عن نور الشريف واعتذاره من حنظلة..
… ولكن بيننا موعداً معلقاً، يا نور، منذ سنوات، فكيف تخلفه أيها الذي كاد أن يكون صديقاً ثم أخذت الأيام كلا منا في سبيل لتدهمنا بالفراق الأبدي؟..
ولقد كنتُ من المعجبين بحيوتك وأدائك الذي كان يتطور ويغدو أكثر إتقاناً من شريط إلى آخر، وكنت أحيي فيك اجتهادك الذي بلغ ذروته ـ في تقديري ـ بالدور المميز الذي لعبته في فيلم «المصير» للمبدع الراحل يوسف شاهين، وكنت فيه «ابن رشد». لقد أحييته بقدر ما أحزنتنا على واقعنا الذي يكاد يكون امتداداً لتلك اللحظة.
.. وفي آخر لقاء تم بالمصادفة، في بيروت، وعدت بأن تُكَفِّرَ عن خطأ غير مقصود دفعت إلى ارتكابه بحق «السفير» وحقي في الفيلم الذي أنتج في ليل عن المبدع الراحل ناجي العلي، وأن تأتي إلينا لتكتشف أننا غير الذين أُلبسوا أسماءنا مزورة، وعهد إليهم بأدوار ليست لهم، وفي أمكنة غابت عنها الروح ولا يمكن أن تعوضها لوحة كتب عليها اسم «السفير» بخط اليد وبتسرع يفضح الارتباك والخوف من انكشاف الفضيحة.
يغلب الحزن لفقدك، الآن، على الرغبة في الحساب… ولقد غفرت لك منذ أن التقينا ـ مصادفة ـ بعد توريطك، كما قلت لي، في الشريط السينمائي الذي أنتجته جهة سياسية موّهت نفسها لكي تتمكن من الافتراء على «خصومها» السياسيين، وتحديداً الزعيم الراحل ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، موجهة إليه ـ بشكل أو بآخر ـ تهمة الضلوع في جريمة تصفية أحد أعظم رسامي الكاريكاتور في عصرنا ناجي العلي، الذي اغتيل في مغتربه الاضطراري، لندن، بينما كان في الطريق عائداً إلى بيته.
ولقد كان ناجي العلي، مثل كثيرين غيره من المناضلين الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، من معارضي النهج الذي اعتمده «الأخ أبو عمار» في «المفاوضات» مع العدو الإسرائيلي (وكانت حتى لحظة استشهاد ناجي العلي «سرية» وبالواسطة وان عرف بها العالم أجمع).
ولد ناجي العلي ثائراً لا تغادر خياله صورته مع أهله وهم يهجّرون، تحت ضغط الإرهاب الإسرائيلي بالنار، من بيوتهم وأرضهم ووطنهم لينضموا إلى طوابير اللاجئين إلى أقرب نقطة من قريتهم عند الحدود مع جنوب لبنان.
ولقد عاش ناجي العلي في المخيم، رافضاً أن يغادره، حتى عندما بات مدرّساً للرسم في بعض مدارس وكالة غوث اللاجئين، في مخيم عين الحلوة.. بل إنه ظل «يعيش» في هذا المخيم كقرار بأن يبقى في فلسطين، حتى عندما بدأ ينشر رسومه الكاريكاتورية «البدائية» في مجلة «الحرية» التي كانت الناطق الرسمي باسم حركة القوميين العرب التي انتمى إليها ناجي.
كان أبو خالد ـ ناجي يأتي إلى أبي خالد ـ محسن إبراهيم كل أسبوع حاملاً مجموعة من الرسوم مستوحاة من الواقع الفلسطيني المر وإن حمل شيئاً من الأمل مستوحى من بعض خطب أبي خالد ـ جمال عبد الناصر التي لم تغب عنها القضية المقدسة فلسطين في أي يوم.
بل إن ناجي العلي قد أعاد صياغة نفسه في شخصية «حنظلة» التي غلبت على اسمه، حين اتخذ من هذا الطفل ـ الذي كانه وبقي يسكنه حتى يومه الأخير ـ تميمة ترمز إلى عموم الشعب الفلسطيني الذي أُخرج من دياره بقوة العدو، يوماً، ثم بقي لاجئاً خارج وطنه بقوة الضعف العربي العام والخلافات التي عصفت بوحدة الصف العربي وأضاعت الجميع عن طريق فلسطين.
