طلال سلمان

هوامش

حوار مفتوح في القاهرة حول الثورة
والعسكر بين الماضي والمستقبل

القاهرة مجرّحة الوجنات، شاحبة الملامح، تفتقد روحها المرحة ويظللها شيء من الخوف ليس من السلطة الآن بل من غياب السلطة، ويغلب على المناقشات فيها قلق مشوب بالحزن.
عاد «الميدان» إلى «طبيعته»: مساحة واسعة مفتوحة كقلب كبير للمدينة التي لا تتوقف عن التضخم والتوسّع مقتحمة جهاتها الأربع: جبل المقطّم الذي نبتت فيه مدن عدة، بينها «الشعبية» التي بنتها وزارة الإسكان، وبينها «العشوائية» التي ابتنى فيها الفقراء مساكن لهم كيفما اتفق وحيثما اتسعت مساحة «التخفي» لغرفة، وفيها «مدينة القطامية» المسوّرة بحرس محدثي النعمة أو الهاربين بوجاهتهم من «الزحمة التي لا تُطاق» في المدينة ذات العشرين مليوناً من السكان بغير ضواحيها من «المدن» التي تكاد تصلها بالسويس… أما منطقة الهرم التي كانت بعض الصحراء التي استنبتت فيها الأهرامات فقد عمّرها الهاربون من الضوضاء وأشادوا «مدناً» أنيقة خلف أسوار عالية، بينما تتمدّد «مدينة 6 أكتوبر» التي كانت ضاحية بعيدة لاغية الصحراء، مستوعبة «المدينة الإعلامية» باستديوهاتها متعددة الهوية والهوى والمجهّزة لتصوير الأفلام السينمائية بالقرى التي يخترقها القطار وقد برز في الكبرى منها بيت العمدة ونقطة الشرطة في قلب السوق.
كان الموعد في ذلك «النادي» الذي لا يعرف موقعه إلا من ألِف ارتياده، أما الدعوة فكانت مفتوحة لرفاق الميدان من الناشطين كتاباً كهولاً ومحازبين يساريين وبعض الشباب الذين كبروا عقداً في سنتين من التجارب الغنية بلحظات الفرح وأيام المرارة، والذين يقفون الآن على عتبة المجهول يتساءلون: هل أخذتنا الحماسة بعيداً عن واقعنا، أم أننا لم نكن جاهزين لمواجهة أوضاع في مثل خطورة ما شهدناه، أم أن قوة قاهرة تدخلت فاختطفت منا ثمرة كفاحنا وأربكت حركتنا فلم نعد نعرف: هل نتقدم وإلى أين؟! أم نتراجع وإلى أي مدى… علماً أن التقدم مخاطرة غير مضمونة النتائج والتراجع قد يكون نوعاً من الانتحار؟!

^ حوار مفتوح مع الذات والأحلام

كنا ثلاثة من «الطارئين» آتين من الشراكة في الحلم، متخوّفين من أن نرجع من القاهرة وقد غدونا شركاء في الخيبة… لكننا، ربما بسبب «غربتنا»، لم نكن قد غادرنا أحلامنا بعد، ومستعدين «للنضال» من أجل حمايتها حتى لا تحرقنا نيران الحرب الأهلية التي تهدّد باجتياح مشرقنا بأقطاره جميعاً.
… استأنف «الزملاء» نقاشاً مفتوحاً منذ شهور سبعة، أي منذ «ليلة القبض على مرسي»، واقتحام الجيش بعنوان عبد الفتاح السيسي المسرح منزّهاً من تهمة الانقلاب العسكري، مقارباً صورة «المنقذ»، وإن كانت بزته العسكرية تستولد الشكوك والريب والمخاوف فتكاد تلتهم الفرح بالإنجاز.
اندلعت الأسئلة شلالاً: أهي عودة إلى حكم العسكر؟ أليس ما حصل مصادرة «للميدان» وللطموحات التي كانت تملأ جنباته وتفيض عليه إلى كل القاهرة بضواحيها البعيدة، بل إلى كل المحافظات من البحر إلى النوبة؟! أين صارت «الثورة» بملايينها التي قالت «لا للعسكر» قبل أن تقول «لا للإخوان»… هل ندفع من طموحنا إلى الحرية وحقنا فيها ثمن «المخادعة» التي وقعنا فيها، فنعود بعد ثلاثين شهراً في الشارع إلى وضع يشابه ما كنا فيه في ظل الطغيان، مع اختلاف في «الشخص» وفي الظروف القاهرة؟!
تعالت الأصوات متقاطعة: كلنا نحترم الجيش ونقدّر له دوره في نصرة الميدان، لكنها ثورتنا، ثورة الشعب وطموحاته، ثورة حقه في بناء غده بإرادته لا بإملاء من الخارج ولا بالرهبة من جلاوزة النظام البوليسي…
قال أعلاهم صوتاً: نحن مَن واجه الإخوان على امتداد سنة طويلة.. نحن مَن أضير في رزقه أو أهين في كرامته ظلماً وعدواناً! نحن مَن ملأ الميادين بصوت مصر المعبّر عن إرادتها، نحن مَن واجه الاعتداء بالضرب والاعتقال وفضح نظام الإخوان.
قال آخر: نحفظ للفريق السيسي أنه صاحب «الضربة القاضية». لقد وفّر علينا سنوات من الشقاء في ظل حكم الإخوان… لكننا الثورة، أهلها وضميرها وصوتها، وهذه بلدنا، أمّنا، مصدر عزتنا، على فقرنا، ومنبع آمالنا التي نستشعر في أنفسنا القدرة على تحقيقها.
قال ثالث: نحن مَن سيبني مصر الجديدة، مصر العزة، بجهد العقول والزنود، ومن حقنا أن نكون في القرار. نحن مَن تحمّل الظلم والقهر والإبعاد أربعين سنة أو يزيد. نحن مَن دفع بنا حكم الطغيان إلى خيار مرّ بين الاستسلام أو الخروج من وطننا إلى أية أرض تقبلنا ولو كعمّال في المطابخ أو الفنادق.. فهل يُراد لنا أن نعود إلى منازلنا لنجلس أمام التلفزيون فنسمع القرارات التي ستحدّد غدنا من دون مشاركتنا؟
أكمل رابع: يفترض أن يعرف الجميع أننا قد أسقطنا بعبع الخوف. لقد واجهنا أصناف القمع جميعاً، بما في ذلك الرصاص… وحملنا شهداءنا وأكملنا المسيرة، ونحن نحمد الله على أن الجيش لم يدفع إلى مواجهتنا.

