طلال سلمان

هوامش

عندما صارت الأسماء حدوداً نهائية بين الأشقاء

فجأة، وعلى غير توقع، ومن خارج أي تقدير، صار بيتي فوق فوهة بندقية.
حتى صباح ذلك الأحد من نيسان، كان الشارع يمتد مكتظاً بالبشر والعواطف وعربات الخضار وباعة الكعك وأطفال المناقيش والشعارات والصور الساكنة التي لم تكن ملامحها لتكشف نواياها السوداء، ما بين مستديرة شاتيلا التي تقوم خلفها جبانة كانت بعد فارغة في انتظار الشهداء الآتين، وما بين وسط عين الرمانة التي لم يكن في معالمها ما يوحي بأنها سوف تكون جبهة حربية أخطر من خط ماجينو.
كنت على الطرف الغربي لذلك الشارع الذي كنت أعرف شرقه من بيت أمين معلوف، وشماله من بيت سعيد صعب، وكانت تكفيني هذه العلامات لكي أخفف من قلقي الوجودي على معرفة الذات.
ذلك الأحد من نيسان، أغرانا الهواء المشبع بطنين النحل وخفق أجنحة الفراشات والنسيمات المحملة بالرائحة المخدرة لزهر الكرز والمشمش، على الخروج إلى حيث يمكن للأطفال أن يتمرغوا في طيب الأرض المنداة بعد بآثار المطر الأخير، وأن يتذوقوا طعم الحميضة ويتعرفوا إلى دويك الجبل والوزال والبلان والطيون وسائر تفرعات اللون الأصفر الذي إذا ما تزاوج مع البساط السندسي المتدرجة خضرته عمقا، ولد الربيع من ضباب »العبوق« الكثيف الذي لا بد منه لتزاوج النحل والزهر فيكون الثمر الشهي.
حين عدنا مع المساء سمعنا كلاما غامضا ومجتزأً عن »حادث البوسطة« في عين الرمانة… ولم يكن في المتداول، حتى في الصحيفة، ما ينذر بحرب ستمتد فوق أعمارنا فتلغي بعضها وتشوّه بعضها الآخر، وستتوسع رقعتها حتى لا تبقى دولة أو قوة خارجها.
كان تبسيط المسائل المعقدة، بتحويل المصالح إلى عواطف، وصراعات الدول إلى خلافات بين أشخاص، يؤدي بنا إلى العمى المطلق.
وهكذا أفقنا في الصباح لنجد أنفسنا على طرفي شارع قد تحول إلى خط نار، ثم إلى حدود إقليمية، فإلى حدود دولية بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو… لا مجال لأن يخترقها باعة الكعك أو أطفال المناقيش.
بعد أسبوعين كان علينا أن نجد بديلاً لبيتنا الذي صار هدفاً عسكرياً، وأن نجد مدرسة بديلة للأطفال الذين صار انتماؤهم الطائفي الذي لم يكونوا قد تعرفوا إلى ماهيته بعد، مصدراً للخطر على حياتهم التي بالكاد باشروا التعرف إلى مكوناتها.
بعد شهر كان الانقسام قد عمّ: بحث كل »اسم« لنفسه عن مكان يستره، بالمتاريس، عن حملة الأسماء »المختلفة« إلى حد ان اختلافها بات يصوَّر وكأنه سبب كاف للاحتراب حتى إبادة أحد الاسمين، حتى لو كان كلاهما من بين أسماء الله الحسنى!
اختلطت الأفكار بالأحقاد، والعواطف بالمصالح، والقضية بالتجارة، والنضال بالسلطة، والدول بالدول، حتى ضاعت الطريق وضاع الركب الذي سرعان ما انقسم على ذاته فغدا قوافل شاردة في صحراء الموت والاغتراب عن الحقائق الأصلية للوجود والهوية الفعلية للعدو الذي آن له أن يرتاح وقد اندفع الجميع لكي يحققوا له هدفه المستحيل!
* * *
هذه رواية كاذبة في تبسيطها لوقائع كانت صلدة في تكوينها بحيث استولدت حربا، كان لها من وجاهة الأسباب ما مكّنها من أن تتوالد بغزارة في طبعات منقحة وفريدة، بحيث لم تبق دولة ولم يبق فرد خارجها.
كان كل منا يحمل في صدره أسبابه للنقمة على الوضع المغلوط القائم.
كنا »كلنا للوطن«، لكن الوطن لم يكن لكلنا.
وكنا جميعا في الدولة، لكننا لم نكن جميعنا مواطنين.
وكنا جميعا نحمل هويات تدل على أدياننا، ولكننا بمجموعنا لم نكن متدينين. وكنا جميعا ضد الدولة الدينية، لكننا لم نكن نتورع عن استخدام الدين بابا ًللدخول إلى الدولة أو مانعا لدخول غيرنا إلى جنتها.
كنا جميعا مع »الثورة«: فقراؤنا يحاولون الانتماء إليها ليصيروا أقوياء فيتم الاعتراف بهم، واغنياؤنا يغرفون من خيراتها مجداً وثروة ولكنهم يريدون إقفال أبوابها في وجه الفقراء.
الفقراء يريدونها باباً للتغيير، والأغنياء يريدون تسخيرها ليسدوا بها الباب أمام احتمالات التغيير.
وكانت »القيادة« المتطلعة إلى السلطة، أقوى من الثورة وأنصارها الفقراء، فتفجرت الثورة بأهلها وأنصارها وسقطت القضية مضرجة بدمائها.
* * *
كان علينا أن ننتظر دهراً قبل أن نتمكن من زيارة بيتنا القديم الذي لم يعد بيتنا.
لم نكن »نحن« الذين كانوا فيه، ولا كان أمين معلوف وسعيد صعب عند طرفه الثاني…
جاء سكان آخرون، معظمهم من جبهات أخرى غير التي كانت هنا، وإن كانت تتصل بها بصلة رحم ما، ولكنهم يحاولون جميعاً أن يوفروا لأبنائهم حياة خارج الحرب.
صارت الحرب صفحات من كتاب قديم، كمثل أصحاب البيوت المنسية ممن التهمتهم الحرب أو التهمتها بقيتهم في عراء التشرد والتهجير من الوطن والقضية.
لكن الكتاب لمّا يكتمل،
والحرب ما زالت مفتوحة الأبواب.
انطفأت الثورة، لكن الفقراء ازدادوا غربة في وطنهم، والأسماء صارت حدوداً نهائية بين الأشقاء: لكل اسم قريته ومنطقته، مدرسته ومرجعه، وأيضاً وظيفته المحفوظة بقوة القانون.
صارت الأسماء حدوداً للحرب المقبلة… وصارت إسرائيل ضيفاً عزيزاً »يتهاوش« الأشقاء ويتخاطفونه ليشاركهم العشاء العائلي، وقد بات علنيا لا ضرورة لحجبه عن العيون التي أطفأها غضبها القديم.
29 نيسان، 10 نيسان، 13 نيسان، 18 نيسان، 26 نيسان، تفاهم نيسان،
ما أطول هذا الشهر بحيث لا يمكن أن يأخذه النسيان!

