خارجها، ولو كانت اكثرية… ومسيرة لبنان، منذ ولادته، برهنت على أن اللاطائفيين مناضلون فاشلون. احزابهم خراب. منظماتهم مهجورة. قياداتهم يتيمة. كلماتهم خارج النص. الطائفية تتقدم والمدنية تتراجع والعلمانية تنعدم والمواطنة تنقرض.
متعب لبنان الذي يريده الناس الطيبون. لا مجال لضوء. العتمة تامة. الدهماء تسد المنافذ. السياسة تضيِّق الأفق… تعبنا من معركة مكافحة الفساد. خلص. الفساد دين الدولة المقدس. تعبنا من تكرار الشعارات نفسها. وهذا ليس يأساً، بل توصيف لحالة راهنة ومزمنة: لبنان لا يتقدم بل يتراجع. سيبلغ الإفلاس قريباً وطبقته السياسية مشغولة بأتفه وأشنع وأبشع و… مشغولة بتأليف ما يسمى وزارة. وهي ليست إلا صفقة لوراثة “دولتهم”.
لا أعرف طريقاً للإيمان بلبنان الدولة والشعب والدستور. لذلك، وبكل اسف وصفاء ضمير أقول: “وداعاً ايتها الدولة”.