رويت ذلك كله لنور الشريف بتفاصيل ليس مجالها هنا فترقرقت الدموع في عينيه وهو يقول: آسف… لو أنني التقيتك قبل التصوير لكنت رفضت القصة التي انتبهت ـ متأخراً ـ إلى أنها كتبت في وقت متأخر، وبقصد مقصود هو الإساءة إلى النضال الفلسطيني وتوجيه الاتهام الضمني إلى القيادة الفلسطينية بدلاً من التركيز على العدو الإسرائيلي.
]]]
أستذكر الآن، في لحظة وداعك المرة الأولى التي التقينا فيها، حيث جئت بيروت أوائل السبعينيات لتحضر العرض الأول لأحد أفلامك.. كنت فتى غضّ الإهاب، وقد تجمهر المعجبون والمعجبات على وجه الخصوص من حولك وأنت تخترق جموعهم مزهواً بنجاحك. ولقد تنبأ لك كثيرون بأن تحتل مرتبة الفتى الأول بامتياز، لوسامتك وذكائك ولياقتك وبراعتك في اكتساب الأصدقاء.
وأستذكر أيضاً آخر لقاء جمعنا في بيت أحد الأصدقاء في بيروت، احتضنني نور الشريف وهتف بنبرة أسف: اشهدوا عليّ جميعاً، لقد أسأت إلى «السفير» عن غير قصد. أعترف بأنني تسرعت في قبول عرض التمثيل في ذلك الفيلم.
قلت: الأخطر هو الإساءة إلى صورة المبدع ناجي العلي ومن بعده إلى القضية المقدسة جميعا. فليس أسوأ من استخدام النكاية بهذا الشخص أو ذاك في خضم معركة هائلة مع العدو الشرس والقوي والذي يمكنه الإفادة من أي خلاف داخلي لتشويه النضال الوطني والقومي عموماً.
عاد نور الشريف يحتضنني مكرراً أسفه واعتذاره… وختم المسألة بأن تعهد أمام الموجودين بأن ينتج فيلماً عن «السفير» وقصة نجاحها وما قدمته من جهد في مجال التنوير والتعريف بجوهر القضية المقدسة.
ها هو القدر يجبرك على أن تخلف وعدك، مرة أخرى، يا نور…
وبديهي أنني غفرت لك من زمان،
وغداً متى التقيت ناجي العلي في عليائه حيث ستكون أنت أيضاً بلّغه مع اعتذارك مني السلام والتحية. غفر الله لنا جميعاً.
وها إن غيابك يؤكد لنا أننا نعيش في زمن الخسارة.
سلام عليك وعلى ناجي… وحفظ الله حنظلة!
الصبية ليندا مطر
يمكنني أن أصيح بهذه «القديسة» التي تُكرم الآن:
ألم تتعبي يا امرأة يجللك الشيب الذي يكاد يكون بعض اسمك ورمزاً لنضالك الطويل في مقاومة الغلط الفاضح في سلوك الدولة؟ وأكاد أضيف: والمجتمع في موضوع سُحب من التداول في معظم أنحاء العالم، وهو ما يتصل بحقوق المرأة ـ الأم، الحبيبة، الزوجة التي تمنح عمرها لأبنائها والبنات، والتي كان محجوراً عليها في بيت الحريم فخرجت إلى النور والى العمل وبذل الجهد، كما الرجال وأكثر، وأبدعت في مجالات عدة.. بل إنها طبعت هذا العصر بمشاركتها الجدية في الإنتاج، بغير أن تنسى أن تعطر حياتنا بالحب والحب والمزيد من الحب مخففة عنا ـ نحن الرجال – أثقال مواجهة الأعباء المستمرة في التعاظم وأخطرها الافتراق في المفاهيم كما في العادات والتقاليد بين الأهل والأبناء ذكوراً وإناثاً، وهذا موضوع خطير لا يتسع له مجال الحديث في هذا المقام.
نعود إلى ليندا مطر التي لا تتعب، ولا تيأس، ولا تشيخ ، تتقدم الصفوف مستنهضة همم النساء، ملقية على الرجال (ممن هم في السلطة، سلطة البيت كما سلطة الدولة) الاتهام الخطير بأنهم ظَلَمَةٌ، يقهرون نساءهم ويحرمونهن من أبسط حقوق الإنسان.
