طلال سلمان

هوامش

هاني فحص يمتحن لغتنا بالبطريرك صفير

يفرض عليك السيد هاني فحص أن تتهيّب وأنت تكتب عنه لألف سبب، آخرها أنك لن تستطيع أن ترتقي إلى لغته التي تشعرك بالحاجة إلى تعلم العربية من جديد… فلغته من الأناقة والرهافة ورحابة الإيحاءات وكثافة المعنى بحيث تشعر بأنها قد أخذت من القرآن الكريم كما من نهج البلاغة ومن ديوان الشعر العربي بعض أبهى صفحاته، ثم جاء دهاء رجل الدين المتعمّق في فهم الدلالات والإيحاءات والمضمرات من المعاني ليضفي جلالاً مميزاً على نصه الذي يخترق الحداثة كسهم جاهلي!
أقرأ، مثلاً، هذا التقديم لكتابه الجديد ـ مع أنه معتق بشخصياته ونتاجهم المميز ـ:
«لم يستطع أن يقرض الشعر فاقترضه ملتزماً بدفع فوائد كبيرة، ورهن ثيابه في مصرفه.. وليس في نيتي أن أوفي قرضي، فليبع الشعراء ثيابي سداداً لدينهم علي.. مع ألف شكر».
أما تعريف الناشر للمؤلف فقد اقتصر على الكلمات التالية: «ابن جبشيت ـ 68 سنة ـ رجل دين شيعي ـ أديب وكاتب ومؤلف وناشط في المجتمع المدني وداعية حوار بين الأديان، ومن أبرز المنظرين في مجال مقاربة الإسلام لمواضيع الحداثة المطروحة».
وأما تعريفه هو شخصياً لهذا الكتاب غير الجديد إلا بموعد نشره، ولشخصه الكريم بكل نتاجه الغزير، فقد جاء فيه:
«لا يملك غير أوراقه. كتاباته بمنزلة أولاده. هذا الكتاب هو الأعز، لأنه قد يكون دليل إثبات أو شروعاً في بيّنة. قد أكون شاعراً بالقوة، ولست شاعراً بالفعل.. أي أنني شاعر بالشوق الشاعري والدهشة».
في الكتاب الجديد استعادة لما كتبه السيد هاني فحص، بعد مقدمته عن حكايته مع الشعر، حكاية مع كمال جنبلاط ثم نجوى المطران خضر، حواء الحوماني، فؤاد سليمان، شوقي بزيع، محمد علي شمس الدين، محمد الماغوط، غسان مطر، نجابة الأصل وآل جمال الدين مهند ومصطفى، سعيد عقل وسليمان العيسى، وحديث عن غواية الشعر.
وقد اخترت هنا أن أنشر مقاطع من مقال كتبه السيد هاني فحص عن كتاب الزميل أنطوان سعد عن غبطة البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير:
«بين الكتاب والمكتوب عنه أوله، أعني عنا ولنا، أعني للبنان مفارقة، فبمقدار ما نجح أنطوان سعد في إتحافنا بالحلي التي وقع عليها أو تنزّلت عليه، من كنز بكركي، أثار شكّنا في إمكان أن تكون هذه الوقائع المسجلة، مضافاً إليها أضعافها، وافية، وإن تكن وفية… أو قادرة على رصد يتعدى التقرير ليقترب من منابع الشعر في فضاءات الغبطة، ومناخات النيافة. وإنه لمعذور أخونا أنطوان، لأن همّته العالية أغرته بالمحال، فبدا كمن يسعى لأن يدخل الدنيا في بيضة، من دون أن تكبر البيضة أو تصغر الدنيا… إنه العجز في ذات الموضوع، لا فيك يا أنطوان، وإن أثبتّ أنك أكثرنا قدرة على الاقتراب أو مساورة الأبواب، ويكفيك أنك بدأبك وحبك قد أغريت الجوهر البطريركي بالبوح بمكنونه…
والحق أقول لكم، ليس كل ما يلمع ذهباً، أما هذا فإنه ذهب فتعالوا وتزيّنوا وامتلئوا نعمة، خذوا لأبنائكم قلائد، ولبناتكم أساور، ولغد لبنان احتياطياً وفيراً.. وإن أسرف السفهاء في تبذيره.
أدرك عناء أنطوان سعد في اختيار وجمع غلة من بيدر بكركي، فماذا يأخذ وماذا يترك؟ وإلا صار الكتاب مكتبة! والرجل، البطريرك، هذا اللبنان. جبّة تدثّر المدينة ومدينة ترتدي جبّة، وتطرّز حواشيها بألوان المزارع ومواويل القرى… وطابية يتعرف فيها الرأس الرافع المرفوع، فكراً، فتهب رياح لبنان رخاء لواقح، من جهاته الأربع تنقل إلى الدنيا فوحاً يجلب النعاس ويغري بالنوم، لولا أن لبنان لا ينام ولا ينام مار نصر الله بطرس صفير…
… وليعلم الكريهون الذين يصنعون الكراهات، أننا، أعني أهل المحبة، لن نكف عن تخزينها والجهر بها، وإن زدنا فللتعويض عما فاتنا، وتطهير أطراف ثوبنا الديني مما علق به من نجاسات، لدى مرورنا سهواً أو عمداً في مستنقع الحرب، نريد أن نصنع سلاماً، بصمتنا وكلامنا، ومن صومنا وصلاتنا، إلى كربلاء والجلجلة، ليتبارك الآتي دوماً باسم الرب، ونتبارك ببركته.
ثم إني لست على استعداد لأن أبقى تواباً، أكتشف بعد فوات الأوان قيمة رجالات نَجَلُهم لبنان، تنام مطمئناً على مساحة الاتفاق معهم، وتستيقظ على الحقيقة في مساحة الاختلاف فتزداد شوقاً إلى المعرفة والحق والحرية.
هؤلاء الشهود، يأتون من غيب الله ليصبحوا حضوراً مترعاً، نحضر به في لبنان ويحضر به لبنان فينا.
ومهما نقل فيهم، فإننا لا نفعل إلا أن نكتشف الجمال في عيني البطريرك صفير… والحكمة في قوله وفعله… وإني لأرجو الأبعدين والأقربين ومن يتذرعون بغبطته، ومن يقتدون، من يوافقونه ومن يخالفون، أن يدلّوني على خصم له أو مختلف معه لا يجلّه!! ولا يسعى إليه طلباً للسداد؟».

