طلال سلمان

هوامش

جدار الديموقراطية، يتسع للجميع… صوراً!

مع كل صباح، أُفاجَأ بواحد من أصدقائي أو معارفي معلقاً على شجرة، أو »مسطوحا« على جدار، أو »مشنوقا« يتدلى من فوق شرفة، أو »مرفوعا« كراية مهجورة أو منسية من »حرب« وضعت أوزارها على أكتافنا وطوت أعلامها مع إعلان انتهاء المباراة التي لما تبدأ.
أتأمل الصور: مربعة ومستطيلة، ملونة أو بالأبيض والأسود، باللقب العلمي أو من دونه، بتحديد الهوية الطائفية للمقعد »المستهدف« بالترشيح أو المتروكة للتقدير، ترفعا أو تعففا أو ثقة بأن الكل يعرف فلا حاجة إلى مزيد من التوكيد!
أتأمل الصور: رصينة، مبتسمة، عابسة، متجهمة، بعينين مفتوحتين على الفراغ، أو بعينين ذابلتين بالتمنى.
أتأمل الصور: واقفا مفتوح الذراعين، ضاحكا باستبشار عظيم. لمن تراه يزجي هذا الترحيب الحار، وليس أمامه غير المصور الذي يختار له اللقطات بأوضاع مختلفة، وطريفة، لكي يزيد مكافأته.
أتأمل الصور: مكتوف الذراعين، مفتوح القميص بلا ربطة عنق، بثياب الرياضة، بثياب العمل الميداني، باللباس الرسمي القاتم، مطبقا الشعار الكشفي »دائما مستعد«.
مع كل صباح تتزايد الصور، تتراكم الصور بعضها فوق بعض. تخفي المولودة ليلا تلك التي عُلقت من قبل. أحيانا لا تخفيها جميعا، تبقى أجزاء من »القديمة« ظاهرة للعيان. ومن تحت »الجديدة« يطل مرشح الأمس بعينيه ولسان حاله يقول: لا تخدعك المظاهر، فأنا الأصل!
صور، صور، صور.
الديموقراطية في ذروة تجلياتها.
الجدران تنطق بالديموقراطية. الأشجار تحمل ثمار الديموقراطية ناضجة تسيل اللعاب. تتدلى الديموقراطية من الشرفات. تحتل الديموقراطية السطوح.
الديموقراطية بالألوان.
الديموقراطية بكل الأحجام، والسعر واحد!
الديموقراطية للجميع، مثل الهواء ونور الشمس.
الديموقراطية تملأ الشوارع والطرقات، سارحة والرب راعيها!
خذ ديموقراطيتك وامشِ!
لن يغصبك أحد، لن يضغط عليك أحد، لن يفرض عليك أحد.
اختر الصورة التي تناسب فرش بيتك.
اختر الصورة التي تعجبك. يمكنك أن تأخذها معك أو تتصور إلى جانبها، أو تأتي بصورتك فتلصقها فوقها.
لك حتى أن تنزعها ليستعيد الجدار نظافته.
ما الفرق بين الصورة والجدار؟!
الصورة هنا أكثر حيوية وإشراقا من الصورة »هناك«، غداً، بعد إعلان النتائج وفوز من تختاره الديموقراطية نائبا.
تتراكم الصور بعضها فوق بعض. تتراكب الصور. تتراكل الصور. الديموقراطية محبة!
تتوارد الصور دفعة اثر دفعة. تتوالد الصور بعضها من بعض. الديموقراطية تجدد!
صورة تلغي صورة. صورة تستدرج صورة. صورة تستحضر صورة أخرى مغيبة.
ما أكثر وجوه الديموقراطية المقطوعة الرأس، المفصولة عن هرم نظمها ومفاهيمها وقيمها.
الصور العديدة، المتوالدة، المتراكمة، تكشف حقيقتك وأنت تتأملها من خارجها: أنت أيضا صورة، مجرد صورة.
صورة تنتخب صورة.
صورة تعطي ثقتها لصورة،
صورة تعطي صوتها لصورة.
ليس أكيدا من أعطى من، من انتخب من، فلا فوارق بين الصورتين، لا في المهمة ولا في الدور ولا في المعنى.
إحمل صورتك واتبعني.
إحمل جدارك واتبع صورتك.
جدار يحمل جدارا. صورة تحمل صورة. صورة تحمل جدارا.
الديموقراطية جدار. الجدار ديموقراطية.
سأنتخب صورة الجدار.

