طلال سلمان

هوامش

صادق النابلسي يرجع إلى «أمة موسى الصدر» ليشهد «قيام طائفة»

لكأنه خُلق ليكتب هذا الشيخ الدكتور صادق النابلسي.. فعقله لا يتوقف عن التفكير وقلمه لا يغادر الورق إلا للصلاة وبعض الواجبات التي لا يمكن إرجاؤها أو إلغاؤها، وهو العالم ابن العلامة في الفقه وموجبات الدين الحنيف. من هنا إن كتبه تعرض لما غادره غيره من البحاثة، فينقب ويدقق بحثاً عن الجديد والمختلف أو عما يتوجب إكماله وتوضيح خفاياه أو مراميه… ثم يتفرغ بعد ذلك للشعر أو ما يقاربه، غزلاً رقيقاً وعشقاً للحياة والصبا والجمال.
آخر ما أنتجه الشيخ الدكتور كتاب مثير في موضوعه وفي المقاربة المختلفة عما سبقها، كما يدل عنوانه: «قيام طائفة ـ أمة موسى الصدر».
يتجاوز الكتاب الجديد عن «الإمام المغيّب» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في حضوره الباهر الذي أحدث تطوراً خطيراً في الحياة السياسية اللبنانية، والعربية إلى حد ما، من دون أن ننسى أثره الإيراني، ثم في تغييبه المفجع الذي ما زال حتى اليوم سراً مغلقاً بالرغم من تسليم الجمهور بأن ثمة دوراً ملتبساً للقائد الليبي الراحل مقتولاً معمر القذافي ونظامه الاستثنائي في تركيبته في هذه الجريمة الغامضة. وبديهي أن غموضها المتمادي حتى اليوم قد استدر ما لا يُحصى من التقديرات والتفسيرات والاستنتاجات، بعضها ما يتجاوز حدود ليبيا ليلامس مجمل القضايا والصراعات التي كانت مفتوحة في لبنان السبعينيات. فذلك كان زمن المقاومة الفلسطينية المسلحة التي كانت قد استقرت في هذا الوطن الصغير الذي يتسع للدنيا جميعاً، بقدر ما كان يشهد واحدة من ذرى الصراع الداخلي حول النظام السياسي في لبنان القائم على مرتكزات طائفية لها من أوجدها ولها من يحرسها ويؤمّن دوامها… ثم إنه كان زمن الاجتياح الإسرائيلي الأول الذي شمل معظم الجنوب بذريعة الرد على المقاومة الفلسطينية.. كما كان زمن الدخول السوري، عسكرياً وسياسياً إلى لبنان بكل ما ترتب عليه من مواجهات وصراعات اتخذت أبعاداً عربية ودولية قبل أن تستقر ـ مؤقتاً، وكالعادة ـ على صيغة محددة سوف تأتي الأيام بما يعدّل ويبدّل فيها وينسفها تماماً، كما حدث مع الاجتياح العسكري الإسرائيلي الأوسع الذي بلغ بيروت وأشرف على انتخاب رئيس جديد للجمهورية اغتيل قبل أن يصل الى القصر.
يمشي الشيخ الدكتور صادق النابلسي مع الإمام المغيّب من لحظة ولادته في إيران ونشأته، وهو ابن بيت علم بل مرجعية دينية، إلى العراق لإكمال دراسته في النجف، حيث للعائلة الموقع المميز علماً ومكانة، إذ توارثت المرجعية الدينية ثمانية قرون، مقترباً من فكر أحد المجدّدين في العلوم الدينية وأحد أبرز من فتح الطروحات الدينية على العصر، فكتب في الاقتصاد ـ أي في جوهر السياسة ـ وفي «فلسفتنا»، وقد ارتبط اسمه بحزب «الدعوة الإسلامية» تنظيماً وتنظيراً ونشاطاً سياسياً فاتحاً أملاً كبيراً بتدشين تاريخ جديد من الحرية والعدالة في العراق… ولقد كانت الفترة التي عايشها السيد محمد باقر الصدر من أكثر الفترات خصوبة وإثارة في تاريخ العراق السياسي، إذ شهد تصاعد الحالة القومية وقيام دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة في شباط 1958، ثم انفجار العهد الملكي في العراق بالثورة في تموز من السنة ذاتها، وسطوة الحزب الشيوعي واكتساحه الساحة العراقية.
