طلال سلمان

هوامش

عن دكاترة الألسنة في مؤتمرات الأرقام المغلوطة!
على حد علمك انك لم تفعل غير إلقاء تحية الصباح، فإذا أنت في مؤتمر!
الملفات حاضرة، في انتظار الزبائن! لم يعد الورق المطبوع عالي التكلفة.
مع الملف شارة خاصة »تدمغك« وتكشف هويتك للآخرين، وتوحي إليك بأنك قد نلت ترقية أو مكافأة أو تعريفا مبتكرا لجمهور مختلف.
الموضوع: كل ما يخطر ببالك، وكل ما لم يخطر ببال أحد.
زاد شيوع التعابير المبهمة، أو المضغوطة، أو الملخِّصة لما لا يفهم مهما طال شرحه لأن الغرض منه يتجاوز دلالة التسميات، بحيث صار ممكنا عقد ألف ندوة حول »العولمة« وألفي مؤتمر حول »المشاركة« وخمسة آلاف ندوة مغلقة أو مفتوحة حول »الألفية الثالثة وآفاقها« وعشرة آلاف كونفرنس لتقييم مدى التقدم أو التراجع في الإيديولوجيا أو الفكرة القومية أو المشروع العربي في القرن الماضي. اما »نهاية التاريخ« فقد تحتاج الى دعوة لاجتماع طارئ لهيئة الأمم المتحدة ما دام عقد القمة العربية متعذرا بقرار أميركي، في انتظار الترحيب بانتساب إسرائيل إليها.
كيف ومن أين يبدأ الكلام؟ لا يهم!
كيف ومتى ولماذا يتوقف الكلام وترفع جلسات المؤتمر أو تختم؟ لا تعرف.
مَن يحدد المدعوين أو المعنيين أو ذوي العلاقة بهذا المؤتمر أو ذاك؟ هذا ليس من شأنك!
كيف وبأي حق ولماذا ترى هذا »الشخص« الذي لسانه أطول منه، وقلمه أسرع من يده، ويده أسرع من خاطره، وخاطره أسرع من البرق، والحكي عنده حرفة والصمت آفة، يتنقل بين أفخم الفنادق وفي الدرجة الأولى في طائرات الجمبو، ليقول لا شيء في مؤتمر بلا موضوع وبكلفة محترمة تُدفع بالدولار، بينما خلف تلك الفنادق ومن حول المطار الذي أقلع منه أو هبط فيه، وعلى بُعد أمتار من المنتدى الذي شقشق فيه لسانه، يتكدس مواطنون أو أشقاؤهم في بيوت كالزرائب، وفي عمارات مهددة بالسقوط، في أحياء طرقاتها في الصيف عواصف من الغبار وفي الشتاء مسارب للفيضانات؟!
إلى متى تستمر قاعدة: الكلام الأصلي يقودك إلى السجن، والكلام الذي لا يعني شيئاً يأخذك إلى الرفاه؟
إلى متى يستمر نفاق فئات عريضة من »النخب« أو ممن تعوّدنا أن نسميهم »المثقفين« وأحيانا نتجاوز الحقيقة فنعتبرهم من »أهل الرأي«؟!
أعرف ولا بد أنك تعرف »دكتورا« في الهرطقة من خريجي جامعة الثرثرة العالية يثقل كتفيه بالألقاب المشرفة الآتية: الدكتور، الكاتب، المفكر، المحلل السياسي، الخبير، المتحدث، المؤرخ، الشاعر، الناثر، رئيس التحرير، المنادي بالحرية الجنسية عند القطط، والقائل بحق الكلام المطلق في العواء الحر، والقائل بضرورة تحرير الرجال من الزواج وتحرير النساء من الطلاق.
وكيف لا أعرفه أو لا تعرفه وفي كل ندوة »نسخة« منه (إذ لا بد من أنهم استنسخوه ليمكن أن يكون في أمكنة عدة في الوقت نفسه؟!) وله في كل جريدة مقال، وفي كل مجلة حديث، وفي كل دورية بحث بثبت طويل للمراجع التي لو أنه قرأها لما كتب.