الراقصة بجسدها على جسدها في بحر الظلمات
لم يكن في السهرة المرتجلة ما يبشّر بليلة انس. كانوا جمعاً من الأغراب لا يربط بينهم غير التلاقي في ظلال بعض الصداقات المشتركة، وغير الرغبة في نسيان ما كانوا فيه وما سيعودون إليه بعد هذا »الفاصل الموسيقي« خارج الوقت.
لا ضرورة للأسماء. التعري من الأسماء يوفر مناخا من الحرية والانطلاق مع النغم إلى ذرى النشوة دونما خوف على »الصورة« من التشوه أو الانكسار.
مع انتصاف الليل، استبدلت الزجاجات المثقوبة التي قصرت عن إطفاء حدة العطش بأخرى تعبر بشاربها إلى السكر مباشرة… وانسحبت من ساحة الرقص المبتدئات والمتلفعات بخجل مفتعل وكذلك المحترفات اللواتي لا يردن إضاعة الوقت والجهد مع جمهور ضئيل، يشاغب على »الزبون« الأصلي من دون أن ينفتح الأفق لوعود مذهبة بليالي انس جديدة.
استولد الكأس إلفة، وأسقطت كثافة الليل حجب الغربة، فنبتت النكات في التلميحات الجنسية، سريعة كومضات ثم تمددت تحتل القاعة بقهقهات متقطعة، يصدر أكثرها ارتفاعا عن أولئك الذين غادروا سن الرشد إلى أرذل العمر.
في قلب النغم وقفت لتلفه من حول وسطها، من حول شعرها، ثم لتتلاعب بأعطافه في قلب تلك الغابة البلورية لأصابعها التي شدت العيون فزرعتها على أطراف الأنامل ثم تدرجت بها مع الحركة نزولاً إلى مهاوي اللذة، صعوداً إلى تلال المتعة، قبل أن تبعثرها من حول الجسد المهجور والظامئ إلى مطر العشيات وندى الصباحات التي يتأرجح فيها النهار وكأنه وعد بليل يختصر بل يمتدا عمراً.
ردت على تحتيه بلهاثها متسائلة عن زمن الغياب.
قالت رفيقتها ذات العينين المتسعتين بشبق الحرمان إلى مدى أبعد من بحر الظلمات: لم يعد للدجاجات البلدية سوق!
أضافت العائدة من الرقص بعدما رفعت سقفه حتى بات صعباً على غيرها أن ينزل إلى ساحته، إلا لإعلان الحرب: ونحن أيضاً نتقن فنوناً كثيرة، ليس الرقص أكملها، ولا هو أمتعها.
انفرط عقد كلمات المجاملة التي كانت قد جمعت نفسها بحكم العادة، وتحفز بصمته متهيباً الاندفاع إلى ما خلف الكلام.
قالت ذات العينين المتسعتين لبحر الظلمات: هوّن عليك. للأجوبة زمانها. دعنا لا نفسد لحظة اللقاء العارض.
قالت الأخرى: إنما ندخر أعمارنا لمثل هذه اللقاءات العارضة، بعدما كادت تستهلكها المواعيد المفروضة.
ثم التفتت إلى المغني تطلب إليه أن يشدو بلحنها المفضل لترقص بجسدها على جسدها، مجدداً، لعلها ترويه بماء عطشه المزمن!