بهذا المعنى فقد جاء الإمام موسى الصدر إلى لبنان داعية ومؤسساً لحركة أكثر منه رجل دين أتى ليبتعد عن العراق المضطرب، أو عن إيران التي وُلد فيها واجتهد في أن يكون قريباً من آية الله الخميني وسائر المراجع المستنيرين الذين وقفوا ضد شاه إيران ونالهم منه أذى عظيم.
استغرقت الرحلة من صور حيث احتضنه الإمام عبد الحسين شرف الدين إلى بيروت سنوات طويلة من التبشير والتحريض وصولاً إلى الدعوة الصريحة لحمل السلاح بمقولته الشهيرة «السلاح زينة الرجال» وإطلاقه «حركة أمل»، وصولاً إلى دفعه الشباب إلى التدريب على القتال استعداداً لمواجهة العدو الإسرائيلي.
وعبر هذه الرحلة كان الإمام الصدر قد انتزع الاعتراف بالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى موفراً مرجعية شرعية للطائفة التي كانت قد استشعرت قوتها والغبن اللاحق فيها، خصوصاً وقد كان مشروع المرجعية الموحدة للمسلمين في لبنان سنة وشيعة ودروزاً قد أُهمل ثم اندثر… وهكذا اندفع في معركة تأكيد الحضور الشيعي وحقه الطبيعي في أن يكون «شريكاً» كامل الحقوق للطوائف الأخرى، إسلامية ـ السنة، والمسيحية بالقيادة المارونية.
ولقد وجد الإمام الصدر رعاية مميزة في هذا المسعى من أهل النظام السياسي في لبنان، مما رأوا فيه تثبيتاً للصيغة الطوائفية، مما يعززه ويديمه.
يرافق الكاتب الإمام الصدر في رحلته المضنية هذه بكل الصعاب التي واكبتها والتي شملت حملة تشهير به، داخل الطائفة، قبل أن تتوضح صورته عبر المواجهة المباشرة مع المرجعيات والقيادات، دينية وسياسية.
ولقد توطدت هذه المكانة وترسّخ دور الإمام الصدر كمرجعية عليا، دينية وسياسية واجتماعية للشيعة في لبنان، خصوصاً وقد رأى فيه النظام سنداً مؤثراً يعزز التوازنات فيه… وقد شجعت سوريا حافظ الأسد هذا الدور، خصوصاً بعدما أثبتت حركة أمل وجودها كتنظيم سياسي فاعل بفضل هذه الشخصية باهرة الذكاء وعظيمة التأثير في حضورها.
وبرغم حرص الشيخ الدكتور على السرد التفصيلي لحياة الإمام موسى الصدر في مراحلها المختلفة، من إيران الشاه ومعارضته التي كان رجال الدين بين أبرز قياداتها، ومن هنا علاقته الخاصة بالإمام الخميني قبل نفيه إلى العراق حيث استقر في النجف لأربع عشرة سنة قبل أن يعود منتصراً بالثورة على الشاه، وصولاً إلى العراق لإكمال دراسته، ثم عودته ليستقر في لبنان، فإن تعاطفه مع هذا القائد السياسي بالثوب الديني والثقافة الواسعة والذكاء الحاد والقدرات التنظيمية المميزة، يبدو واضحاً من خلال كل صفحة في هذا الكتاب السفر.
ويصل هذا الكاتب الذي قلّده العمامة السيد حسن نصر الله في العام 2003 إلى الاستنتاج أن «ما يجري الآن في المنطقة يفسر دوافع تغييب الإمام موسى الصدر مع بروز دوره الكبير في المشهد السياسي الإقليمي».