ما أبهى الهذر والهدر إذا اجتمعا… وهما قد اجتمعا فينا!
نقرأ عن ندوات في بلاد الناس تبدأ في ساعة معلومة بجدول أعمال محدد، وعدد من الكلمات (لكل منها مدة محددة)، تناقش فيها أوراق معدة سلفاً وبدقة صارمة، ثم تخلص الى توصيات أو قرارات مقصودة أو متوقعة تماما لتعتمد قاعدة عمل في مؤسسة أو شركة أو مركز أبحاث أو معهد دراسات له هدف معلوم وملتزم بمواعيد دقيقة لأنه مرتبط بدورة إنتاج ما.
أما في بلادنا فالكلام بذاته هو الهدف وهو الغاية.
أقصر المؤتمرات يطول لثلاثة أيام، ومع ذلك يعلن الختام ولا ينتهي الكلام!
ترتدي الألسنة أثواباً زاهية وربطات عنق داكنة،
كأنما »الدكتور« لسان قد طوي على ذاته طيات عدة ثم ثُقبت له في الأعلى فجوتان للعينين، حتى لا تضيع منه متعة الفرجة على مدى إعجاب سامعيه بالدرر التي يلقيها فوق رؤوسهم ويستدر عليها التصفيق… تحت الفجوتين في الأعلى فجوة لمخرج الكلام، وقد أنبتت له في الأسفل ساقان ومدت له ذراعان فصار »مؤتمِراً« ناجحاً.
لا ضرورة للربط بين التفكير واللسان.
يمكن للسان أن يغني، أو يُستغنى به عن التفكير،
يمكن للسان ان يتصرف وحده، ان يتحرك في مختلف الاتجاهات وأن يصدر أصواتا متعددة النبرات.
ثم انه طيّع، يمكنه أن يرطن بالفرنسية، وان يعزز منطقه باستشهادات بالإنكليزية… ويمكنه ان يستولد للكلام موضوعا أو يجعل الكلام موضوع الكلام. ويمكنه اختراع الموضوع.. كذلك يمكنه التحكم بالوجهة بحيث يمكن ترتيب إطلاق الكلام رأسيا أو أفقيا.
أكثر ما يغيظ استخدام الأرقام العلمية في هذر على السجية!
الأشد إغاظة أن تبقى الأرقام العلمية مجرد »جارية« أو »عبد رقيق« للسادة المؤتمرين، يطلقونها ليبهروا بها المستمعين الذين لا يملكون قرارا، في حين انهم في الغالب يدوّرونها ويلطفون وقعها وقد يزوّرونها متى تحدثوا أمام الحكام.
فالرقم ولود… ويمكن إعداد نسخة »مذهبة« منه للحاكم، أما النسخة الجارحة فتبقى لمن تعوّد على الجراح والتجريح: المواطن.
ما أبعد الشقة بين الكلام والقرار!
ما أبعد الشقة بين النخب والعامة.
ما أضيق المسافة بين الحاكم مزوِّر إرادة الناس، وبين النخبوي مزوِّر الحقائق على الناس نفاقاً للحاكم أو خوفاً من سيفه!
الرقم الصادق لن يدفع الدولار.
ومن يدفع الدولار يستخدم الرقم ليذل الحاكم ويسترهنه ثم يستخدمه أداة قمع للناس بواقع تخلفهم الذي والحال هذه لن يتبدل!
ادفع دولاراً تقتل رقما حقيقيا (عند العرب).
ادفع دولارا ثانيا تستولد رقما مزورا تخدع به العرب!
ثم ان الذي يدفع إنما يدفع من الدولارات التي أخذها منك، أي من مجموع ثروتك الوطنية التي يسترهنها لأنه يعرف الرقم الصحيح وأنت تتوه في بيداء الأرقام الخاطئة أو المغلوطة… والتي غلطها مقصود عن سابق إصرار وتصميم!
