طلال سلمان

هوامش

شاعر التاريخ والعروبة و»تلامذته« الخوارج..
درس على قسطنطين زريق مئات من الطلاب العرب، أو ربما بضعة آلاف. لكن الذين تتلمذوا عليه وأخذوا عنه أو تأثروا بأفكاره وآرائه يعدون بالملايين، بغير مبالغة.
والأكثرية الساحقة من »تلامذة« قسطنطين زريق لم يحظوا بشرف الأخذ عنه مباشرة، في الجامعة، حيث كان يدرِّس التاريخ، بل هم أخذوا عنه واختاروه أستاذا وهاديا وتعلموا منه وعليه فتابعوه في محاضراته وفي كتبه وآمنوا بدعوته فصاروا في موقع وسط بين »المحازب« و»المؤمن« برسالة تعطي حياته المعنى.
وعلى امتداد جهده الفكري الطويل والدؤوب ظل قسطنطين زريق أكبر من حزب، وإن شكّل ذلك الجهد حاضنة للعديد من الأحزاب والحركات السياسية وولاَّدة للعديد من التيارات والأندية والتجمعات التي وجدت في كتاباته ما كانت تفتقده من وعي يربط بين الماضي والمستقبل بغير تقديس للموروث، وبغير تهيّب في حمل مسؤولية الحاضر باعتبار الزمن أداة تغيير إنسانية وليس مجرد امتداد باهت لما كان.
ولأنه كان ممتلئا بتلك النفحة الرسولية التي تميز الدعاة وتمكّنهم من إعادة اكتشاف الذات، وبالتالي الأهلية، فإنه لم يفقد إيمانه يوما، برغم توالي النكبات والنكسات التي هزت اليقين بالعروبة، كفكرة جامعة، ومن ثم بوحدة الأمة، وأخيرا بالقدرة على مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجهها بدءا بالكيانية والقطرية وانتهاء بالمشروع الصهيوني الذي مكّن نجاحه من تثبيت الانفصالية، ومن تقديم سلامة النظام على سلامة الوطن، فإذا العربي عدو لأخيه العربي، وإذا الشعار المعتمد »يا رب راسي«، وإذا السباق الى الاستسلام أمام إسرائيل هو الطريق الأقصر الى السلامة، وإذا القومية العربية خطر هدام أو رجس من عمل الشيطان أو بدعة من صنع الاستعمار بهدف التمكين للصهيونية.
* * *
لم تسعدني ظروف حياتي بلقاءات كثيرة مع أستاذ الأجيال ونوارة الفكر القومي العربي قسطنطين زريق، كما إنني لم أنعم بأن أكون بين تلامذته الكثر في الجامعة التي كبرت ببعض أقرانه الرواد فصارت لفترة وكأنها »جامعة العرب«، أو »جامعة الصحوة العربية«.
بين اللقاءات المعدودة التي حظيت فيها بمتعة الجلوس إلى هذا »المعلم«، لقاء بدعوة من الصديقين فيليب واميلي نصر الله في وادي العرائش بزحلة، قبل سنة تقريبا.
كانت الدعوة ضيقة، والجلسة حميمة، في أفياء جارة الوادي، وعند مجرى النهر الشحيح ماؤه العظيم ذكره، ينتصب تمثالان نصفيان لأمير الشعراء أحمد شوقي ومطرب الأجيال الموسيقار محمد عبد الوهاب اللذين خلّدا زحلة وواديها و»الليلين« و»الساعد الذي ترفق فطواها«.
لم يكن في الأخبار، كالعادة، ما يفرح أو يطمئن،
ولم يكن في الأفق السياسي ما يبشر بتحول ينهي أو يوقف نهر الغلط المتدفق بغير ضوابط أو سدود.
وكنا نتقلب في أحاديثنا وتعليقاتنا بين مآس ناجمة عن حروب أهلية مشتعلة فعلاً، وبين مناهج خاطئة تنذر بحروب أهلية لا بد ستتفجر، نتيجة قصور الأنظمة أو ضياعها أو تورطها في ما لا يجوز، أو طلبها السلامة في الاستسلام للعدو ولو بصدام مع شعبها المكسور..
وحده قسطنطين زريق كان على إيمانه بأن هذه الظواهر جميعا، على قسوتها، لن تُخرج التاريخ عن سياقه، ولن تستطيع الصمود أمام منطقه، فهي ليست خروجا على الماضي وحده، بل هي مناقضة لسياقه العام في الحاضر والمستقبل أيضا، وليس لها في الأرض أو في النفس ما يفرضها ويثبتها منهاج حياة.
كنت أتأمل ملامحه البسيطة الطيبة.. وللحظة رأيت فيه ملامح أبي وجدي، وانتبهت إلى أن اميلي وفيليب والعديد من الجالسين إليه يرون فيه مثلي ملامح »الأب« لكل عربي، الأب؟! بل أكثر: لعله الروح.
فهو أفتانا جميعا، برغم أنه أكبرنا سنا، وهو أعظمنا إيمانا، برغم أنه تجرع من النكبات والخيبات وانحطام الآمال أكثر مما تجرعنا… فالمسألة هي الفارق بالعمر، ومن عاش أطول تحمل أكثر.
ثم انه أثبتنا على تفاؤله بقدرات هذه الأمة، ولو أنها قيد التكوين، فالتاريخ فسحة عظيمة للأمل لمن قرأ الماضي الغني ففهمه واستوعب دروسه كاملة، ولم يكن انتقائيا ليبحث في صفحاته السالفة عما يؤيد أو يدعم أسباب يأسه من ذاته فيردد تلك الجملة البائسة التي تنسب لسعد زغلول زورا وبهتانا: ما فيش أمل، غطيني يا صفية!
فسعد زغلول، للمناسبة، آخر من يحق له أن ييأس من الشعب، ذلك أن شعب مصر اندفع إلى الثورة وقائده غائب، بل انه أعاد قائده من المنفى بالثورة، وكانت تلك السنوات المجيدة بين 1919 1923 واحدة من المحطات التي ثبتت فيها نظرية أن التاريخ بالناس، وأن الماضي لا يموت بل يظل يفعل في الحاضر ويؤثر في المستقبل، والمهم قدرة القيادة على الارتقاء إلى مستوى الفعل التاريخي…
قسطنطين زريق ليس الحلم العربي. إنه العالم العربي الذي أثبت أن التاريخ أجمل من الحلم إذا استطاع الإنسان أن يكون مؤهلاً لحمل رسالته وقادرا على الارتفاع إلى مستوى المسؤولية عن حمايته واستكمال مهماته.
إن التاريخ هو المعلم الأكبر،
وقسطنطين زريق هو شاعر التاريخ، وهو سيغدو أكبر في وجداننا كلما اقتربنا من إنجاز المهام التي حددها لنا وفقا لمنطق التاريخ ومسؤولية أهله عنه.
ومن أسف أن أبناءنا لا يعرفون ما يكفي عن جهد قسطنطين زريق وعن نتاجه الفكري الغزير، ذلك أننا أنشأناهم في جو اليأس من الذات والعجز عن التغيير، والسكوت عن الحكام الذين رأوا أنفسهم بديلا من الشعب ورأوا نظامهم أهم من الوطن، واستسلموا أمام المشروع الصهيوني بذريعة الواقعية والحرص على تفهم الرأي العام العالمي ونبذه العنف والارهاب.
ولعل أكثر من أساء إلى قسطنطين زريق وفكره هم أولئك الذين ادعوا أنهم إنما كانوا يطبقون أفكاره في تجاربهم الفاشلة.
لقد ظل كثير من الذين تتلمذوا عليه خارج أفكاره، خارج مفهومه للتاريخ، وخارج استقرائه لدروسه، ولذلك فقد تنافسوا في سَوق الناس إلى اليأس من أنفسهم.
ولقد مات قسطنطين زريق وهو أعظم تفاؤلاً من هؤلاء الذين يريدون أن يرتاحوا ولو بالعيش خارج التاريخ.. وعلى حسابه!.