وهكذا فقد تنقل الشيخ الدكتور صادق النابلسي في كتاباته ما بين الفاتيكان الذي وضع كتاباً مميزاً عن تاريخ الصراعات السياسية فيه، والشعر في كتاب جمع فيه بعض قصائده النثرية، وصولاً إلى هذا السفر حول «أمة موسى الصدر»، حيث لعب الإمام الصدر دوراً حاسماً في «قيام الطائفة».

في تحية الرفيق الصديق، الرقيق والأنيق: محمد كروب

… ولقد كنت المحتفي بنا والاحتفال، وكنت الحادي والدعوة، وكنت الذاكرة وقارئ التاريخ بدور الشعوب في صنعه وإن غُيّبوا في تلافيف أثواب حكّامهم.
كنت بعينيك الصغيرتين ترى الحلم فتدخله وتبشّرنا بغد أفضل تعرف أنك لن تكون فيه، ومن هنا اطمئنانك إلى أنه سيتحقق لغيرك، مما يملأك زهواً.
كنت الشيوعية خارج حزبها والعروبة خارج تنظيماتها والوطنية خارج الزجل الذي يجعل اللبنانية أممية ولا وطن.
… وأنت ابن جبل عامل الذي رفع راية الثورة على الاحتلال والانتداب، والذي أعجزته دولة الاستقلال عن مقاومة العدو الإسرائيلي… ومع ذلك عشت حياتك مقاوماً للظلم والعسف، سواء أكان مصدره الخارج أو الداخل الذي يستبطن الخارج.
كنت الشعر خارج الديوان والبطل خارج الرواية.
أيها الخارج من الطريق إلى «الطريق» بينما ضاع غيرك بين الزواريب أو الأوتوسترادات المعلقة على أفكار الغير لمجتمعات غريبة تختلف تجارب شعوبها في زمنها وفي استهدافاتها وفي سياقها التاريخي.
أيها الذي جاء من البحر ماشياً فوق الكلمات، وسافر في قلب الكتب يصطاد المعنى، فإذا الفقراء هم كلمة الله وإذا الله يسكن فيهم وليس في المعابد، وإذا هم يصنعون الزمن بعقولهم ومعاولهم وليس باللحى المشعثة ورصاص إعدام المؤمنين.
أيها الذي وُلد فقيراً وعاش فقيراً ومات فقيراً من دون أن يغادره الشك بأنه أغنى الأغنياء: فهو قد كتب بماء عينيه عن الذين أغنوا الإنسان بالفكر رواية وقصة وبحثاً، شعراً ونثراً… ومكتبته كنزه، وصداقاته مناجم ثقافة هدفها سعادة الإنسان وتحريره من إذلال ديكتاتوريات السلطة والثروة والجهل البطاش.
أيها العاشق الأبدي للجمال… تتأبط ذراع كل حسناء جديدة تصطادها بأناقتك وتدور بها على أصدقائك متباهياً بشبابك الذي لا يشيخ وبأنه إن كان للسنديانة الحمراء عشاقها ومريدوها فالأهم عاشقاتها اللواتي يقطعن البوادي والقفار بلهفة المسحور للقاء ساحره.
أيها الذي عاش الشعر ولم ينظمه وعاش في قلب الرواية ولم ينجز كتابتها، وذاب في الأغنية الرقيقة التي لم يجرب أداءها وإن هو قد أهداها إلى من يحب.
أيها الماكر بالعينين الصغيرتين الضاحكتين سخرية من انشغال الآخرين بالهموم الصغيرة، بينما هو يستمد تفاؤله الأبدي من التاريخ ومن الإيمان بالإنسان صانع التاريخ.
