طلال سلمان

هيكل يقرأ المستقبل العربي

على غير انتظار، جاء محمد حسنين هيكل إلى بيروت ليقول فيها، وبنبرة حزينة، ما كان يجب أن يكون سياسة معتمدة من طرف دول عربية عديدة تبدو الآن مهددة في وجودها أكثر مما كانت في أي يوم،
ومن على منبر نقابة المحامين، قدم الكاتب العربي الكبير لوحة شاملة للمخاطر والتحديات التي تواجه الأمة بأسرها، في قلبها كما في أطرافها، وفي حاضرها كما في مستقبلها، غاب عنها التوجه بالمطالبة إلى حكامها الذين بمعظمهم لا يقرأون ولا يفكرون ولا يهتمون إلا بكيف يحفظ كل منهم رأسه في الحاضر ولأطول فترة ممكنة، ولو على حساب الأمة بكياناتها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي الممتاز وبشرها الذين يدانون صباحا ومساء بالتقصير والتخلف والعجز عن تحقيق أي انتصار.
قدم هيكل، بالمعلومات الغزيرة وبالتحليل الدقيق، أول قراءة عربية متكاملة للتفجيرات النووية التي أجرتها، مؤخرا، كل من الهند وباكستان، لينبه الى مخاطر الانسياق وراء أوهام »القنبلة الإسلامية« بحيث نفقد صداقة الهند من دون أن نربح ما يعوضها من باكستان، وندخل طرفا أو ننزلق نحو صراع لا يقل خطورة عن الصراع مع إسرائيل، وهو صراع عربي إسلامي هندوكي.
واستخلص هيكل بصراحته المعهودة أن الخليج العربي في خطر، فهو مكشوف ولا يمكن اعتبار الوجود العسكري الأميركي فيه عنصر تأمين وطمأنينة، وأن بين المهمات الملحة المطروحة على الأمة الآن المحافظة على الخليج عربي الانتماء والهوية والمستقبل.
وفي ضوء هذا الاستخلاص كان لا بد من أن يذكر هيكل بأن القلب العربي ومراكز صنع القرار في وسطه ليست مهيأة لحدث التفجيرات النووية في شبه القارة الهندية ولا هي مهيأة لرسالة الخليج الى القلب العربي والتقدم لنجدته.
العلة هي هي هنا، في الصراع العربي الإسرائيلي، وهناك في مواجهة »التساقط النووي تحمله الرياح من شبه القارة الهندية مشحونا بالمطالب وبعدها بالمطالبات«: المأزق الذي لا يبدو له مخرج بسبب رهان عربي وبكل الأرصدة على الولايات المتحدة الأميركية..
وكان من الطبيعي أن ينبه هيكل الى ان رهان العرب على الدور الأميركي في عملية السلام قد انتهى، رسميا، مع اغتيال رابين في خريف 1995، وواقعيا مع انتخاب بنيامين نتنياهو رئيسا للحكومة الإسرائيلية في أيار 1996.
وهكذا فقد بات مأزق الشرق الأوسط مزدوجا: »مأزق عربي صنعته الأوهام، ومأزق إسرائيلي صنعته الأساطير الدينية، ثم أصبحت المآزق هرما مثلثا مغلفا بمأزق أميركي، وذلك حين عجزت السياسة الأميركية عمليا وقانونيا وأخلاقيا عن المحافظة على قواعد اللعبة كما وضعتها حين دعت الأطراف الى الذهاب بأرصدتهم الى رهانات قصر »الشرق« في مدريد«!
كان لا بد أن يشير هيكل، وقد فعل، الى عملية التسلل التي تمت فلسطينيا في اتجاه أوسلو، ثم انكفأت عائدة مرة أخرى الى حيث كانت قبل مدريد: رصاصا داميا وقنابل دموع في شوارع القدس والخليل وغزة.
وكان لا بد أن يحدد »نتيجة الرهان وبكل الأرصدة على واشنطن والتي لم تعد تسمح للاعب، ومهما بلغ ولعه بالقمار السياسي، ان يواصل اللعب بمنطق تعويض الخسارة«.
* * *
لمدة ساعتين كاملتين، تابع جمهور احتشدت فيه »النخبة« من العاملين في حقول السياسة والقضاء والاعلام إضافة الى أهل الدار من رجال القانون، قراءة هيكل لأفق المستقبل العربي الذي يبدو مثقلا بغيوم الخيبات السوداء ووجوه التقصير الفاضحة.. فجاءت المحاضرة أشبه بتلخيص لكتاب التحولات الخطرة التي لم يستعد لها العرب إلا ببعض التصرفات المرتجلة والطائشة وقصيرة النظر والتي تفقدهم من الصداقات والإمكانات أكثر مما توفر عليهم من العداوات.