سماح إدريس يكشف ما خلف الأبواب المغلقة

أعترف بأنني متعصب لآل سهيل إدريس، رجالاً ونساءً، الكتّاب منهم ومن يعطي الكتاب والكتّاب بعض عمره ومعظم اهتمامه.
ولقد بدأت علاقتي بالراحل الدكتور سهيل إدريس روائياً مميزاً اصطحبني، عبر قراءته، إلى باريس، وأنا فتى غر، فعرّفني إلى «عاصمة النور» كما كانت تُسمى، بأحيائها الجميلة، والحي اللاتيني بالذات، ومناخاتها الثقافية، لا سيما ما يتصل ببعض الدارسين العرب فيها والذين يهتمون بأمور كثيرة أعظم حيوية من الدراسة، فيها.
ثم إن سهيل إدريس وعبر «دار الآداب» قد عرّفني ومعي جيلي والجيل الثاني وربما الثالث، إلى كبار الروائيين والكتّاب والشعراء العرب، ثم إن مجلته الممتازة «الآداب» قد صنعت بعض وجداني وصححت بعض أحكامي على ممتهني حرفة الكتابة عبر دراساتها والمقالات النقدية والقصص القصيرة والتجارب الشعرية.
بعد احترافي الصحافة، تسنى لي أن أعرف الدكتور سهيل إدريس شخصياً، وأن أقترب منه عبر تجربة محددة: كنت أشغل «منصب» مدير التحرير في مجلة «الأحد» لصاحبها الراحل نقيب الصحافيين في ما بعد، رياض طه، حين طُرحت علينا فكرة أن ننظم مسابقة في القصة القصيرة مفتوحة لكل الشباب العربي ممن يجرّبون اختراق عالم المشاهير المقفل على أصحاب الأسماء اللامعة. وافق الدكتور سهيل على الفكرة، وساعدنا على اختيار المحكّمين. تلقينا مئات من القصص، بالتأكيد أكثر من ألفين. وتوزع أعضاء اللجنة المحاولات الكتابية الواردة، ثم تلاقوا فاختاروا الفائزين وكانت المفاجأة أن الثلاثة الأول من شباب سوريا (وكانت آنذاك الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة)… أما المفاجأة الثانية فكانت أن بين الثلاثة صبية.
أُعلنت النتائج واستضفنا الفائزين الثلاثة في بيروت: غادة السمان، زكريا تامر وياسين رفاعية…
أقمنا حفلاً في مطعم «غروت أو بيجون» في الروشة، على شرف الفائزين، وقبلهم على ضيف الشرف الكاتب الجزائري الذي لا يعرف اللغة العربية مالك حداد… وأذكر أنه بعدما استمع إلى خطب التكريم انفجر باكياً ثم تقدم إلى الميكروفون ليطلق اعتذاراً أبكانا جميعاً: لا تواخذونيش خويا ما نعجمش نهدر بالعربية.. لذلك سأتحدث بلغة عدوّنا القومي الفرنسية!
مرت الأيام، وتوالى إنتاج سهيل إدريس، وتدفق نهر النشر من «دار الآداب» مقدماً إلى القراء العرب إبداعات جيلين أو ثلاثة من الروائيين والشعراء العرب، في حين كانت مجلة «الآداب» تتابع دورها الريادي في الحقل الثقافي بنشر الإنتاج، قصصاً وقصائد ونقداً وأبحاثاً أدبية…
… لقد أطلت التقديم، لكنني لا أستطيع مباشرة الحديث عن سماح إدريس وروايته الشبابية الجديدة من دون أداء التحية لهذه الأسرة، لا سيما بدور السيدة إدريس وكريمة سهيل إدريس ومعهما سماح في حماية «دار الآداب» ومجلتها، وإن حوّلها سماح إلى إلكترونية هاجراً الورق وكلفته العالية في زمن مغادرة الشباب إلى وسائل التواصل الحديثة التي يرى البعض أنها تحرم القارئ متعة احتضان الكتاب (والبعض يبالغ فيقول: ومتعة أن نسمع نبض الكاتب وأنفاس أبطال الروايات وحفيف ثيابهم وهم يتقاربون للعناق أو زفرات غضبهم نتيجة خيبة الأمل أو هجران الحبيب) إلخ..
