طلال سلمان

هوامش

كيف يُثبت فلسطينيو 1948 أنهم فلسطينيون؟!
أعرف سلفاً أنني أطرح أسئلة ساذجة على عباقرة زمن حوار الحضارات وسقوط العقائد والإيديولوجيات والأديان (ما عدا اليهودية؟!).
وأعرف أنني سأواجه بمجموعة من الاتهامات القاسية، أبسطها أنني لا أفقه شيئا في القانون الدولي، وهذا صحيح.
وأعرف أنني قد أتهم بالقصور السياسي وبالمراهقة الفكرية وبما هو أخطر: بإثارة قضايا حساسة مستهدفا الإحراج بالمزايدة والتسبب ببعث ما كان قد ترك للزمن أن ينهيه بالشيخوخة.
مع ذلك سوف أطرح تلك الأسئلة التي ستجلب لي صفات ممتعة بينها »الغباء« و»المزايدة« و»التعصب« لقومية بائدة.
من تلك الأسئلة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
} لماذا يغفل المسؤولون العرب عموما، والقيادة الفلسطينية خصوصا، أي ذكر »لعرب إسرائيل« في كل أحاديثهم وطروحاتهم السياسية عن الحاضر والمستقبل؟!
} هل سلَّم الجميع بأن هذا الشطر المهم من الشعب الفلسطيني قد بات بقوة الفرض والقهر والأمر الواقع »إسرائيلي« الجنسية، وبالتالي أسقطوا عنه هويته وانتماءه إلى أرضه؟!
} إن »عرب إسرائيل« كما تسميهم سلطات الاحتلال، يشكلون نحو الثلث من الشعب الفلسطيني داخل أرضه، ونحو الخُمس من سكان »إسرائيل«، وقد أثبتوا ويثبتون يوميا ما ليس بحاجة إلى إثبات: أنهم فلسطينيون بقوة الانتماء إلى الأرض وإلى التاريخ وإلى الانتفاضة وإلى الثورة وإلى التضحيات، وهم »ممنوعون« من أن يكونوا فلسطينيين بالقهر.
ماذا يمنعنا نحن من التمسك بفلسطينيتهم؟!
لماذا نسلّم بهذه البساطة بأنهم »إسرائيليون«، ونقبل أن تعطى لهم، بل ونستخدم نحن عنهم التسمية التي تنفي فلسطينيتهم فنطلق عليهم التسمية الإسرائيلية: عرب إسرائيل؟!
هل بين العرب من هو أكثر عروبة من الراحل توفيق زياد أو من سميح القاسم أو من عزمي بشارة (وليس ضروريا التذكير بمحمود درويش) وآلاف الآلاف من أمثالهم المجهولي الأسماء، وإن كانت نضالاتهم معروفة بل ومخلدة، وآلامهم تجلّ عن الوصف، وشعورهم بالنبذ والاتهام الضمني والتشكيك بوطنيتهم يطاردهم حيثما ذهبوا وحلوا؟!
ها هم طليعة من طلائع الانتفاضة، بشهدائهم وليس بخطبهم ومهرجاناتهم الصاخبة التي يصرخ فيها الخطباء في الجمهور بالبديهيات ثم يجلدونه بالمطالبات المستحيلة هرباً من الإجراءات العملية الممكنة؟!
لقد قدمت الناصرة بالذات من دماء فتيانها ما محا وصمة العار التي كادت تلحق بالنضال الوطني الفلسطيني، حين أثار المتعصبون والذين أعماهم التطرف والغرق في السلفية ونسيان الحاضر والمستقبل، تلك »المسألة العقارية« التي سرعان ما حولها الاستغلال الإسرائيلي (وهو طبيعي) الى فتنة.
قال أهل الناصرة ومعهم أهل حيفا وعكا وأم الفحم وكفركنة وسائر المدن والقرى والدساكر، انهم في حياتهم وفي استشهادهم فلسطينيون، وأنهم طالما حلموا بالثورة وانتظروا انتفاضة تمكنهم من إعادة تذكير أهلهم بأنهم منهم ولهم وفيهم، لم يصبحوا »إسرائيليين« ولن يكونوا أبدا إلا حقيقتهم: البعض الأكثر قهرا وانسحاقا من شعب فلسطين لأن كلمة فلسطين ذاتها ممنوعة عليهم ولو كهوية… مبدئية!
إن إسرائيل تعتبر كل يهودي، وحيثما كان في أربع رياح الأرض، »مواطنا« إسرائيليا، تستقدمه إذا استطاعت، وتسبغ عليه حمايتها إذا بقي في »مهجره«، فتمنع عنه المحاكمة والمساءلة حتى لو ارتكب جرم الخيانة بحق موطنه الأصلي الذي شرَّفه بجنسيته ووفر له كل شروط الحياة التي يوفرها لسائر »مواطنيه«.
ان إسرائيل تحاسب أي دولة في العالم إذا ما تجرأت فطبقت قوانينها الطبيعية على رعاياها من اليهود: تتهمها بالعنصرية إذا ما تشددت في منعهم من الالتحاق »بجيش الدفاع الإسرائيلي«، وتشن عليها حملة تشهير دولية إذا ما حاسبت »المهرب« منهم واللص والقاتل ومبيض العملة والمتاجر بالمخدرات وصولاً الى من يخلّ بالأمن الوطني ويحمل الأسرار العسكرية لوطنه الى إسرائيل.
آخر الأمثلة أن الضغط الإسرائيلي، المعزز دوليا، قد أجبر دولة عقائدية النظام الإسلامي، مثل إيران، على التراجع وتخفيف الأحكام مرتين، والثالثة في الطريق عن شبكة من الجواسيس صودف أنها تضم مجموعة من اليهود وتنقل الأسرار العسكرية لدار الإسلام الى دولة التوراة في أرض الميعاد.
إن الدم هو الدم، والأرض هي الأرض، والتاريخ هو التاريخ، والعدو هو العدو، فلماذا نتعمد إسقاط هذا الجزء من فلسطين وشعبها من الذاكرة العربية، ونترك مصيره لعدوه عدونا الواحد؟!
لقد تساقط الشهداء والجرحى بالعشرات في مدن »فلسطين 1948«، ولم يجد أهلها مرجعا يلجأون إليه، فكانت مبادرة المناضل عزمي بشارة حين توجه إلى الأمم المتحدة يطالبها بتأمين الحماية لهذه »الأقلية القومية« التي تفتقد الأمان في »دولتها« التي نُسبت إليها بالإكراه والتي لا تلقى منها إلا الحقد والكراهية العنصرية والرغبة في طردها أو إبادتها كما عبَّر المستوطنون الذين استُقدموا حديثا من دول ليس فيها الكثير من اليهود، فنُسبوا الى اليهودية ثم إلى إسرائيل ثم أعطوا حقوق وراثة الفلسطينيين وهم أحياء بعد في منازلهم التي أقاموها بعرقهم وجهدهم على أرضهم منذ آلاف السنين.
ألم يحن الأوان للاعتراف لهؤلاء الأشقاء الفلسطينيين بأنهم فلسطينيون وعرب؟!
يعرفون أننا في أبأس حال، ولكنهم يريدون أسماءهم ويتمسكون بحقيقتهم، فهل نعاقبهم مرة أخرى؟!