وبرغم الرغبة العارمة في حوار مفتوح مع هذه الشخصية الغنية بتجربتها المختزنة كما بمتابعاتها اليومية الدقيقة، فلقد ضاق الوقت بالأسئلة، واختار هيكل أن يتجنب ذكر الأسماء، لا سيما اسم القائد الراحل جمال عبد الناصر، حتى لا يثير حساسيات أو عواطف مريضة، مع أنه لم يغفل الإشارة إلى إنجازاته الكبرى، وبين أخطرها أن مصر وعشية النكسة في حزيران 1967 كانت قد غدت قريبة من باب النادي النووي، بفضل تقدمها العلمي والجهد الممتاز الذي بذل لإعداد القاعدة الضرورية لمثل هذا الحدث الجلل (العلماء، المصانع ذات الصلة ومنها كيما ومصنع الغلايات الخ. الأبحاث، والتقدم في التجهيز وفي العمل في المفاعلات النووية)..
على أن هيكل في محاضرته الكتاب، كما في حواره المبتسر مع من تيسر له من الجمهور أن يسأل، قد ركز على حقيقتين أساسيتين في ما يتصل بالصراع العربي الإسرائيلي:
} الاولى فكرية سياسية وهي »ان الصهيونية السياسية وهي حركة علمانية اتمت عملية بناء الدولة اليهودية في فلسطين، وهي دولة تقوم على اساس ديني.. والاساطير الدينية، بالطبيعة معتقدات لا تقبل التجزئة، وحين لا يكون لشرعية الدولة اساس غير سلطان الاسطورة فان السلام بالمعنى الانساني مستحيل، لان الاسطورة يتحتم عليها ان تجعل خريطتها مطابقة لعقيدتها..«
} والثانية تاريخية وهي بحكم البديهية لو ان حكامنا يعقلون، ومستوى الوعي يتناسب مع الشعور بالخطر، وقدرة الناس على الحركة والتعبير عن انفسهم تتناسب مع ضرورة المواجهة، وخلاصتها: »لا بد ان تنزع الامة نفسها من فكرة الهزيمة القدر، وتستوعب الحقائق التي صنعها اتصال الارض والتاريخ واللغة والثقافة والمصلحة والامن بين شعوبها«.
مرة اخرى وجد هيكل نفسه مضطراً الى التذكير بان القلب العربي ومراكز القرار فيه تبدو معطلة او مشغولة عن مواجهة المخاطر، كما عن تحقيق الطموحات، بسبب العجز غالباً ومن ثم الرهان بكل الارصدة على الولايات المتحدة الاميركية.
***
لم يكن هيكل في موضع الرجل الحكيم، ولا اتخذ سمة الناقد او الناصح، بل هو اختار ان يقرع ومن بيروت بالذات جرس الانذار، وان يطرح الحقائق عارية، مجتهداً في اعادة الاعتبار الى حقبة النهوض القومي في التاريخ العربي المعاصر، من دون تقديس، مؤكداً قدرة الامة على تحقيق النصر، من دون الاحالة الى الحتمية التاريخية.
خاطب هيكل ومن فوق منبر بيروت ذي الجمهور العربي الواسع، العقل العربي، لا الوجدان العربي، وبالارقام والوقائع، لا بالتمنيات، وألح على ضرورة ان يستعيد قلب الوطن العربي دوره، والا استحال الانقاذ.
حدد المخاطر بمصادرها والاحتمالات، ووسائل المواجهة والقدرات (ولو معطلة الان).
لم يكن مبشراً، ولم يكن نذيراً، ولكنه رفع صوت العقل العربي لعل الجميع، مسؤولين وشعوباً يسمعونه، ويحاولون، فقط يحاولون..
***
ما بين الصباح المضيء في قصر العدل ببيروت، حيث حاضر زميلنا الكبير، وبين ساعة الغروب الشاحبة في بيت وزير الداخلية في بتغرين، على بعد ساعة تقريباً، حيث وقع »الاشكال المؤسف« بين رئيس الجمهورية وبين واحد من زملائنا الصحافيين المعروفين، هبت علينا عاصفة جديدة من رياح اليأس.
ومع وعينا العميق للازمة الجدية التي يعيشها محمد حسنين هيكل مع السلطة السياسية في مصر، فلقد وفر »الاشكال« اللبناني المؤسف جوانب اضافية لاختلال العلاقة، او لضياع »النخب« في المجتمع العربي عن الحد الادنى من مطالبه وضرورات حياته اليومية، فكيف بطموحاته العظمى.
ومؤسف ان يكون هذا »الاشكال« قد غطى فكاد يطغى على صدى صوت هيكل وهو ينبه بلهجة العرافة الى ما يحدق بنا من مخاطر وتهديدات جديدة اضافة الى القديمة،
وعذراً، استاذ هيكل، فعندنا ما يشغلنا عنك وعن تحذيراتك من ضياع القلب العربي والمشرق العربي والمغرب العربي والجنوب العربي.
واهلا بك سائحاً او مستثمراً او مستمعاً لطروحاتنا الباهرة التي تحتل عناوين صحفنا المتهالكة والمعبرة افضل تعبير عن واقعنا الممتاز!
لقد ازعجتنا فافزعتنا، ونحن ننتظر من القاهرة غيرك وغير نبوءاتك المفجعة بالتأكيد.. فعد سالماً الى بلادك واتركنا لافراحنا البلدية الصغيرة!

Exit mobile version