طلال سلمان

هوامش

عن صورة مصر في لبنان والقاهرة في بيروت

لا أعرف كيف اختير العنوان ولا كيف اختير المتحدثون، وإن كنت عرفت انني من بينهم فقبلت المشاركة في »أيام لبنانية في مصر« التي قدمتها أو هي قُدمت تحت رعاية السفارة اللبنانية في القاهرة.
ومع أن العنوان التفصيلي يحدد الموضوع بالدقة، زمنيا ومجالات إنتاج: »1840 1940، قرن عبرت فيه الصحافة، السينما، الشعر والموسيقى من بيروت إلى القاهرة«، فقد وجدت لزاما عليّ أن أتحدث خارج »النص الرسمي«.
هنا بعض ما جاء على لسان »الخارجي« في الندوة التي لم تعرف بها إلا قلة من المصريين وأقل منهم من اللبنانيين لأسباب ليس هنا مجال لذكرها…
لم أشهد البدايات التي نجتمع اليوم لتكريم روادها، ولكنني جنيت ثمار التكامل بين مصر الأصالة ولبنان الثقافة.
ولم أعرف الرواد إلا من آثارهم ومن خلال تلامذتهم الذين أكملوا الرسالة بقدر الطاقة فتعلمنا منهم وأخذنا عنهم ثم حاولنا الاضافة وما نزال.
وكغيري من أبناء جيلي والأجيال التي بعدنا، لم نسكن في مصر إلا لماماً، أما مصر فتسكننا دائما، نتطلع إليها في الأيام الصعبة، ونرنو إليها في لحظات الهناءة، ونقصدها إذا اهتز عندنا اليقين بقدرة هذه الأمة على الإمساك بقدرها واصطناع مصيرها بإرادتها الحرة ووفق مصالحها فوق أرضها المطهرة، وحتى لا يذهب خيرها إلى عدوها.
عشنا نقرأ لمصر فنتغذى علما وثقافة، ونسمع مصر فيحملنا إليها الوجد على جناح الكلمة الفراشة ونشوة النغم المذاب.
كانت مصر كتابنا وصحيفتنا وأغنيتنا والنشيد، من »بلادي، بلادي، بلادي« الى »والله زمان يا سلاحي«، ومن »كادني الهوى« إلى »ليه يا بنفسج«، إلى »أنا في انتظارك« التي كثيرا ما حرَّفناها حتى باتت نداء إليها.
كانت سيفنا وعزنا وفخرنا، حامينا وقيادتنا، مدينتنا العاصمة المحروسة، وكنا نطمع لأن نكون الحرس والترس وحادي الركب المتقدم، عربي الوجه واللسان، إلى الغد الأفضل.
إن غيري ممن هم أكفأ مني وأعلم سيتحدث عن أولئك الذين جاؤوا مصر فعملوا فيها وعملوا لها وابتنوا فيها المؤسسات، ثم استقروا فيها وطناً.
أما أنا فسأتحدث، من موقعي كصحافي، وعن جيلي، في علاقته بهؤلاء الرواد ثم مع من تعاقب بعدهم على المؤسسات التي أنشأوها فكانت في حالات كثيرة، طليعية في الثقافة وفي الاعلام.
لقد تتلمذنا، نحن في لبنان كما في العديد من الأقطار العربية، على الذين أخذوا من الرواد وأضافوا فأجادوا.
وإذا كان سليم تقلا وبشارة تقلا قد أسسا »الأهرام« وأنطوان الجميل قد رأس تحريرها طويلاً فجعلها صحيفة مصر الأولى، وإميل خوري قد افتتح فيها نمطا جديدا من الكتابة في سياسات صنع التاريخ، فنحن قد أخذنا عن الجيل المصري الأول الذي تولاها فعزز مكانتها ومكّن ارتباطها بأرضها وبرسالتها فجعلها صحيفة العرب الأولى… تحية لمحمد حسنين هيكل ورفاقه الذين أعادوا صياغة »الأهرام« وجددوا فيها المبنى والمعنى والدور والرسالة.
