طلال سلمان

هوامش

موعد مع ظبية خارج الذكر والأنثى!
لا المكان يسمح بالتوقيع، ولا الزمان، ولا العباءة السوداء التي يتلفع بها ذلك »الطيف« الوادع، خافت الصوت، رقيق الحاشية، خفيف الخطو كظبية تخطت حاجز الخوف عبر الثقة بالنفس ولكنها حافظت بقرار على التقاليد انسجاما مع البيئة وتوكيدا للهوية.
قال كمن يؤدي واجبا: ماذا لو دعوناكِ، صديقي صلاح وأنا، إلى تناول الغداء معنا.
ردت وكأن غيرها قد خطف منها الكلام: يسعدني ذلك، ولكنكم ضيوفي.
وحين اعتذر صلاح توقع انهيار المشروع، فسألها كمن يعتذر: لم يبق غيرنا، مع ذلك فأنا أكرر دعوتي.
قالت وهي تصلح من وضع عباءتها السوداء: وأنا أكرر القبول، وأكرر التأكيد أنك ضيفي.
نزلا معاً، وعند الرصيف سبقته إلى السيارة التي غُطي زجاجها بلون العتمة… وركب إلى جانبها وهو يداري بقايا حرجه، ويتأملها بطرف عينه ليستوثق من أنها لم »تُستدرج«، أو بالأحرى إلى أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها وحيدة برفقة رجل، في عز النهار!
قالت وكأنها فهمت ما ذهبت إليه ظنونه: فضّلت أن يكون الزجاج معتماً كمحاولة للتخفيف من انتقال لهب الشارع ومَن فيه إلى داخل السيارة.
تجادلا قليلاً حول نوع المطعم وأشكال الطعام، ولكنه أصر على أن يترك لها القرار بوصفها »بنت البلاد«… وخفف هذا الجدل الشكلي من وطأة المشكلة الفعلية المتصلة بطبيعة الحوار الذي سيمتد بينهما، ومداه.
قادته تداعيات أفكاره إلى العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة في بلاده، والتي يكاد يحكمها »الجنس«، رغبةً أو شبهةً، فيمنع عنها الصحة والتفاعل الطبيعي، وكأنما ليس من هامش فيها للصداقة أو لعلاقة عمل أو لزمالة مداها الرغبة في النجاح والإنجاز المشترك.
الآخرون طرف ثالث في أي »علاقة« بين رجل وامرأة، كائنة ما كانت طبيعتها وحدودها… و»الآخرون« اسم حركي للفضيحة. فإذا ما »ضبط« هؤلاء الآخرون رجلاً وامرأة منفردين، ولو في مكان عام، أو في زاوية من مهرجان خطابي حاشد، انطلقوا في التخمين أو التقدير أو التخيّل، ثم أطلقوا من هذا التخيّل حكايات لا تنتهي: كيف كان ينظر إليها؟ بأي لهجة أو نغمة كانت تحدثه؟ كيف مدت إليه الصحن، وكيف ناولها الرغيف، وبماذا كانت تنطق العينان؟! ثم.. مغزى اختيار المكان، ودلالة أن يكون زجاج السيارة معتماً؟! وكم مرة ابتسما، وعند أي كلمة بالتحديد ضحكت؟! ولمزيد من التوضيح، يجري توزيع نبذة مدققة عن وضعها الشخصي، وعلاقاتها السابقة، وعن زوجته وأبنائه وبناته (الأكبر منها). وقد يشطح الخيال فيبعث بهما بعد الغداء إلى فندق ضخم لا يهتم موظفوه الأجانب بأن يعرفوا الزبائن، فكيف بنواياهم ورغباتهم المكتومة؟!
ثم تكون الخاتمة من طراز ما تنتهي إليه الأفلام العربية: اشتباك بين أصدقاء قدامى لدرء الشبهة عن سيدة فاضلة وعن رجل محترم، أو »تبرؤ« من صداقة مختلفة نوعاً لأن طرفها الآخر امرأة وليس رجلاً يشتهي نساء الآخرين بل النساء جميعاً!
أما حوار الغداء فأكثر تعقيداً من أن يمكن تلخيصه بسطور،
ذلك أنه كان يقتلع من حكاياته وتجاربه التي استولدها الاضطراب لكسر الصمت، أو التدليل على معرفة ما، أو النصح حرصا على نجاح »تجربتها«، كل ما يمكن أن يُساء تفسيره، أو يمكن أن يوحي لها بغير ما يقصده تحديدا.
في المساء التقيا مصادفة في مكان عام، فتصرفت وتصرف وكأن واحدهما بالكاد يتذكر اسم الآخر، وافترقا على أمل أن يلتقيا ذات يوم، في أي مكان يستطيع فيه الرجل والمرأة أن يسلكا سلوك مخلوقين سويين، وراشدين يعرفان كيف يتصرفان بعقليهما كما بقلبيهما كما بجسديهما وسائر ما لا علاقة للآخرين به، ولا يتأثرون بنتائج التصرف فيه.