المهم أنني استمتعت بقراءة رواية سماح إدريس الجديدة «خلف الأبواب المغلقة» التي عرّفتني إلى حقيقة أن وسائل التواصل الحديثة قد احتلت مكانها الثابت في «لغة» أجيالنا الجديدة وأن تجاهلها أو «ترجمتها» بكلمات جيلي قد غدت مهمة شاقة.
بديهي أن تكون الفيسبوك والواتس آب والآي فون بين «أبطال» هذه الرواية وهم مجموعة من الطلاب الثانويين الذين يستعدون لامتحان الدخول إلى الجامعة، بكل حكاياتهم وبدايات قصص الحب في ما بينهم، بما فيها الخيبات أو الغلط في العنوان… وهو قدّم مجموعة من النماذج، في الشخصيات كما في القصص، بعضهم طريف إلى حد الاستعانة بالبصارة وبعضهم الآخر يستشعر الغصة لأنه يحب من لا يحبه، وبعضهم الثالث يحاول الإفادة من تجارب الآخرين ممن هم لديهم الخبرة… وهو يجري، من غير أن يقصد، تمريناً على من يأخذه الواجب العائلي إلى دراسة ما لا يرغب فيه من التخصصات ولو كرهاً، ومن يرفض الانصياع لرغبات الأهل ونزعة التباهي بالأبناء وطموحهم إلى أن يستمتعوا بألقاب الدكتور أو البروفسور وقد استحقها فلذات الأكباد فلم يبقوها حصراً على أبناء النعمة.
طبيعي والحالة هذه أن تدخل «البصارة» الميدان فتكشف الحجاب عن عيون العشاق الذاهبين في الاتجاه الخطأ، وأن تتدخل العلامات التي لا تؤهل لدخول الكليات العلمية في تنبيه الطلاب إلى ضرورة التوقف عن العبث واتخاذ القرار الشجاع، بالإعلان عن رفضهم أن يهدروا أعمارهم لدراسة ما لا يحبون وبالتالي ما لن ينجحوا فيه.
هي رواية معدودة الصفحات تعكس جواً شبابياً مليئاً بالحيوية ومن دون بطل أول، بل هي «متعددة الأبطال»، إذا جاز التعبير، ومع اختصار في الحكايات وتداخل بين الشخصيات ولجوء إلى عدد ملحوظ من الأغاني الشعبية (بالعامية طبعاً) لمطربي ومطربات المزاج المطعّم بنكهة الغناء الغربي سريع الإيقاع، والمباشر إلى حد كبير في التعبير «ريتم العصر».
تكشف الرواية، في ما تكشف، الاهتمامات الشبابية عند سماح إدريس، كما تؤكد انتسابه إلى «هذا العصر» وشبابه الذين «لا جلد» لهم على قراءة «الكتب السميكة» أو الجلوس في مقاعدهم لساعتين أو أكثر لسماع أغنية لأم كلثوم مع الإعادة والتجويد والآهات.
إنه العصر، وليس مجرد الفارق بين الروائي الذي لم تكن مهنته غير القراءة والكتابة و«الإبن» الذي له اهتمامات عديدة ليس أولها تقدم التظاهرات ولا آخرها الدفاع عن الحقوق المدنية فضلاً عن المطالب العمالية والنقابية عموماً.
… وها هو في رواية «خلف الأبواب المغلقة» يدافع عن الطلاب الذين يُكرهون على دراسة ما لا يرغبون فيه من التخصصات.
على أن شخصية «البصارة» تلمع في الصفحات مؤكدة امتداد الماضي في الحاضر والخبرة الأبدية في كشف العاشقين!