كذلك فإذا كان جرجي زيدان، ومعه إميل زيدان، ومن ثم أقاربه آل سمعان، قد أطلقوا »دار الهلال« بمطبوعاتها الممتازة والتي غطت قطاعا واسعا من اهتمامات الرأي العام، في مجال الصحافة المصورة والصحافة المتخصصة، فإننا قد أخذنا الكثير عن الجيل الأول من القادة الذين تولوا تطويرها وتعزيز دورها بعد الثورة… ويمكننا بغير تحفظ القول إننا في بيروت قد تتلمذنا وتعلمنا كثيرا من أستاذنا أحمد بهاء الدين ورفاقه الذين أعطوا الروح والمعنى لدار الهلال.
وإذا كانت فاطمة اليوسف قد أطلقت مجلتها الرائدة روز اليوسف، منبرا للحوار الديموقراطي والرأي الحر، فإننا في بيروت قد أخذنا كثيرا عن تلامذتها الذين تصدروا لفترة قيادة العمل الاعلامي في الوطن العربي، وأضافوا بمواقفهم كما بنتاج أقلامهم الى رصيد الحرية والديموقراطية في الوطن العربي.
وهي مناسبة لكي نوجه التحية الى إحسان عبد القدوس ومحمود عزمي ومحمد عودة وسامي داود وكامل زهيري وصلاح حافظ والى الرواد ممن أطلقوا منها مجلة »صباح الخير« صلاح جاهين وحسن فؤاد وجورج البهجوري وبهجت عثمان، ورجائي وحجازي وكثير غيرهم، ممن واكبوا بالقلم والفكرة المشعة والنقد الساخر والنكتة المنبهة روح الثورة وأضافوا الى زخمها المعنى وأوصلوا إلى عقول الجماهير حتى لا تبقى معها بعاطفتها وحدها.
تتماهى صورة مصر في العين اللبنانية والعطر والموسيقى والندى، ويشارك في نسجها الحب والتقدير، الثقافة والفن والإبداع.
لكن الموقف السياسي يظل المرجع والأصل.
مصر هي الراعية والحاضنة والضامنة، تتعصب ولا تنحاز بالغرض، فهي أوسع أفقا من أن تحكمها رغبة بالهيمنة والإلحاق، وأرحب صدرا من أن تؤخذ بالنزعة الفئوية، وأعظم ترفعا من أن تنحاز الى طائفة أو مذهب.
مصر هي مزيج من الأم الرؤوم والفنان المبدع والأستاذ المدرس وشيخ الأزهر والبابا شنودة والفلاح الفصيح والعامل الكادح الذي يسقي أرضها بعرقه بمثل ما يسقيها النيل وأكثر.
وهؤلاء الذين نحتفل بهم روادا تركوا بصماتهم على البدايات في مستهل القرن الماضي وحتى منتصفه تقريبا، خير دليل على رحابة مصر وشعبها العظيم.
لم تسأل أحدا منهم عن دينه أو طائفته، ولم تحجر على واحد منهم بسبب من رأيه… بل هي رفعت سيف الاضطهاد والقمع عن الذين تركوا وطنهم الأول إليها لأنهم كانوا يخافون القمع والاضطهاد ولا يستطيعون أن ينتجوا في ظل الحراب ومشانق المجلس العرفي العثماني أو مطاردات البوليس السياسي الفرنسي بعد ذلك.
لمصر في لبنان صورة مغلفة بندى العاطفة، إضافة إلى شموخ الموقف بالعزة.
ليس في لبنان محايد في نظرته إلى مصر، وأكاد أقول ان المواطن في لبنان يرى فيها من السد العالي بقدر ما فيها من أم كلثوم، ومن طه حسين بقدر ما فيها من خليل مطران، ومن استعادة قناة السويس بقدر ما يرى من علي عبد الرازق والسنهوري، ومن محمد عبده بقدر ما فيها من روز اليوسف، ومن صلاح عبد الصبور بقدر ما فيها من صباح ووديع الصافي، ومن أحمد شوقي بقدر ما فيها من فيروز والرحابنة، ومن توفيق الحكيم بقدر ما فيها من جورج أبيض، ومن نجيب محفوظ بقدر ما فيها من ماري كويني ونجيب الريحاني، ومن سيد درويش وأبو العلا محمد، وبيرم التونسي وزكريا أحمد، وأحمد رامي ورياض السنباطي، وبقدر ما أعطى شبلي الشميل واليازجيان، ومن محمد التابعي ومحمد حسنين هيكل بقدر ما أعطى يعقوب صروف وأحمد فارس الشدياق، ومن عبد الله النديم والجبرتي قبله بقدر ما أعطى البساتنة وأكثر، ومن عباس محمود العقاد والمازني بقدر ما أعطت مي زيادة ومصطفى صادق الرافعي وسائر الكتاب والشيوخ.