حوار الصور
قالت الصورة للصورة: أنت حمار! هذه ثالث دورة انتخابية تعلق على جدار، فتصاب بضربة شمس، ويعبث بك الفتية، ويسخر منك المارة، ثم لا تدخل لائحة ولا تركب بوسطة ولا تحملك محدلة إلى مجلس الكلام… فلماذا العناء وتعريض النفس للإهانة، ما دام أن لا أمل ببلوغ »الجنة«؟!
ردت الصورة على الصورة: لن أرد الإهانة، يا غبي… فلولا أنني حمار لما كنت تقدر على الادعاء أنك فزت في معركة ديموقراطية! أنسيت أنك دفعت لي لأكون حماراً فتكون ديموقراطيا، بامتياز!
قالت الصورة للصورة: ما هذه الثياب الرخيصة؟! وأين ربطة العنق المميزة؟ ان الناس يؤخذون بالمظاهر، فلماذا هذه المسكنة وادعاء الفقر؟!
ردت الصورة على الصورة: كل يهرب من واقعه. الأغنياء ينافقون الفقراء، والضعفاء ينافقون الأقوياء، والمرشحون ينافقون الناخبين، والناخبون ينافقون المرشحين. الديموقراطية على الخطين، تذهب ولا تعود. وها أنا أتضامن مع الناس في مواجهة الضنك وضيق ذات اليد. أنا مثلهم، إذاً أنا من له الحق بتمثيلهم.
قالت الصورة للصورة: ألاحظت جارتنا؟! تبدو جميلة! سيعطيها أصواتهم كل المحرومين، هل تعتقد أن نسبة العازبين ستكون أكثر من المتزوجين؟
ردت الصورة على الصورة: ستقاطعها النساء لأنها جميلة، وسيمتنع عن انتخابها كل الأزواج الذين يخافون من زوجاتهم. من اقترع لها سيكون كمن قال رأيه في زوجته. أما العازبون فلن يعطوها أصواتهم لأنها متزوجة. الديموقراطية الزوجية لا علاقة لها بالسياسة.
قالت الصورة للصورة: ألم نلتق من قبل؟
ردت الصورة على الصورة: كنا في لائحة واحدة، أنسيت؟! من حقك أن تنساني، لقد أمرت »زلمك« بتشطيبي لتؤمّن فوزك، فضاعت عنك ملامحي! جاء الآن دوري في تشطيبك أيها الخائن؟!
قالت صورة ثالثة من البعيد: الثأر، الثأر! لا تنتصر الديموقراطية إلا بالدم، أيها الخائنان!
{ قالت الصورة للصورة: أنت مرشح الديموقراطية المرة أيضا؟!
ردت الصورة على الصورة: بل أنا نائبها! مع الديموقراطية المرة تبدأ نائبا ثم تتفضل على الناس بإعلان الترشيح!
{ قالت الصورة للصورة: لماذا تضحك؟! هل ألقى المصور بعض النكات الخارجة قبل أن يلتقط لك هذه اللوحة؟!
ردت الصورة على الصورة: أبداً؟! بل تذكرت ما تعلمناه في الصغر من أن الانتخابات فرصة للتعبير عن الرأي، وأن البرلمان بيت الديموقراطية وحصنها المنيع، وانتبهت الى ان الناظرين الى صورنا قد يضحكون منا فقلت: اسبقهم يا ولد واضحك منهم فيكون لك فضل السبق الى الضحك من الديموقراطية والديموقراطيين. تكون الديموقراطية ضاحكة أو تصير شر البلية فتضحك أيضا! إضحك تَكُن ديموقراطيا، كشِّر تَكُن ديموقراطيتك مرة!
قالت الصورة للصورة: أعرفك؟! لم يتبدل فيك ملمح واحد منذ أربع سنوات…
ردت الصورة على الصورة: بل أنا من مخلفات الدورة السابقة، لم يكن صاحبي ينوي ترشيح نفسه، ثم دخل ذات يوم المستودع فاكتشف كميات مني، فقال: حرام أن تضيع هباء، فلينتفع بها الناخبون! فداء للديموقراطية فلتنشر على كل الحيطان! وهكذا نشرني إعلانا عن إيمانه بالديموقراطية!