بعيدة هي المسافة إلى مجتمع عربي سوي.
وكيف يستوي المجتمع ما دام »الرجل« فيه مجرد »ذكر« و»المرأة« فيه مجرد »أنثى«، ولا صلة بينهما إلا »الجنس« الذي يؤكد حضورهما الفردي بينما هو يلغي »المجتمع«، و»العمل« و»الانتاج«، والعلاقة بالعصر؟!
ثم مَن قال إن »الجنس« وحده يؤكد الحضور؟!
ومَن قال إن »الجنس« يأتي وينمو من خارج العلاقة الإنسانية، ومن خارج الفهم والرغبة والقبول، أي كل ما يؤكد الحضور الكامل للرجل في الذكر، وللأنثى في المرأة؟!
سأغامر بأن أقول: إن لي صديقة بين الظبى، تخطر على رؤوس أصابعها فيهتز جذعها الناحل وكأنها ستقع أرضاً، ثم سرعان ما يثبت لك أنها بين ركائز الأرض، وأن روحها أقوى، وثقتها بنفسها وبالصداقات مع الجنس الآخر أعظم رسوخاً من الجبال الرواسي!
بين الموعد الأول والموعد المعلق مع »ماما غادة«
كنت أرى بقلبي، وهي تهاتفني، تلك الصبية الدمشقية الحيية، الشقية، التي تحني رأسها وتخفي عنك عينيها لتوهمك بسذاجتها، بينما لها القدرة على استكشاف آخر نقطة في المحيط المتجمد الشمالي… (وسيتأكد لاحقاً ان طاقتها على الحب قادرة على تذويب ذلك المحيط وما جاوره من السموات والأرضين وما بينها جميعا).
وبقلبي رأيتها تمسك سماعة الهاتف بكلتا يديها وتطلق عبرها قهقهات أيام البحث عن الحب، والمشاغبة بالحب ومعه وعليه، واقتياد قوافل المحبين إلى خارجها لكي يجدوا أنفسهم بأنفسهم بعدما هدتهم إلى طريق الحب فلم يعودوا تائهين، حتى وهم في قنوطهم منها موجَعون.
لعلع الفرح عبر السماعة، وغادة تكشف لي موعدها مع آخر طبعة لحبها المتجدد على مدار الكون والزمن: ابنها الذي يدرس الهندسة…
ماما غادة،
إذاً، فغادة قد أنتجت الرواية الأجمل للعمر المتناثر بين المنافي بالاختيار والبحث الأبدي عن الذي لا يُرى ولا يُلمس ولا يؤخذ ولا يعطى إلا بالاقتدار، وعذره الضرورة، ولا ضرر ولا ضرار.
ماما غادة، بالفستان الأزرق أيضاً، والعينين المحتجبتين حذرا حتى لا يكشف ناظرهما تلك الكنوز المخبوءة من الرؤى والأحلام والقدرة السحرية على اختراق الحجب.
أيتها التي غابت عن دمشق الزمن الكافي لأن تستحضرها بكل حبيباتها وشرايينها فتنظمها قصيدة للحب والجمال وشوق القريب المبعد إلى أقصى الأرض فلا يغيب عن ذاكرته أحد، ولا تغيب من وجدانه عن لحظة أو زقاق أو شرفة ياسمين.
انتظر عمراً جديداً، موعدنا المعلق على الشوق إلى »المهندس« يا غادة..
* * *
سقط علينا اللقاء الأول بالمصادفة البحتة، وانتهى بسرعة وقبل أن يسمح الوقت والمعرفة عن قرب، والتعوّد بتحول العلاقة إلى صداقة.
في العام 1960، نظمت مجلة »الأحد« لصاحبها الراحل الكبير رياض طه، مسابقة في القصة القصيرة. كنت سكرتير تحرير لتلك المجلة ذات السمعة العربية الطيبة، وتوليت المهام التنفيذية لتنظيم المسابقة، ثم توزيع الجوائز وتكريم الفائزين.
فأما الفائزون فكانوا ثلاثتهم من سوريا: غادة السمان، زكريا تامر وياسين رفاعية.
أسعدتنا مفاجأة أن تفوز كاتبة شابة، ودمشقية تحديدا، بالجائزة، والتف الجميع من حول هذه الصبية الحيية التي لم تكن ترغب في إخفاء ذكائها، برغم تواضعها الجم، وحرصها على تقديم شريكيها الفائزين، خصوصا أن ثالثهما ياسين كان زميلها في العمل في القصر الجمهوري بدمشق (أيام الوحدة).