محسن العيني يكتب بعض ما يعرفه ولم يقله أبداً!
دخل عليّ محسن العيني متعجلاً وهو يحمل في يده نتفا من السر العظيم الذي يطوي عليه صدره، والذي يطل من عينيه أكثر مما يطل من كلماته المنتقاة بعناية، إذا ما قالها، لو جمعنا لقاء.
»خمسون عاما فوق الرمال المتحركة«،
كان ذلك هو عنوان الكتاب الذي كان مثل رغيف ساخن خرج لتوه من الفرن، وانتشر شميمه الطيب في كامل المكان.
قلت: إنه يصدر، كما كل أعمالك وكلماتك، في التوقيت الصحيح.
ابتسم المناضل القديم الذي تحمل السجن والنفي ورئاسة حكومة لا تحكم، ونفيا طيبا تحول الى سفارة، وقال بحذر اليمني الأصيل المتحسب دائما للأسوأ، والذي لا يطمئن أبدا لا إلى عوامل الطبيعة ولا إلى مزاج من بيده الأمر:
لا، لا، ليس عن المعاهدة الجديدة التي أعلن أنها قد حلت الخلافات التاريخية على الأرض والحدود بين جمهورية اليمن والمملكة العربية السعودية.
قلت: لكنه لا بد يعرض للأمر، بتاريخه، وقد يفسر بعض ما خفي منه.
قال والحذر ثالثنا: ربما، ربما.
ابتسم تلك الابتسامة القصيرة، الغامضة إلى حد أنها تملأ صفحات كتاب أعظم حجما من مؤلفه الجديد، ثم قام ليلحق بالطائرة قائلاً:
ليس إلا هذه، مرة في الأسبوع فلا تدعها تفوتني..
واستوقفته لأحدثه بطرفة نجمت عن لقاء اجتماعي مع عبد القادر باجمال، الذي كان بين مسؤولي الحكم في اليمن الديموقراطي، أيام زمان، والذي هو الآن نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية في اليمن الموحد.
كان اللقاء في بيروت، وبحضور ضيوف أجانب. واستعيدت حكاية الخلافات الدائمة بين اليمن والسعودية، فقال باجمال ما مفاده: ان السعودية قد وكّلت، كمحام، مكتب جيمس بيكر، فوكلنا نحن مكتب هنري كيسنجر (وكان كلاهما وزيرا لخارجية الولايات الأميركية، سابقا)..
و»حبكت« مع أحد ضيوف الحفل فقال ضاحكا:
هي هي الحكاية، كل ما في الأمر ان جيمس بيكر قد انضم إلى »عدنان«، بينما انضم كيسنجر إلى »قحطان«.
والحرب بين عدنان وقحطان، الشمال والجنوب، في الجزيرة العربية، مفتوحة دائما.
وعسى أن تكون المعاهدة الجديدة خاتمة فلا تكون مرحلة جديدة بين البيكريين والكيسنجريين شمالا وجنوبا، وبين بين!