والحقيقة خلف الدولار، فكيف يصل إليها من لا يملكه؟!
… والى ندوة مؤتمرية في كونفرنس منتدى جلسة نقاش أخرى!

موسيقى لذات الذراع النحيلة
هل هي عيون الرجال، أم هي القدرة الخارقة عند المرأة على اختزال نفسها، بكل عبق أنوثتها، في حركة ذراع، أو في هزة خصر، أو في ارتعاشة رموش العين، أو في ثني الجذع على إيقاع النغم المطرب، فإذا المساحة تموج بالأجساد الراقصة تعبيرا عن امتلائها بخدر النشوة؟!
لم تكن المطربة جميلة، ولم يكن الجمهور نصف السكران أمام الطاولات المتخمة بالمازات الملونة ليسمح بالاندماج مع اللحن الذي ينقل عدوى الغناء إلى الجميع.
لكن نظرة شاردة إلى تلك الذراع النحيلة وهي تتلوى منفردة في البداية، ثم مع الذراع الثانية، حين تدفق اللحن مغناجا كنيل أسمر ينثر الخصب في الأرض المتشوقة إلى قطرات ندى، بدلت المناخ وحركت وقار الرجال الخائفين من أسمائهم على مواقعهم، فبدأ بعضهم يدندن مصاحبا المغنية، ثم تجرأ أحدهم فصفق فتبعه الآخرون على استحياء.
مع الأغنية الرابعة والكأس الثالثة كان الوقار قد خفف من قبضته، فأخذت الأيدي الرجالية الخشنة تتحرك فوق الطاولة مرافقة ضابط الإيقاع، في حين استقرت العيون على تلك الذراع النحيلة تتابعها بشغف، حتى إذا ضبط كل منهم أصحابه هناك التفت مزهواً بأنه ليس أقل تحسسا وليس أدنى تذوقا من تلك التي صار الظاهر من يدها المتلوية نغما وكأنه يختصر الأنوثة جميعا.
انتبهت السيدة ذات الذراع الموسيقية الى جيرانها المتعثرين بخجل الاسم المعروف، بما يشبه التحية على شجاعتهم في التحرر من وقار لا وظيفة له في منتصف الليل، وأطلقت ذراعها الثانية، في حين استقرت عيونهم على كتفيها وهما يعكسان الارتجاج المنغم للجسد الطري بنحوله المغلف بثوب متمرد على الشتاء، ومبشر بزهو الربيع القريب.
امتدت بين الطاولتين ساقية من النشوة الطارئة، وحين لبت المطربة طلبات الرجال الوقورين من أغاني الوجد والصد والانتظار والغيرة، توحدت الطاولتان على البعد، وغدا الجميع أصدقاء قدامى، بمن فيهم الزوج الذي لم يكن يبين منه إلا بعض مؤخرة الرأس الصلعاء.
صار لكل منهم رفيقة… وتوهم كل انه قد بات له سره الخاص وعلاقته الحميمة، وضبط واحدهم الآخر وهو يحاول أن يختطف لنفسه نظرة من خلف ظهور أصدقائه وشركاء الاستمتاع بتثني ذراع المرأة التي استخف بها الطرب.
خطر لأحدهم خاطر: ماذا لو خصت أحدهم بتحية؟ هل ترى الآخرين سينكرون صداقته وسيأخذهم الحسد الى التقول عليها لكي يستفزوه وكأنه غدا غريماً؟!
على أن القدر تدخل في اللحظة الأخيرة، فقامت السيدة ذات الذراع المموسق تنصرف مع زوجها الأصلع مؤخرة الرأس وثالث لم يكن يبين للرجال الذين تهدل وقارهم وغامت عيونهم فلم تعد ترى غير طيوف نساء غائبات.
قال أحدهم بشيء من الغل: ولو! ألا تحية!