ومرت الأيام، فجاءت بغادة السمان إلى بيروت لتستقر فيها، كاتبة للقصة القصيرة، ثم صحافية ذات أسلوب متميز وجرأة واضحة في طرح المحظور من الموضوعات الحساسة، قبل أن تنصرف بجهدها الأساسي إلى الرواية لتقدم إلينا باقة من أجمل ما قرأنا في السنوات الحافلة بالبؤس والانكسار ومآسي الحروب الأهلية المعلن منها، كما في لبنان، والمستتر كما في العديد من الأقطار العربية.
ولأن الزمن دوار فقد التقيت وغادة السمان، مجددا، كزميلين هذه المرة، في مجلة »الحوادث« في العام 1968، وكانت قد سبقتني إليها ككاتبة، بينما وفدت إليها كمدير للتحرير.
كان الود يتعمق، بينما الاختلاف في الرأي أو في التحليل يتسع.
كنا في موقعين مختلفين تماما: هي تتعامل مع الرؤيا، وأنا مفروض عليّ أن أتعامل مع الواقع. هي تنسج من الوقائع، كما تراها أو تفهمها، روايات تستشرف الزمن الآتي، وتحاسب أو تدين بغير خشية، لأن هامش الخيال أو التخيّل، وتجاوز الأسماء والمناصب والمسؤوليات، يوسّع أمامها هامش الحركة والتمثل والسقوط في شرك المحاسبة، خصوصا أن معظم المسؤولين لا يقرأون، والشرطي الذي يقرأ فيعرف مغلول اليد، بالجغرافيا أو بالقرار السياسي عنها، في حين كنت في موقع مختلف تماماً تبدأ معه المحاسبة قبل أن نبدأ الكتابة..
ومرة أخرى، فرّقت بيننا الأيام والاهتمامات ومواقف من بأيديهم القرار، في الصحافة كما في السياسة، وفي الثقافة كما شؤون الحياة عامة..
كنت أتابعها وأستمتع بإنتاجها المتميّز على غزارته.
وكنت أسمع منها أحياناً، وأسمع عنها أكثر، مع تعذر اللقاء، إذ كان أحدنا على حد ما يقول بهجت عثمان في المهجر بينما الثاني في المقهر.
لكنني كنت دائما أحفظ لها ود »اللقاء الأول« وتقدير النجاح الفني المتواصل والقدرة الدائمة على التجدد والإبداع، وتجاوز أحقاد المنافسات… وما أكثرها.
* * *
عندي الآن وعد جديد بأن ألتقي غداً و»المهندس« الذي هندسته مع الدكتور بشير الداعوق.
مواعيدنا وعود،
والحياة تتسع لوعود بلا حصر، ولكنها تتجمّل بالمواعيد.
أنسعى إلى مسابقة جديدة أيها السابقة دائماً؟!

الراوية لا الرواية
ليس القلب ناقداً أدبياً، سيدتي!
وليس الجسد حقل تجارب، ومصدراً للشهادات بالإبداع أو الاكتشافات الجديدة ومنبعاً للغة المختلفة التي نتجاوز بها حقائقنا »الأرضية«.
سيدتي: من حقي أن أعترض على موقعي في الرواية، على الدور الذي تُلبسينني ثيابه، على الكلمات التي سترسمينني بها، وعلى المواقف التي تختارها رغبتك الأبدية بالانتصار على الذين أرادوك ضحية لهم فأضفتِهم إلى قائمة ضحاياك!
أعرف أن اعتراضي سوف يزعجك… وقد يقطع وهم العلاقة التي استولدتها المصادفة وذهب بها التحدي.
أفضّل أن أكتب نفسي، يا سيدتي، وأن أكتبك أيضاً.
يشوقني أن أداعب الحروف، حرفاً حرفاً، وأن نلعب معاً لعبة إعادة استيلاد المعنى.
ويلذ لي أن أختار لنفسي الصفحة، نوع القلم، لون الحبر، شكل الحرف، وأن أكون خارج الحكاية وفيها، الصاهر والصائغ والراوية.
أحب، سيدتي، أن أملأ الكلمات بمعناي لا بحرفة رواة الحكايات.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا نحتاج، وحبيبي، إلى الترداد المبتذل لكلمات العشق والهيام والرغبة. الحب حاضر أبداً لا يحتاج إلى إثبات وشهادات بالميلاد وعلامات مدرسية. هل يحتاج الهواء الذي يملأ صدرك شهادة أكثر من حياتك؟ هل يحتاج النور الذي يضيء طريقك شهادة أكثر من عينيك… هل يحتاج وجودك لتأكيد معناه أكثر من عشقك للحياة التي يختصرها ذلك الذي تضن باسمه على الناس فيعرفونه من ارتعاش صوتك وإشراقة عينيك وتنفسك بعمق متى وردت الإشارة إليه… عرضاً؟!

Exit mobile version