تهويمات
} يأخذني إليك البعد، يأخذك مني القرب.
تسافر بي إليك الكلمة، وتختطفك مني الكلمات.
لا مجال للوصول إلا إذا نسينا الكلام.
نتركه للغير الذي ليس له من الحب إلا الكلام المستعار، وليس له منا إلا وهم المثال، بينما نحن نحترق في حقيقة المحال!
} كنت أعرف أن اللقاء الأول الذي هبط بالمظلة لن يكون الموعد الأخير.
وكنت تعرفين أن أفضل اللقاءات تلك التي تتم بلا خاتمة.
وها نحن على حافة السؤال عن موعد الطوفان الأول.
} قالت وهي تغمض عينيها: الآن أراك بوضوح.
قال وهو يتأمل صفحة الوجه الذي غادر البراءة: ما أغلظ جفنيك! انهما جداران سميكان ومثقلان بأسماء العابرين… لكم غرق من المسحورين في بحيرتي الشبق هاتين المغلقتين على متعة العبث بعشاق الحياة، أيتها القاسية كالموت والتي مثله تجيء خارج كل المواعيد!
} ضربتها لوثة الجنون حين انتبهت إلى أنها ليست مركز الاهتمام.
قالت للأول انها تعاني من صداع قديم، وللثاني انها تستثقل وجود تلك المتصابية التي تتسلح بشباب ابنتها، وللثالث أنها لا تحب الصوت العالي وتنسحب نحو الهامسين… أما المرأة التي جاءت تجاملها، كمضيفة، فقد تلقت منها صفعة السؤال: أين الرجال؟! ألم تجدي غير هؤلاء المستهلكين تدعينهم ليتسلوا بي؟!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يعيد الحب خلقك من جديد. يجعلك تهتم بكل ما فيك، وتنتبه إلى كل من حولك. انه يوفر لك الفرصة لتعيد اكتشاف نفسك، ومن ثم الآخرين. انه يبدل في هندامك، في ألوان ملابسك، في تسريحة شعرك. يجعلك تنتبه إلى الورد والفراش والنحل وسحر الليل القمري وبهجة الصباح المفتوح على موعد مع الفرح. أنت قبل الحب فرد، أنت مع الحب إنسان… أي كل الناس!

Exit mobile version