الطريف أن الاتهام يطال مقهورين.. من قال إن الرجال في لبنان يتمتعون بحرية الاختيار، لا سيما في السياسة، ثم في السلوك الاجتماعي طالما استمر الماضي يسيطر على حياتنا بمفاهيمه وطقوسه العتيقة؟
كان الأمل في انتعاش الحياة السياسية، وتقدم الثورة الفكرية وشمولها بلادنا جميعاً. لكن الثورة أُجهضت بالطائفية التي، مع الأسف الشديد، أعيد توظيفها في السياسة، فكادت تدمر وجوه التقدم على المستوى الاجتماعي.
إن علتنا الخطيرة، وأكاد أقول القاتلة، هي الطائفية. إن هذه العلة تضربنا أطفالاً، وتلامذة في المدارس، وطلاباً في الجامعات. تمنع تقدمنا إلى حيث تسمح لنا مؤهلاتنا.
لكن ليندا مطر لا تعرف اليأس. تقاومه وتقهره بالأمل ومعه العمل والاستغراق في العمل حتى نسيان العمر والانصراف إلى العائلة. هي ترى في نساء لبنان جميعاً عائلتها. تناضل من أجلهن حتى لو لم يعرفن، أو لم يشاركن، أو اندفعن إلى التساؤل عن أهداف هذه القديسة الشيوعية التي يجللها الشيب: ماذا تريد هذه التسعينية، ولماذا تحرّض دولتنا التي ليست دولة؟! ألم تيأس بعد؟
يا ست ليندا: أيتها المباركة من دون تطويب بين القديسات: جهدك مبارك، وقهر اليأس درس للشباب – فتيانا وصبايا – أن يكملوا الرسالة التي بها يؤمنون.
ليكن لكِ من العمر قدر ما تستحقين، أو «طالما العمر بيلبقلك».
وكل عمر جديد وأنتِ بخير.
(كلمة ألقيت في احتفال أقامته لجنة حقوق المرأة اللبنانية ـ في رعيت البقاع لتكريم السيدة ليندا مطر وتوقيعها كتابها «محطات في حياتي»)
تهويمات
نحو السطر الثاني
اقتحمت بحصان الرغبة كيانه المتعب. لم يكن الوقت يتسع للمقدمات، ولا كان المكان يتسع لأعذار الانشغال بالواجب الذي لا مجال لتأخير مواقيته.
ارتبك وهو يتقدم للسلام ففوجئ بها تقتحمه بقفزة واحدة، تحتضن رأسه وتنهال تقبيلاً على ما استولت عليه من أطراف جسده.
حاول عبثاً أن يهدئ اندفاعتها. أشار إلى الحضور وقد توزعوا في أنحاء المقهى، فرفعت كتفيها استهانة، وتابعت توغلها فيه.
أمكنه أن يتمتم: فلنبحث عن مكان آخر أقل ازدحاماً.
قالت: بل إنني أريد أن يعرف الجميع حكايتنا..
هز رأسه متمتماً: ولكننا بالكاد تعارفنا، ونحن في السطر الأول من الحكاية.
همهمت: السطر الأول هو المنطلق، والباقي تفاصيل.
… وما زال السطر الأول يتوالد شهقات وزفرات وهمهمات تمنع الانتقال إلى السطر الثاني.
مكتبة الإهداءات
كان الكتاب هو باب التعارف..
.. ولقد غدت لديها مكتبة من إهداءاته التي طرّز بها الصفحات البيضاء التي تسبق التقديم.
وفي الفاصل بين الكتابة والقراءة امتد هامش طويل مزدحم بالآهات التي حبسها في صدره تاركاً لعينيه أن تنطق بها.
ولكنها كانت تتقن الكتابة مع أنها لا تعرف القراءة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أن تحب يعني أن تنسى قواعد الحساب محتفظاً بالفيء العطر للعتاب. عتاب حبيبي نفحات شوق تطير بي وقد رقت أجنحتي فأهيم في الجنة الموعودة قبل أن أفيق في أحضانه وقد ارتسمت ملامحه في عيني وعلى صفحة وجهي الأبهى الآن من وجوه الملائكة.
