طلال سلمان

هوامش

رسالة إلى القمة التي لم تدع إليها الفراشات
على باب »قصر المؤتمرات« في القاهرة، حيث عقدت »قمة السيدات الأوليات العربيات«، تماما في مواجهة »المنصة«، وخلف نصب »الجندي المجهول« في »مدينة نصر«، الذي »احتله« أنور السادات بعد سقوطه صريعا برصاص رجال العبور في »6 أكتوبر 1973« وقد شعروا بأنه اغتالهم بعد الاستشهاد، وجدت هذه الرسالة المغفلة التوقيع:
»أيتها السيدات الأوليات المحترمات
»تحية طيبة من سيدة لم تعرف الدرجة الأولى ولو في صفوف الدراسة الابتدائية، وبعد،
»تابعت بشغف على الفضائيات العربية، التي نكتشف أكثر فأكثر فوائدها العميمة، بعض وقائع جلسات مؤتمركن الأول، وسمعت نتفا من المقررات، فرأيت من واجبي أن أرفع إليكن هذا الملتمس:
»لن أحرجكن فأطالبكن، كما المتطرفون والسذج الأغرار أو الحاقدون والموتورون، بأن تقدمن إلينا الخدمة الجلى التي تحتاجها الأمة وهي إنقاذنا من أزواجكن… ذلك أمر لا تقدرن عليه حتى لو رغبتن فيه!
»ولكنني كنت أتمنى لو سمعت منكن غير ما سمعنا: فاللغة رجالية لأن رجالا هم الذين كتبوا لكنّ الخطابات. والمطالب حكومية، لأنكن التقيتن وأنتن في مواقع الحكام. والحكم رجالي حتى لو كان السلطان امرأة. والنبرة سلطوية الى حد كبير، حتى وأنتن لا تملكن السلطة، لكنكن تمارسن تقاليدها.
»ولست أعرف إلى متى تتوجهن بمطالبكن، لا سيما السياسية منها، فلو كانت تلك المطالب صادرة عن إيمان حقيقي لأجبرتن أزواجكن على اعتمادها برنامجا للحكم.
»وأصارحكن بأنني أحسست أنكن تسرقن منا حق الكلام وتصادرن آراءنا، كما يفعل »رجالكم« مع رجالنا. وأنتن تكررن في قمتكن ما قاله السلاطين في قمتيهم المتعاقبتين في القاهرة والدوحة.
»لقد أملنا أن تقدمن الوجه الجميل للسلاطين الذين نعرف لهم وجوها غير جميلة، لكننا وأرجو ألا تجرحكن ملاحظتي رأيناكن وقد بات لكل واحدة منكن ملامح زوجها الصنديد، بما في ذلك الشنب واللحية في بعض الحالات… ربما لأن كاتب الخطابات واحد، وهو رجل بالضرورة، وقد أنساه الجلوس الطويل في القصر شكل الرعية، بل الأشكال جميعا، فبات للناس كلهم صورة الواحد الأحد الذي يدينون له بالرزق.. بل بالحياة!
»لقد تأملت وجوهكن، وبالكاد تعرفت الى ملامح الأم فيها أو الأخت، أما الحبيبة فلم تدع الى المؤتمر أصلا، فالحب في القمة ممنوع، ولعل حكمة إلهية قد أبقته »تحت« ليظل للناس ما يعيشون به وله.
»كانت، بصراحة، قمة لأهل القصور، محاطة بحرس القصور المكلفين بمنع الفراشات والموسيقى والضوء والأمل من الدخول.. فكيف بالانتفاضة؟!
»في أي حال لديّ مقترح بسيط لكي يصبح لمثل هذه القمة من وظيفة في المستقبل: فلتبدأ كل واحدة منكن بتنفيذ ما تطالبن به انطلاقا من القصر،حيث تقيم، بعيدة عن معاني كلمات الخطاب التي نطقتها بصعوبة برغم التشكيل والتمرين والتكرار…
»أما المقترح الفوري والعملي فهو ان تتبرع كل واحدة منكن بجواهرها واللآلئ المحفوظة في الخزائن التي لا تفتح إلا بالأرقام، وبثمن الملابس الجديدة التي كانت تنوي شراءها في الموسم الجديد.
»أما المقترح المستحيل فهو أن تمارس واحدتكن نفوذها على زوجها المهيب فتجعله يأمل بتحويل الميزانية المخصصة لحرسه الحديدي الى صندوق دعم الانتفاضة.
»فإذا تعذر هذا وذاك فلا أقل من إعلان »انتفاضة« في قلب كل قصر سلطاني، وكلنا يقدّر ان لكل منكن ألف سبب وسبب للقيام بمثل هذه الانتفاضة، وجميعها تتصل بالقصر وبالسلطان وليس بالخارج.. كل الخارج.
والسلام على من اتبع الهدى…
مواطنة عربية أضاعت اسمها!