^ ليس الجيش هو المستقبل .. بشهادة الماضي

استدركت واحدة من الناشطات في الميدان: لا نريد المواجهة مع الجيش ولا نسعى إليها. إنه جيشنا. لكننا لا نريد أن يغرق الجيش في السياسة ويبتعد عن واجبه الوطني الذي نعلّق عليه الآمال.
نَبَرَ كاتب مجرّب: متى صار الجيش حاكماً تحوّل إلى طرف في الصراع وشغلته السلطة عن واجبه الأصلي. كلنا مع الفريق السيسي في تحركه الشجاع لإنهاء حكم الإخوان بالضربة القاضية… لكن العهود السابقة علّمتنا أن السلطة تفتح شهية العسكر، وأن منافع السلطة قد تغويهم فتفسدهم. وإذا صار الجيش هو صانع السياسة فمن البديهي، كما علّمتنا التجارب، أن يمسك بمواقع القرار جميعاً، في الاقتصاد، وفي الإدارة العليا… هل من المصادفات أن جميع المحافظين تقريباً كانوا من العسكريين، وأن العديد من السفراء كانوا من الأجهزة العسكرية كالمخابرات، وأن قيادات القطاع العام في المصانع ومختلف وجوه الإنتاج كانوا من العسكريين العاملين أو المتقاعدين؟! أليس بين «المدنيين» كفاءات وخبرات ولدينا مئات الألوف ممّن تلقوا التعليم العالي في أرقى الجامعات؟!
قالت الصبية التي وصلت لتوّها وقد سمعت آخر كلمات رفيقها: ألا يتحمّل العسكر الذين كانوا يحتلون المناصب القيادية في الإدارة (المحافظات تحديداً) وفي مؤسسات القطاع العام المسؤولية عن الخراب الذي تغرق فيه الإدارة المصرية الآن؟! لقد باتت الرشوة أساس العلاقة بين الإدارة والشعب!
قال زميل لها: مَن تسبّب في خراب الجامعات المصرية، بل والتعليم الرسمي بمختلف فروعه وتخصصاته؟! ألم تُخرب جامعاتنا ومدارسنا؟! ألا يقتطع الموظف الفقير من ثمن خبزه كي يأتي لأولاده بمن يعطيهم دروساً خصوصية ليطمئن إلى نجاحهم؟

[ [ [

انتبه منظّم الجلسة إلى أن «الضيوف المشارقة» يحاولون أخذ الكلمة فيعجزهم تدفق المشاركين في النقاش الذين ربما وجدوا فيهم مستمعين مؤهلين لأن يسمعوا شكواهم أو معاناتهم وهم يحاولون إعادة صوغ مواقفهم بما لا يتسبّب في صدام لا يريدونه… قال بلهجة المشفق: فلنستمع إلى ضيوفنا.. لقد أسمعناهم ما يكفي من ضروب التظلم والاحتجاج والتخوّف من المستقبل، ومن حقهم علينا أن نسمع رأيهم، وهو بالتأكيد سيفيدنا.

