شهران. 20 ألف شهيد. عدد غير معروف من المصابين. شبح مجاعة. أوبئة تتفشى اليوم وتسود الغدّ. أسرٌ أبيدت، معالم غزّة باتت من الماضي. وخناجر لا تحصى تطعن أبناء غزّة في الظهر.
وهم مازالوا يقاومون.
لم يعد التحايل، أو التمني، قادران على إخفاء حقيقية أن أشدّ الراغبين باستمرار الحرب على غزّة هي الأنظمة العربية، كلها. فليمت من يموت، وليُهدّ ما يُهدّ، ولتخبو مجددّا قضية الأمّة في صدور أبنائها من المحيط إلى الخليج، وفي الشتات، بفعل الوقت وبفعل العجز، والأخطر، بفعل تحويل العدوان إلى “حرب” تسببت بها “حماس”.
ليس هناك من يرعبه الذين يكرّسون أنفسهم لمواجهة السلطة وردّ القمع، ورفض الواقع، والتحوّل من الاعتراض إلى الفعل، أكثر من الحكّام العرب. هم يخشون انتقال العدوى، ويخشون قدرة أي مقاومة على تغيير الأمر الواقع. يخشون على كراسيهم، ومناصبهم، ورضا من يغدق عليهم بالأموال التي برائحة النفط، كي يستمرّوا في فرض المهانة على أبناء أرضهم، وفرض المجاعة والرحيل.
والشعب العربي في عزّ غربته، كل في بلده، يردّد مع محمود درويش ما قاله في “حالة حصار”:
“لنا أخوة خلف هذا المدى
أخوة طيبون، يحبوننا، ينظرون إلينا
ويبكون، ثم يقولون في سرهم:
” ليت هذا الحصار هنا علنيّ… ”
ولا يكملون العبارة: ” لا تتركونا
وحيدين… لا تتركونا”
ثم، كأنما الشاشات العربية، وكل منها مملوكة من نظام، باتت تتحوّل أكثر فأكثر إلى مرثيات وصور نعي متكرّرة. في غزّة ضحايا ولا إنجازات. أصوات نحيب وصراخ، ولا صدّ للعدوان مازال شرسا حتّى في بيت حانون عند الحدود شمالي القطاع. لم يعد هناك من يركزّ على الصمود، والقتال، وتحدي الجبروت القاهر بالتفوق العسكري وبالدم، برغم انعدام الدعم. مجرد تسليم بواقع التهجير، وزجّ أهل القطاع في مناطق ضيقة تسهّل القضاء عليهم جماعة، وأفرادا.
لا أخبار أو صور من الضفة الغربية، كأنما “غزة الصغرى”، جنين، لم تُقتحم ولم تنتهك مستشفياتها، وكأنما “المطلوبين” لإسرائيل لا يقتلون واحدا تلو الآخر، منهجيا، بخطة محكمة قائمة على انتشار عملاء وجواسيس في أراض من المفترض أنها تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
لم يعد أحد ينتظر انعطافا في مواقف الغرب. في حرب لبنان في 2006، كان انتشار صور مجزرة قانا الثانية، بالإضافة إلى الواقع العسكري، كافيين لدفع الغرب إلى إلزام الإسرائيليين بوقف الحرب. عدوان غزّة 2023 بدأ بصور مجازر شاهدها الكوكب برمّته، تصاعدت فداحتها ووتيرتها يوما بعد يوم. إلا أنه من الواضح أن الأنظمة الغربية ليست معنية بوقف العدوان، ولم تتأثر بأعداد المتظاهرين في مدنها، وبأعمارهم، وبتأثيرها حتّى على المستقبل السياسي لأحزابهم، وبصور الدّم المنثور على وجه غزّة من الشمال إلى الحدود جنوبا.
أما الإدارة الأميركية، فتخوض الحرب كتفا إلى كتف مع حكومة نتانياهو، ومازالت لا ترى “أي دليل على استهداف متعمّد للمدنيين في غزة”. حتّى أنها همّشت أوكرانيا، وبالتالي روسيا، للتفرغ للمجزرة. وواشنطن التي يحكمها رئيس فقد أي أمل بإعادة انتخابه، يمكن أن تذهب إلى حدود غير مسبوقة في “الوقت الضائع”، تساهم في المجزرة، تنشر الأكاذيب، تبرر الفظائع، وتتنصّل من المسؤولية.
أما من بين الفلسطينيين من خارج غزّة، بانقساماتهم المعروفة والمستحدثة، فهناك من يمارس فعل الخيانة علنا، ويلقي بثقل مميت على مسار المعركة، ويبقى بلا محاسبة، التي وإن أتت، تأتي متأخّرة وعلى أيدي أبناء الأرض، وليس من أي جهة “رسمية”.
إلّا أنّ المفارقة المهينة، مع أنها الأقرب إلى الواقع، فهي أن أي تحوّل مجد قادر على عرقلة مسار الحرب يمكن أن يأتي من المعتدين الإسرائيليين أنفسهم. فالوقت أصبح يضيق على الحكومة الحالية، وأعضائها المتصارعين في ما بينهم، وسط المعارضة المتزايدة لنتنياهو، وفشله في إحراز أي هدف معلن على الأرض، واستئناف محاكمته بتهم فساد، وبين ضغط أهالي المخطوفين لدى حماس، والانهيار الاقتصادي، ووضع الجنود بين منهار ومحتار في غياب أي خطة عسكرية واضحة، والضغط الممارس على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، بالإضافة إلى رحيل عدد غير معلن من المستوطنين والإسرائيليين من أراضي 48، منهم من غير رجعة.
وأيضا ودوما، يبقى الرهان الفعلي على من يخوض المعركة، ويستبسل في الدفاع عن قضيته وعن أرضه، متسلحا بيقينه بأنه صاحب الحق. تعب أهالي غزة. فقدوا أولادهم، وأهلهم، وبيوتهم، ومدنهم، وسبل العلاج والمأوى والزاد. تعب أهالي غزّة. شهران من الجحيم الممهور بنجمة مسدّسة صنعت لبثّ الموت والقهر، وهم وحدهم بلا نصير. انهاروا نفسيا، وباتوا لا يعرفون ما الذي ينتظرهم بعد. لكنهم مازالوا يصرخون: “لن نرحل”.
هامش شخصي: لكنك لو كنت معي، هنا، لمررت بيدك على خدّ غزّة، وهمست في أذنها “أنتِ روح الروح”.