تأخر الموعد عن موعده، فلا تلتفت إلى الخلف
»إلى م.ك.«
المطر شحيح هذا العام، والقحط ينشر القتامة فتذبل الشمس وهي تنشر اليباس.
الخريف يتقطر أحزانا فتنزف حياتك أحبة وأصدقاء وشركاء طموح يشيعون فيها فرحة الأمل ومتعة الإحساس بالصحبة والثقة بالنفس.
لا ينفع العتاب في منع الغياب. ويتفاقم إحساسك بالوحشة وأنت تتوه في دهليز التساؤل: أأنت الخاذل أم المخذول؟!
* * *
هي رحلة »العودة« إذاً؟!
تعود لكي لا تعود: تأخر الموعد كثيرا عن موعده، فسعيت اليه وأنت تجاهد حتى لا تلتفت الى الخلف، مع وعيك بأن ليس أمامك أمام.
يشحب الضوء تدريجا. يتهافت الصوت، ينحل الجسم حتى يكاد يضمحل، لكنك تظل ترى ما لا يرى، وتفهم ما لا يقال وتقول كعادتك بصمتك ما يفيض على طاقة الكلام.
سيتوقف »الخط« بين ميدان الأوبرا الفسيح في باريس والبيت في »البستان« الذي يقف على حراسة الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط: متى تصلون الى الضفة الأخرى؟ متى تهبطون من الشعار إلى العمل؟ متى تغادرون العواطف والأحكام المطلقة إلى العقل؟!… كنت تسألنا دائما فنقمعك مستهينين بآرائك، بينما يشدنا طوفان السؤال نحو الدوامة التي نهرب منها.
»البستان« والبيت الذي بالكاد قد اكتمل هو المحطة الأخيرة في الرحلة التي حملتك الى أفريقيا ثم الى أوروبا ولكنك ظللت طوال دهورها تدور وتدور حول المنطلق في »الزرارية« لا هي تغادرك ولا أنت تغادرها فتظل فيك وتظل فيها ولو غريبا في »مدينة« لم تعد لها ساحة ينبض فيها ولها القلب.
… اليوم يعمر البناء »بالأغراب« الذين يجيئون في غيبة الباني الذي كان أكثر ما يسعده أن تكفي غلة »البستان« هدايا للأصدقاء وأجورا للعمال الذين في حاجة الى من يشتري عرقهم بخبزهم.
* * *
»تكسب الحرب يا بني عندما تعود الى منزلك..«.
ها أنت وحدك من بين كل العرب الذين كنت تلومهم على إدمان الهزيمة، تكسب الحرب وأنت تهوي مع انكسارك الأخير، وتعبر بمنزلك الذي انشغلت بتفاصيله عن الدنيا بكل »أساسياتها«، فلا تراه ولا يراك، وتدخله وأنت تتم خروجك النهائي:
أنتم العرب لا تعرفون شيئا. تضيعون أعماركم في ادعاء القدرة على ما لن تفعلوه، بينما »هم« يفعلون وينشرون قدرتهم مظلة فوقكم، يحاصرونكم بها فتظهرون كمهرجين أو كالسذج من المشترين، يدفعون الكثير ثمنا لما يفترضون القدرة على امتلاكه بينما هو لا يباع ولا يؤجر ولا يعار!
* * *
نبني البيوت للفراغ والصمت والتمنيات الكسيحة.
تسمق أشجار الورد بسيقانها، تعلو وتعلو ثم تتفتح أكمامها مهرجانا من العطر ولون الندى: فلتحمل الريح شذاها الى كل عابر سبيل. هواء الجنوب مزيج من عطر النجيع وشميم الورد.
* * *
كيف التخلص من طيف ابتسامتك المعذبة وأنت تتقدم منا لتعزينا فيك؟!
ولكنك رميت بعضا من ملامحك في كل الأمكنة حتى ليستحيل التحرر منك: إن جمعنا مجلس أنس حضرت بلا دعوة، وان طال بواحدنا الغياب عن الباقين تطوعت لجمعنا، تطرب حين تأخذنا نشوة الطرب، وتفرح لضحكنا حتى لو اتخذ بعضنا من »باريسيتك« أو من »حشريتك السياسية« موضوعا للتشهير بسذاجتك!
لن تتقاعد أيها الذي كنت تتباهى علينا بأنهم »هناك« يؤمّنون الإنسان ضد الشيخوخة بينما نحن نتهمهم بأنهم يغتالون شبابنا.
لا يليق بك التقاعد، أيها الرجل الطيب: فمن سيحاول عبثا أن يعلمنا الأناقة، ومن يصر على أن يرمي عطره على المارة، ويبادر كما »الفارس« فيقدم الى الصبايا الأساور والخواتم وكلمات الغزل المتأخر عن زمانه مع ابتسامات اعتذار عن براءة القصد.
سلاما أيها المتصالح مع نفسه والصامد على هدوئه مهما اشتدت عليه العواصف والأزمات. سلاما أيها الذي لم يعرف الكراهية فبقي عنوانا للحب، للإنسان.
.. ولسوف يظل مقعدك في بيتنا محجوزا لك، ينتظرك معنا مستخفا بعبث الغياب الذي نكاد لا نصدق أنه سيكون مراً كالحقيقة.