وجبة من الشجن
شق الجمال طريقه إلى العيون وسط الرداءة المطلقة: رداءة التنظيم، رداءة الموسيقى، رداءة الصوت، ورداءة الجمهور الذي جلس إلى الموائد يأكل كالمواشي، ثم يقوم إلى حلبة الرقص ليؤدي حركات رياضية تمكّنه من أن يعود فيأكل أكثر!
مرة واحدة تمايلت، وهي جالسة، على نغم أصيل سرعان ما استُبدل بآخر من إيقاعات مصارعة الثيران… ثم انهمكت مع صديقة لها في التأمل والتعليق والنقد وإعطاء العلامات للراقصات والراقصين، والاهتمام بالعروسين الشابين.
ونزولا عند رغبتهما قامت إلى الرقص. كانت قد اختارت »شريكها« بعينيها، وأبلغها بعينيه أنه تلقى الرسالة.
بدأت هادئة، مستعرضة مساحة الحركة، ثم مدت ذراعيها من أقصى نقطة ضوء إلى أفق الغياب، ورفعت رأسها وأمالته الى الخلف، كأنما تتجرع الموسيقى دفعة إثر دفعة فتسري في جسدها تنشيه وتوسع مداه وتطلق سراح الروح فتنبث منه كنغم مذاب، حتى إذا فاض بها الوجد انتثرت فامتلأ بها المكان والأنفاس والمدى، وطاولت أصابعها الرقيقة حوافي الحواس، وتهدل شعرها طوفا من العطر فوصلت ضمة منه إلى كل طاولة، ومال الجذع فطاول الصدر حوافي الضوء بينما التف الساقان على شهقات الشهوة التي استعصى على المعجبين كتمانها، كما استحال على النساء حجب غيرتهن فأطلقنها زفرات من نار تحرق الصدور قبل الحناجر.
تعبت من البُعد، وأنهكتها العيون التي كانت تأكل لحمها، وغمرها حزن العجز عن غب الفرح حتى الثمالة، وظل ذراعاها مفتوحين على الفراغ، فانتفضت واقفة في قلب الانبهار، ثم انحنت تحيي »شريكها« الذي لم يأت، وغابت لحظات قبل أن تعود إلى طاولتها لتكمل تناول وجبتها من الشجن.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
زرت وحبيبي أحد الوجهاء في قصره الفخم لنحضر حفل زفاف ابنته. كان القصر باردا لم تدخله شمس الحب، ولم ينفع حشد المدعوين في إشاعة الدفء في أرجاء الفراغ المثلج. ولاحظت أن الجميع يقترب منا في زاويتنا التي بعرض ذراع لكي يستشعر شيئا من الفرح في كنف الحب.

Exit mobile version