داخل المغطس .. خارج الجسد!
ضبط شعوره بالمفاجأة حين اكتشف ان من سيقوم بتدليكه بالماء سيدة، لكنه لم يستطع التخلص من حيائه الغريزي الشرقي من أن »يكشف« عوراته أمام امرأة ليست »حلاله«!
حين أشارت إليه أن ينطرح في المغطس العريض والممتلئ حتى ثلثيه، تقدم مطرقا فارتقى الدرجتين الخشبيتين »وأعطاها ظهره« وهو يهبط مرتبكا ويتمدد متبعا تعليماتها الصارمة وقد تمسك بالعارضتين الجانبيتين مسندا رأسه الى الحافة متنبها إلى أوامرها خوفا من أن يضيف الى عبء حرجه تهمة العصيان!
لم تكن معنية به إلا كعينة إضافية من هؤلاء الذين يأتون للعلاج أو لإراحة أعصابهم والسياحة في بلاد يسمعون أنها رخيصة الفنادق والبضائع والنساء!
انتبه، في لحظة، إلى أنهما كليهما خارج الحالة الإنسانية: لا هو ذكر ولا هي أنثى، ولا شميم جنس في هذه القاعة المقسمة مربعات ومغاطس، والعلاقة بين »الزبائن« والمدلكات بحت مهنية والمتعة الوحيدة فيها »مائية«!
تنظره فلا ترى منه إلا المواضع التي يتوجب أن تسلِّط عليها خرطوم المياه، وينظرها بطرف عينه فلا يرى منها إلا جانبا من وجهها الطفولي المتورم وقد جمدت عيناها كمن ينظر في الفراغ وانحنى الجزء الأعلى من جذعها الضخم على جدار المغطس بينما اختفت كتلته العظمى خلفه.
هو الآن مجموعة من العضلات والألياف والعظام والأعصاب والشرايين والشعر. كتل من اللحم والشحم وليترات قليلة من الدم وليترات عظيمة من المياه.
تذكر ما درسه في طفولته، ثم ما ثقف نفسه به في شبابه عن الجسم البشري: الطول الهائل للأمعاء، القوة النسبية الفائقة لعضلات القلب، والدوي الهائل لنبضاته التي يحجب صداها الغلاف الحاجز، والرهافة التي تتمتع بها شعيرات الأذن، والعلاقة المتعاكسة بين العين والدماغ وكيف نفهم صورة ما نرى!
أمرته بأن ينقلب على بطنه فصدع وانقلب، وجاءت لحظة بات صدرها الضخم يشغل معظم الجزء الذي يراه من جدار المغطس. أشفق على زوجها وقد أخذته خواطره الى غابة من الأسئلة الشائكة: هل تراها ما زالت تحس بجسدها وبجسده وهما في الفراش؟! هل تجري مقارنات قد تكون ظالمة بينه وبين من تراهم ربي كما خلقتني؟ هل ما زالت قادرة على إمتاعه جنسيا والاستمتاع بمعاشرته؟! هل تستعيد قدرتها على رؤية الناس كبشر، لا كزبائن ولا ككتل من اللحم والشحم والأعصاب والتشوهات؟!
ثم وجد نفسه يعيد مناقشة مسائل كثيرة حول الجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة، وبالتحديد حول »الجسد«، في ضوء هذه التجربة الصغيرة.
أنهت عملها فأشارت إليه أن »انهض«، فنهض، وجاءت بمنشفة أخذت تمررها على ظهره، ثم تركتها له لينشف صدره وما دون الصدر، وانصرفت عنه فقُدِّر له ان يراها »كلها« فاستعظم حجمها وأخذته الآن الشفقة على زوجها!
في المطعم، وبعد أقل من نصف ساعة، ضبط نفسه وهو يتابع الحركة المنسقة لردفي الخادمة التي تأتيه بالوجبة المقررة، ملاحظا أن تنورتها أقصر مما يجب وأن فتحة القميص عند أعلى الصدر تستدرج النظر لتأمل منعرج الهوى بين الدخول فحومل!
أما بعد الظهر فقد تلاقى مصادفة بمعذبته في المغطس تسير مع زميلة لها، ولم يستطع ان يمنع نفسه من ملاحظة أخطائه الفادحة في الاستنتاجات الصباحية حول مدى تأثير الشهوة الشخصية بأجساد الآخرين وتشوّهاتها الكثيرة!