متى يكتمل العرجون؟
كان مغضبا غارقا في ذل الخذلان. ودفع إليّ بهذه الرسالة »لعلها تقرأ فتنتبه« وها أنا أمتثل.. مع أطيب التمنيات:
»العرجون…
»يلح علي هذا التوصيف كلما التقينا في قلب الحشد فتصرفت كعاشقة، حتى ليحاصرني الحسد والغيرة، فإذا ما انفض السامر دخلت صدفتك وأغلقت نوافذك ومضيت في اجترار كلمات الغزل الطائر وفي إضافة أسماء جديدة الى قائمة المتيّمين المنتظرين في قلب الخوف.
في ليل الوحدة والبرد تتلفعين بقائمة الصوَر والعناوين الساكنة: تتأملين الوجوه المفتوحة عيونها على الفراغ، الذين تجمعك بهم الثرثرة ويفصلك عنهم الصمت الحميم.
تهربين من الرغبة في الرغبة إلى العبث برغبات الراغبين فيك، من الوقت الميت الى الوقت الميت الذي يأخذك الى شيخوخة القلب والجسد.
تقتلين الوقت. تقتلين الرغبة. تقتلين الدفء ثم تجأرين بالشكوى من برد الوقت الميت بالرغبة الموءودة وتسافرين عبر الثرثرة الى حشد العشاق الغارقين في عبث الانتظار.
متى يكتمل العرجون؟!«

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أتعرف من هو أعظم المحبين؟ إنه ذلك الذي يعلّم الناس الحب. ذلك الذي يعطي ولا يأخذ منك لأنه ممتلئ بالحب، وكلما أعطى ازداد امتلاءً.
أعرف من يعيش من حبه الآخرون. أتمنى أن يكتب لي مع حبيبي مثل هذا الامتلاء.

Exit mobile version