نشأت على نغم مقفى كان يغنيه الفلاحون بنبرة الحداء: من فوق بدنايل الدرب ع شمسطار.
لكن الطريق الرسمية كانت عبر بدنايل، وقد طواها طلال حيدر، شعراً، فجعلها تمر من امام بيته، مشترطاً الا يزعجه زمور او حادث صدم تليه “عركة” يهرب معها منه شيطان الشعر وتذهب السكرة هباء..
وأعترف انني قد امضيت طفولتي في ظلال اسمه، واجتهدت لان يعرف الناس اسم عائلتي لأتخلص من استعماره وأخلص إلى شعره مصفى.
وأعترف أن اسمه قد شكل لي تحدياً مفتوحاً، وفرض عليّ أن اعمل بأقصى طاقتي لكي يحتل اسمي المنثور مكاناً إلى جانب اسمه الذي يختلط فيه الحرف بالنغم ويتوهج بالموسيقى التي تأخذ إلى النشوة.
ولان طلال حيدر قد جاء قبل الاديان جميعاً فلقد ظل خارجها وان هو افاد من ترتيل القرآن، بالقراءات السبع لكي يجعل للكلمات اجنحة من نور ترف فوق سامعيها فتأخذهم إلى السكر وما هم بسكارى..
ومع انه يتحدر من اسرة فيها باشوات وبكوات فلقد قرر ونجح في أن يكون آخر الصعاليك العرب وأبقى ذكره مسبوقاً بالآه من كل اصحاب الالقاب المفخمة والتي تذهب مع الريح..
هو طلال حيدر بلا لقب يسبق اسمه، ولكن النشوة تلحق بالاسم المعطر فتكاد تنزله في السلم الموسيقي للطرب الاصيل.
كتب فيروز فأنشدته سحراً، وأعادتنا معها اطفالاً تدور بنا الدار حتى ننسى أسامينا..
وغنى طلوا العرب راح يوصلوا ع الشام، فكاد العرب يضيعون وتضيع منهم الشام ومعها بغداد وصنعاء والقاهرة من دون أن ننسى بيروت.
وغنى الحب فسهر القمر ورقصت النجوم..
أما حين غنى حبيباته فقد انعقدت حلقات الدبكة ومشى على ايقاعها إلى عشيقة جديدة ترضى بالحب العذري بديلاً.. للتعذر.
أيها الاصدقاء،
أخذني طلال حيدر من بقاعكم الذي يحاول فرض ذاته، بإرادة اهله، على خريطة الجمهورية اللبنانية، إلى بقاعنا الذي عليه الانتظار دهوراً حتى يتم الاعتراف به كجزء من هذا الوطن الذي تجتهد دولته في الغائه والغاء اهله كمواطنين متساوين في الحقوق والوجبات.
اننا اخوة في الشقاء، نحن ابناء البقاع
وإذا كان بعض الرواد من اهلنا هنا قد هاجروا إلى اميركا اللاتينية، اول مرة قبل نصف قرن او يزيد، فان الهجرة الثانية قبل عشر سنين بدأت ذهبية ثم انتهت بطلب السلامة في العودة.
على أن بعض الوزراء من ابنائكم هنا، ومنهم الصديق وائل ابو فاعور قد حاولوا ـ جهد طاقتهم ـ أن يعوضوا الحرمان الطويل فنجحوا حينا وافشلوا احيانا.
لكأنما كُتب علينا أن نعيش في حمى الاهمال الرسمي، مع اختلاف العهود، وان نحفر في الصخر لكي نؤمن مستقبل اولادنا هنا او حتى في المهاجر البعيدة..
أن الدولة ومسؤوليها لا تتذكر راشيا الا كمنفى لأبطال الاستقلال: يأتونها مرة في العام لاستذكار من باشر بناءها، ثم ينسونها وينسونهم حتى عيد الاستقلال التالي ..
ولولا همة ابنائها واصرارهم على مطالبهم، ومطاردتهم الوزراء والنواب وأهل النفوذ لبقيت طريقها حفراً ولياليها مساحات معتمة والمياه تجري من تحتها فلا تروي العطاش ولا تنير البيوت.
أيها الاصدقاء،
ليس أصعب من الكتابة عن الذين يهزون وجداننا كطلال حيدر بشعرهم فلا مجال للفوز في مثل هذا السباق معروف النتيجة سلفاً.
ولست هنا في مجال المبارزة مع هذا الذي يتبدى عجوزاً حتى إذا بانت الحسان استعاد شبابه ونهض الى الدبكة يرقصها بشعره فإذا النشوة تتفوق على الغزل وتدخله في الامتحان الصعب مع عشيقاته.
لقد نظم عشيقاته قصائد..
لكن الشعر لا يروي غليل الصبا،
وفي حين أمده الوجد بديوان من التغزل بالجمال مطلقا، فانه قد انصرف يوحي إلى كل حسناء انها المعنية بما لم تفهمه من شعره الرقيق والذي يأخذ إلى الطرب.
شكراً لكم، أيها الاخوة في راشيا
إن تكريمكم لطلال حيدر هو تكريم للشعر، للكلمة المضمخة بطيب الحسناوات وفخر الرجولة.
انه تكريم ممن يتذوق لمن يستحق.
ملاحظة: وانتبهوا حتى لا يخطف طلال حيدر بعض صباياكم الجميلات اللواتي جئن ليسمعنه فيطربن ثم يعود إلى وحدته في ديوانه الجديد، وأعود مشياً على قدمي من فوق بدنايل الدرب ع شمسطار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في تكريم الشاعر طلال حيدر في بلدة راشيا، السبت 16 أيلول 2017.