ابتسم الباقون وهزوا رؤوسهم وأعادوا الى الوجوه وقارها المعهود، ثم استعادوا وهج الأسماء المعروفة، وهم يغادرون، وقد سافرت خواطرهم بعيدا وراء ما تحت الذراع وما بعد التلوي بالطرب وحده!

فكِّروا بأقدامكم لنصرة الوطن!
أعترف، مع الاعتذار، بأنني مع تقديري للرياضة والرياضيين، لست من عشاق كرة القدم، ولا أملك كفاءة الانحياز إلى هذا الفريق أو ذاك، مع فهمي وتفهمي وإعجابي غير المحدود بالروح الرياضية التي تُنزل إلى الملاعب في بيروت بل في لبنان كله الأنبياء والرسل من عليائهم وتجعلهم مسؤولين عن الأهداف الرابحة أو متسببين في الخسارة، مع ما يلحق بمثل هذه المسؤولية من تواشيح المدائح وقصائد الهجاء البليغة التهذيب والمعبِّرة عن رفعة في الأخلاق والتسامح!
هذا شأن شخصي، لا يهم غيري.
لكن ما جعلني أخرج عن طوري وأقرر الجهر برأيي المخجل هذا، هو أن تصبح كرة القدم الممثل الشرعي الوحيد للجمهور بعواطفه ومواقفه، وأن تحل محل السياسة، والأخطر: أن تلغي المشاعر الوطنية والقومية، أو أن تجبها فتحجبها، فيصير كسب مباراة أهم من الغارات الإسرائيلية المدمرة لمولدات النور في لبنان، مثلاً، أو تقاعس لاعب عن تسديد ضربة تحمل إلى الفريق الكأس الذهبية أشد وأدهى من الضربات الإسرائيلية بالصواريخ المدمرة للمدارس والأطفال فيها في هذا الجنوب الصامد.
فعشية الاعتداء الإسرائيلي »الجديد« على لبنان وأنواره كان الصراع محتدماً على كأس أفريقيا… ولقد لفتني قرار لبعض الحكومات العربية بمنح عطلة للطلاب والتلامذة جميعاً، سواء في الجامعات أو في الثانويات أو في رياض الأطفال، وكأن ذلك اليوم »عيد وطني«،
هذا شأن غير شخصي ويهمني بقدر ما يهم غيري.
لكن هذه الحكومات الجليلة لم تتخذ مثل هذا القرار التاريخي ليخرج الطلبة الى الشارع متظاهرين دعماً للبنان ودعماً لأهلهم فيه، بمن فيهم أقرانهم من الطلاب والتلامذة، بالجرحى بينهم والمصدومين الذين ما زالوا قيد العلاج.
لكأن الربح في كرة القدم يرفع من شأن الوطن، أو إلحاق الهزيمة بفريق منافس يتجاوز بأبعاده العميقة أن يخسر العرب لبنانهم، الذي طالما اعتبروه بلد الإشعاع والنور والدرة وقرة العين والمثال، وطالما جاؤوه ليعبِّروا عن آرائهم في ما يتجاوز كرة القدم وفرقها والكؤوس والرؤوس التي تلهي الجماهير بأقدامها لتلغي عقولها والعواطف والمواقف!
المفارقة أن إسرائيل »انتصرت« علينا والفريق الذي عطّل البلاد لم يربح الكأس. مبروك!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ضحكت وحبيبي من هؤلاء الذين ينتظرون يوما بعينه ليحتفلوا بعيد العشاق. كأنما الحب بالساعة، ويتحرك وفقا للروزنامة! أو كأنما العيد يُستورد فضلا عن الحب أو حتى العشق نفسه… مَن يحتج إلى مَن يعلِّمه الحب، فلا يمكن أن يحب. لا مجال لانتحال الصفة في الحب. الحب يعلِّمك. الحب هو الأستاذ الأكبر وكلنا تلامذة نتعلم فلا نصل لأن هذا العلم مفتوح ما بقي في الصدر قلب يخفق، وفي العين مساحة لالتماعة اللهفة، وفي الصدر مهجع للحنين.

Exit mobile version