* * *
يروي آخر الشعراء الكبار سعيد عقل ان معهد الدراسات الشرقية في الجامعة اليسوعية أوفده ذات يوم لكي يحاول استعادة »أبي الفلسفة« يوسف كرم ابن بكفيا في المتن الشمالي من جبل لبنان، والذي كان قد جاء مصر فاستقر فيها، ودرَّس وكتب وأصدر بعض أمهات الكتب عن تاريخ الفلسفة بدءاً بالإغريق وانتهاءً بالعصر الحديث.
وحين أبلغ سعيد عقل مواطنه يوسف كرم العرض الذي يحمله كان جواب مؤرخ الفلسفة: هذا عرض أشكركم عليه ولكنني لا أستطيع قبوله. فأبنائي الذين درّستهم صاروا وزراء ونوابا، بل ان بعض أحفادي ممن أخذوا عليّ بعض العلم يحتلون مناصب عليا هنا. أنا مصري يا سعيد. لبنان بلدي وأنا أحبه كثيرا، لكن مصر هي وطني الذي حققت فيه ذاتي.
* * *
وحين دوّى الانتصار المجيد في العام 1956 شهدتُ وجيلي كيف كبرت مصر حتى غطت بأعلامِها كما بشجاعة التصدي لاستخلاص الحقوق الوطنية والقومية كامل المساحة ما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي، بل إلى أبعد نواحي آسيا وأقاصي أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وشهدت أيضا كيف كبرت بيروت وانتبهت إلى دور لها جديد فإذا هي المكمل والموصل الجيد للحرارة… وإذا صوتان هو الصوت العربي المنبه.
وحين قامت الدولة التي حاولت تجسيد حلم الوحدة بين مصر الثورة وسوريا التجربة السياسية الغنية عام 1958 في قلب صراعات النفوذ الأجنبي على أرضنا وثرواتها والمصالح الهائلة فيها، كنت واحدا من أبناء الجيل الذين فتحوا عيونهم على صعوبة تحقيق الأحلام في زمن المصالح والأطماع ومشاريع الهيمنة السياسية المضادة لطموح الشعب المقهورة الى استعادة مصائرها.
وكانت بيروت المنتدى الفكري والشارع الوطني العربي والمصرف والمقهى والمشفى والصحيفة والمطبعة وقهوة الصباح، الصوت الثاني للقاهرة تربط البعيد، وتترجم للذي يدعي عدم فهم اللغة والشعار، وتحمي ظهر الثورة بصدرها.
ولقد تعلمنا جميعا، من مصر وثورتها ومن اهتدائها الى هويتها الأصلية، ان الحرية عزيزة بحيث ترخص في سبيلها الدماء، وان الإقرار بالهوية القومية يتطلب مواجهة مفتوحة مع المحتل الأجنبي والدخيل الغاصب لا مجال فيها للمسامة، فإما أن ينتصر عليك بمشروعه أو تنتصر عليه بحقك بالحياة فوق أرضك وبناء مستقبلك بإرادتك ثم تكافح للحاق بالعصر الذي حرمت من ولوجه في البدايات فصار عليك ان تتعب كثيرا للحاق بالمتقدمين.
وحين غابت القاهرة أو منعت من دورها، وقع العبء ثقيلاً على بيروت، فكان عليها أن تحمي عروبتها في الأمة وعروبة الأمة فيها فحملت فلسطين لفترة حتى أعجزها التعب، ثم كان عليها أن تساند وتحمي صمود دمشق، قلب العروبة النابض، فساندت وحمت وما تزال.