ملاءة للمنازلة على غابة التنهدات
يباغتني القمر بالاكتمال وأنا في الطريق إليك.
في كل مرة أقول: سأسبق هذه المرة. سأفاجئ البدر مع إطلالته الأولى فأنظره بعينيك، وأفرش نوره الخافت فوقك ملاءة، ثم اقبله وهو يبتعد لينام في غابة التنهدات القريبة.
أمس، كانت المباغتة أقسى من احتمالي.
أطل، هذا الداهية الذي يغشي الوسن عينيه فيخيل إليك أنه أعشى البصر، بجلال لم يحظ به الأباطرة، ونظرني مليا، كمن يطلق التحدي وينتظر رد الرجال.
تفكرت فلم أجد غيرك سببا. التفت أبحث عن طيفك حولي فلم أجد غير وحشة السكون. ولفحتني أنفاس هزيمة أطلت بقرونها من تلك الغابة القريبة.
كان ينظرني، بعد. كنت أعرف ذلك من غير أن أتطلع إليه فوق.
كان ينتظر جوابي وكنت أنتظرك لشطب السؤال.
صار فوقي تماما. أحسست بثقله فمادت بي الأرض، أو أنني تهاويت، أو أنه هوى نحوي. لا أعرف ماذا حصل على وجه الدقة. كل ما أعرفه أنني حاولت أن أرفع رأسي، فإذا بقامتي تطول وتطول حتى تجاوزت الغيوم ولامست حدود السماء.
أخيرا تطلعت إليه، فإذا مداه قد انفتح على سرير يظلله الخفوت، وإذا أطراف الملاءة تتطاير لتمنحني فرصة أن أتأمل ذوب تفاصيلك، وحبيبات من العرق تتناثر فوق سطحك في ما يشبه الكلام، لاعلان نتائج المنازلة.
ولم أحظ بقبلة الوداع وأنا أتراجع مهزوما إلى صحراء الغيم البلا مطر الذي كان ينثر رماده فوق غابة التنهدات البعيدة.

مدلك التعب

يجمعنا الضوء وذبذبات الصوت.
يجمعنا الهواء وجزيئات الصورة.
تفصل بيننا وسادة العتمة وزنزانات التشهي.
تريدين كلاماً في الحب؟! أليس لديك من الإعلانات ما يكفي؟!
الحب كلاماً؟! آسف، لا نبيع هذا الصنف.
* * *
يقول لي ذلك الذي لم يعرف إلا نفسه:
لا، أنا لست من هنا. لست منكم. لست معكم. طلبتني فجئت معها حتى لا يثقل عليها الضجر. أنا شاغل أوقات الفراغ. أنت لملء ما تبقى. أنت بديلي، وأنا المتكفل بمسح آثار التعب منك. ألست تعرف أبي؟!
وتقولين وأنت تغمزين لي عنه:
الوقت مرهق. هذا مدلك للوقت. هل تريد بعض التدليك؟!
* * *
يحرق الضوء ذبذبات الصوت. ويهب الهواء عنيفا على جزيئات الصورة فيفسدها، وتأخذ الإعلانات كلمات الحب إلى زنزانات التشهي فتدخل العتمة الوسادة لتنام، ويبقى الذي أعرف أباه ولا تعرفين أمه يحمل على كتفه الضجر ويبتسم بثقة من أدى مهمته بإتقان منتظرا قبلة التعب.
تعشى بنا الوقت وفاتنا الطعام. إلى اللقاء في كمين آخر.
من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كاره نفسه لا يحب أحداً، ويزعجه أن يسمع حديثاً عن المحبين، فإذا ما »ضبط« عاشقين يتهامسان، أو يتناجيان بلغة العيون، حاضر على الناس بالتفلت والانهيار الأخلاقي.
مع الحب تبدأ بغيرك وتنتهي بنفسك.
مع الحب تمحي الحدود بينك وبين الآخر… يمنحك الحب رحابة صدر غير محددة وثقة بالنفس لا تهزها البراكين، وترى الناس في صورة حبيبك فتحبهم فيه ومعه ومن أجله.
يا امرأة، هيا إلى كاره نفسه، لكي يوقف الحرب على العالم ويدخل النعيم معنا.. فيحب.

Exit mobile version