قصص مبتورة
ساد الصمت حتى بتنا نسمع ترددات أنفاسنا.
تعلقت الأبصار بعصا المايسترو الرقيق الحاشية، حتى إذا ما حرك يديه انبجس النغم كما أشعة الفجر الأولى المبشرة بنور غامر وبدفء للقلوب المهجورة.
جال ببصره بين أفراد الفرقة الكبيرة المنضبطين بأكثر من الجنود أو المجاهدين الذين بصدد عملية فدائية.
وحدها كانت في السرب وخارجه.
كانت تحتضن كمانها وكأنه وليدها الذي جاء بعد عقم طال زمانه، وتنعطف عليه انعطافة مشتاقة مكوية بالهجر على حبيبها الذي عاد إليها.
لأول مرة أتيح له أن يقرأ الموسيقى في العينين الساهمتين وفي الشفتين الذاويتين وفي العنق المحتضن الكمان حتى لكأنه بعضه، وفي انسياب اليد التي كانت تكتب سطورا من البهجة ثم ترق فتصير عشقا وترق فتصير هياما وترق فإذا هو لا يرى إلا صورة حبيبه، وإذا كل العالم حب وأطياف محبين غابوا حتى إذا نادتهم الموسيقى جاؤوا على أجنحة الشوق إلى الجمال الإنساني الخارق.
} همى الثلج على حين غرة، ناشرا أعلامه البيضاء فوق أشجار الغابة التي كانت على وشك الدخول في النوم.
قالت سروة لأخرى: أفضل أن ألتف بغلالة من شعر عاشقين يحتميان بي من عيون الفضول. سيكون بردي شديدا في غياب المحبين.
} قالت لصديقتها: أرأيته؟! لكم هو وسيم! المشكلة الآن ان زوجي معجب به ويطلبه كلما غاب… أتراه يريد تعذيبي؟!
} قال الكهل لزوجته المتصابية: الآن تفرضين عليّ الامتحانات الصعبة؟! لماذا إذن كنت تهربين من مسابقاتي الشفوية؟!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب مصادفة. الحب يخلق زمانه، ويهيئ ناسه، ثم يكون اللقاء مناسبة للقول، أي للتعارف تمهيدا للاعتراف. كلنا ننمو داخل الحب، ومن ظل خارجه قضى برداً. اللهم امنحنا نعمة الاحتراق بالمصادفة الصاعقة.

Exit mobile version