إننا اليوم، وفي لبنان الذي جاء منه أولئك الرواد، لا نقل عنهم حباً لمصر، ولا نقل عنهم رغبة في ان نراها تحتل موقع الصدر في القيادة والريادة. على ان المكلفين بتصنيف العرب خارج مصر غالبا ما يحصرون الولاء وحتى الحب في النفاق الرسمي.
أما من تجرأ فأشار الى نقص، أو توجه إليها بمطلب حق وبوصفها مرجعيته، أو انتقد مسلكا إجرائيا خاطئا، أو حاول لفت النظر إلى تعصب لا يليق بها، وباعتبارها »الأم«، فإن هؤلاء الموظفين المصنفين سرعان ما يحاكمونه وكأنه من الخوارج ومن ناكري الجميل ومن أعداء مصر التي من دونها لا مستقبل لأحد منا، سواء أكنا من »الشوام« أم من »المغاربة« أم من أهل الجزيرة والخليج، أم ممن أنعم الله عليهم بسكنى وادي النيل العظيم.
فلا يستوي الحديث عن مصر والرواد الذين جاؤوها فأخذوا منها كثيرا وأعطوها ما وسعهم العطاء، وكأنها دار كتب أو متحف للماضي أو مجرد مهجر آمن لمن جاء يطلب فيه الرزق والأمان، أو محترف تجمع فيه بعض المهنيين والصنّاع من أهل الكلام.
ولا يجوز الحديث مع مصر وكأنها خارجنا، أو كأننا خارجها.
إن ذلك لو حدث لدل على خلل عظيم في العلاقة.
فليس الشرط أن تستجيب لذلك المواطن المصري البسيط الذي إذا سمع واحدنا يتحدث إليها بالعامية المصرية صاح فرحا: الله، ده بيتكلم عربي كويس!
ولا هو مقبول أن نسمع صوت مصر من خارجها، وان يأتينا بلغة غير لغتها/ لغتنا.
إننا نحب مصر أكثر مما تقدّرون، لكننا نريدها قوية دائما، ونفترض اننا من أسباب قوتها، ونفترض كذلك عند الحديث عنها أو معها اننا إنما نتحدث إليها من داخلها وكأننا بعض أهلها.
حتى من اختلف منا أو هو قد يختلف مع نظامها السياسي، سواء في العهد الملكي أم في عهد ثورة جمال عبد الناصر، ثم في العهود التي تلت واختلفت فيها السياسات، ظلوا على حبهم لمصر. فالموقف السياسي من حاكم سياسي لا يفسد العلاقة بمصر الناس والأرض، مصر الأمل العربي الدائم في الرفقة والعزة والمنعة والوحدة والتقدم.
لكأنما حب مصر منفصل عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع نظامها. والعلاقة بها، بأرضها ونيلها وناسها الطيبين، تتخطى الحاجز السياسي ولا تتأثر به.
ثم إننا نحبكم، جميعا، بغير أن نسأل عن مدى حبكم أو عمقه.

تهويمات
} تعيد كتابة القصيدة؟
لكن القصيدة تكتب نفسها ولا تستعاد. هل تستطيع أن تزرعني في عينك الثالثة؟!
} سيدتي، لقد سقطت بعض حروفك في يدي فظلت الرواية ناقصة. تهربين من الاكتمال وأهرب من الاجتزاء، فلنكن مطلعين لقصيدة جمالها في أنها خارج الشعر!
} قالت: أحب الافتراس، أما الطريدة السهلة فأتركها لصيادات المناسبات. أتحداك أن تنجو مني. أتحداك أن تنساني… انتظر لحظة، كيف تتركني وتمضي قبل ان تلتهمني، أنا التي يحوم حولي الرجال كالذباب. ملعون أنت أيها الهرم الأعمى الذي يهرب من قطة جائعة ومبلّلة بدموع الرجال!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يصنع زمانه، والحب يخلق دنياه فيغني عن اتساع المكان. يعيش الحب في حدقة العين، في نبضة القلب، في لمسة اليد، في همسة يحملها جناح فراشة، في نسمة معطرة تسحبها نحلة إلى خليتها. أما الذين يطلبون المغامرات فيقصدون الصالات الفسيحة في القصور الفخمة والباردة لأن الحب يتجاوزها ليطرق أبواب الذين من دونه لا يعيشون!

Exit mobile version