^ أيننا منكم، أينكم منا، والثورة ثورتنا؟!

قال الضيف الأول بنبرة غضب: وأين نحن من همومكم واهتماماتكم؟ كل ما سمعناه يتصل بمحلياتكم، بهمومكم في الداخل. ونحن نحترم لهفتكم إلى التغيير، وحرصكم على أن تحققوا به إرادتكم.. ولكن هل يظن عاقل أن معركتكم بحت داخلية؟ لا يمكن أن يكون التغيير في بلد بخطورة موقع مصر وقدرتها على التأثير «شأناً داخلياً»! هل موقف الأميركيين من التطورات في هذا البلد الأمين «محايد»؟ هل السخاء الخليجي المباغت أمر طبيعي، وهل هو بدافع النخوة وصدق الأخوة؟!
قال الضيف الثاني: هل تفترضون أن مصر جزيرة في المحيط الهادئ؟ لقد استمعنا إليكم على مدى ساعتين فلم يأت أحدكم على ذكر العدو الإسرائيلي، ولم يشر أي منكم إلى فلسطين.. ولم تتوقفوا أمام الحرب الأهلية ذات الطابع الطائفي التي تجتاح نيرانها المشرق العربي، فهل تظنون أن بوسعكم «النأي بالنفس» ـ مع الاعتذار عن هذه الاستعارة اللبنانية ـ عن كل هذه الهموم التي ستأتيكم وستؤثر في قراركم وعليه مهما حاولتم الهرب بالمحروسة عنها.
قال الضيف الثالث: أنتم لم تهتموا بموقف الشعوب العربية من ثورتكم، من ميدانكم، من مواجهتكم للطغيان السياسي ـ العسكري ثم الديني! أنتم غارقون في محلياتكم حتى الأذنين، وهذا ما يفجعنا.
عاد الضيف الأول يرفع صوته الغاضب ليقول: إن ثورتكم ثورة عربية، حتى لو لم تعوا ذلك. لقد انتهى عصر المحليات، إن نجاح ثورتكم خلاص للأمة جميعاً وفشلها يهدد باندثار الأمة… فتذكرونا!
حاول المضيف أن يستدرك فيستذكر ما يتصل بهوية مصر العربية وبدورها القومي القيادي الذي لا بديل منه، لكن الوقت كان قد تأخر، خصوصاً وقد حاول أحد المنتفعين بالعهد الماضي أن يرشي «الضيوف» بمأدبة عامرة خارج هذا النادي المفتوح للريح… لكن الوقت كان أضيق من أن يتسع للمآدب بالنسبة الى من جاء ليناقش هموم الغد وطموحاته في ضوء تجارب الماضي وثورة الميدان التي خاضتها «بهية»، أم الطرحة والجلابية، كأعظم ما يكون النضال كي تأتي «فوق الصعب ماشيه» واحتمالها هو هو وابتسامتها هي هي، وطيف الثنائي نجم والشيخ إمام يحومان حول الجمع منبهاً إلى خطورة التفريط بالثورة والخروج عن طريقها المحفور في الوجدان.

تهويمات

^ هتفت من البعيد: أعترف بأنني فشلت في الافتراق عنك. لقد سبقتني إلى هنا. ألمحك في البحر حين أقصده، وأطارد خيالك فلا أدركه، وحين ألتفت إلى الشاطئ أراك واقفاً تضحك مني… أنا عائدة في أول طائرة وموعدنا في ذلك المقهى الذي أودعناه قبلاتنا والتنهدات. أحجزه جميعاً فشوقي سيفيض عنه إلى جواره حيث كان يتربص بنا مَن يغزلون حلم اللقاء التالي من نظراتنا المرتعشة بفرح الانتصار على الزمان.
^ ليس الحب طائر ليل، وليس دوار شمس..
الحب هو الزمان، ما قبله ماض لن يعود، أما ما بعده فله اسم واحد: الحياة.
^ قالت: أحملك في أحلامي، ويسابق ظلك خطواتي وأنا في الطريق منك إليك.. أليس في الحب إجازات للراحة، ولو في المسافة بين قبلتين؟
واقترب منها معانقاً فسمعها تهمهم: لتسقط المسافات!

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب على البُعد منهك، أما في القرب فهو احتراق. وها أنا أهرب منك إليك. أشقى من بردي فأقترب، وحين تلفحني نارك أخاف عليك منها فأحترق ثم أنهض لأحترق مرة أخرى، وبعد الاحتراق الألف يأخذني الخوف من البرد إليك مجدداً… وها أنا أعيش موزعة بين خوفين واحتراقين والاندفاع منك إليك في قلب النار.

Exit mobile version