مهدي منصور يكتب إلى التي لا تجيد القراءة!

ربما يستعجل مهدي منصور الكشف عن ملامح الذاكرة المقبلة، مع إصراره على الكتابة إلى التي لا تجيد القراءة.
في ديوانه الجديد قليل الصفحات كثير القصائد لا حزن للوقت يكفي للبكاء على وجع البحر وإن كان فيه متسع للتشيللو وقوسه الوحيد… ولكن فيه بعض الاستعادة لزمن الطفولة والصغار الذين يغنون في آخر الحي والذين لم يعرفوه وهو الذي تعثر بالعمر في طابق مهمل وكل يوم يغني لهم:
«ليتهم يسمعون صدى وحشتي الآن.. ليتهم يعرفون بأني أغني لهم معهم
«وأصلي وحيداً.. أصلي كي لا يصيروا كباراً ولا شعراء..
«أصلي وحيداً إذا ما رفاقي الصغار أرّقوا أشجاني بأحلامهم..».
يرنّ وجع الحزن في معظم قصائد الديوان الذي أفترض أن مهدي منصور قد استعجل إصداره، ربما بدافع تقديمه إلى بعض المهرجانات التي تنظمها الرغبة في «فرض» عواصم جديدة للأدب أو للنشر عموماً، ولإطلاق مواهب متعددة قبل أن تنضج تماماً فتعطي أفضل ما قدمته التجارب من مرارات ودروس، ومن صقل للموهبة كالتي عند مهدي.
«وأنت على قارب أغنية في دمي/ مشّطي تعب العمر في جسدي/ واستريحي لديّ/ فأنا في غربة/ لو تعلمين كثير زماني عليّ/ واقلبيني كما ساعة الرمل/ فالحب من شدة الشوق للدرب/ غادر قلبي إلى قدميّ».
غني شعر مهدي بالصور، والكلمات تكاد تذوب رقة ويأخذها إلى «لا حزن للوقت يكفي/ ولا كل قلب له بين ليلين صبح
أنا لست إلا الذي لن يكون/ ولا شيء/ لا شيء عندك أورث عينيك/ إلا قليلاً من الأغنيات..».
رقيقة لغة مهدي، جميلة صوره برنة الحزن المبكر فيها، ورؤاه تخيّم عليها مرارة ثقيلة، مع أن نهر الحب يتدفق رقيقاً مع افتراض أن «لا شيء يرافقني أبداً غير الوقت/ وهو الآخر حين سيوقفني العالم/ سوف يتابع أحلامي دوني..».
ليست الأيام نرداً كاذب الأرقام، دائماً، يا مهدي، وليست الأحلام مجرد «غد مضمحل».
وها أنت بين «المميزين» وحائز جائزة لجنة تحكيم أمير الشعراء وجوائز أدبية أخرى.. فأين النرد الكاذب وأنت «مهدي» و«منصور»؟!
أَكثِر كتابتك إذاً إلى التي لا تجيد القراءة، إذا ما افترضت أن تلك هي اللغة الأسرع في الوصول منك إليها أو العكس.

تهويمات

من شاركك عمرك فله الحق في مشاركتك أحلامك. افتح باب الحلم تجده فيه وهو من يسمح لك بالدخول إليه، فإن منعك عنه فابحث عن الخطأ أو التقصير فيك.
يمكنك أن تتحمل أقسى ما في الحياة إذا ما تيقنت أن لك شريكاً في همومك. شركاء الأفراح لأفضل لهم لأن الفرح يستدعي من لا يعرفك ولا يهتم لأمرك. إنه يأتي إلى الفرح وليس إليك.
قالت: أسمعك تغنيني قصائد حب قد تعني الجميع.
قال: غناء الحب مشاع لكل من في صدره قلب ينبض، لكن عاشقك وحده يعرف أن الرسالة موجهة إليك. إنه يسمعك برفيف عينيه وخفقات قلبه وسرعة تنفسه وبحثه عمن يقول له: إياك يعني… فإن لم يجد من يفسر له المعنى زاد فرحه، لأنه وحده من تلقاها.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تخترْ حبيبك بالمفاضلة بين من عرفت فصادقت ونادمت وقرأت عينيه وأطربك صوته.
حبيبك يسقط عليك، فجأة، من فوق، يطلع إليك من جوف الليل، يشرق به صباحك ويمنحك لغتك، فإذا هو فيك ثم تكتشف أنك فيه مع أول همسة.

Exit mobile version