يا ناشر البهجة في الجماعة وأنت وحيد، والمقاتل دفاعاً عن المعرفة وقد قبستها عن العارف حسين مروة الذي علّمنا جميعاً كيف نقرأ الدين والحياة، كيف نتوغل في الثقافة فتحمينا من غائلة التعصب بالجهل، وكيف نقرأ الناس فنحبهم حتى لو كنا نختلف معهم وعنهم، لأن الاختلاف حق وطريق إلى المعرفة.
… ولقد حكم القدر أن أكون بين آخر من رأوك وحاول أن يأخذ عنك بعض وجعك، وأن أسمع بعض أواخر ما كتبت شفاهة عني في الملف الخاص من «الطريق» الذي أكرمتني به وشاركك في التكريم نخبة من أهل القلم، كتاباً وروائيين ومفكرين وشعراء يتبعهم الغاوون وأنت وأنا من بينهم. ولقد كتب العديد منهم في «الطريق» ولها لأنك حرصت على أن تكون هذه المجلة الرائدة للحزب ولكنها ليست حزبية، وأن فيها مساحة واسعة للاختلاف يتلاقى فيها أصحاب الاجتهادات جميعاً لأن الفكر تقتله الأحادية ويغتاله الانغلاق ومجافاة المختلف. وما قيمة الأفكار إن كانت امتيازاً شخصياً لأصحابها وليست مساحة للحوار المبدع بين المختلفين من أجل المشترك اللازم للغد الإنساني الأفضل.
لقد تعارفنا أيها البروليتاري بغير ادعاء في رحاب الفكرة البكر والكلمة المضيئة فصرنا صديقين على البُعد، ثم رفيقي سلاح في المعركة الواحدة من دون أن نخسر للحظة حبنا للأرض وإنسانها بغض النظر عن معتقده وأفكاره.
ثم عشنا صداقتنا دهراً ولو بغير لقاءات منتظمة.. وتقاربنا في المزاج وفي المذاق، وإن بقيت الأبرع في اصطياد الجميلات والأصرح في استبعاد الغلظاء وثقيلي الدم، وكنت مستعداً للتشهير بمن يلقي تحية الصباح على محظيتك واتهامه في وطنيته وفي صدق ولائه للأفكار التقدمية.
وكعادتك في كل ما أنتجت فقد تابعت التفاصيل وسعيت إلى من تريد لقاءهم حتى منازلهم وطاردت الكسالى منهم لتخرج «الطريق» بما يليق بجهدك وبتاريخ هذه المطبوعة الرائدة التي يعتبر من تنشر له أو عنه أنه قد حظي بتكريم خاص.
وهكذا قُيّض لي أن أشهد تعلقك بالحياة حتى النفس الأخير، وحرصك على إنجاز العدد الخاص كما خططت له وعملت على تنفيذه حتى وأنت في المستشفى بمساعدة الممتلئة بالشوق إلى المعرفة سارة ضاهر.
أيها الصديق الذي لم يحوّل الاختلاف الفكري إلى كراهية وعداء شخصي وعاش محباً للناس، كل الناس، مؤمناً بأنه قادر على التواصل معهم برغم التمايز في الموقف… فالأصل في الحياة هو الحب والأصل في الناس هو الخير، وما تبقى فهو طارئ أو رد فعل أو جهل أعمى لا يصح الرد عليه بمنطق «فنجهل فوق جهل الجاهلينا».
وداعاً أيها الذي جاء ماشياً فوق البحر ورحل محمولاً فوق أكف الرفاق الذين يقاومون إغراءات التقاعد ويواصلون كفاحهم وهم يعرفون أن الموج أعلى من أن يستطيعوا ركوبه وأن الغد أبعد من أن يدركوه، ومع ذلك يستمرون على الطريق ويحفظونك في قلوبهم.
وأختم بالتحية الى الحزب الشيوعي في لبنان الذي يواجه، مع أهله، موجة عاتية من الطائفيات والمذهبيات لعلها أعتى من الرأسمالية وأشرس، إذ لا يفيد الفكر في مواجهتها وهي الآتية من خارج العصر وتنوع الأفكار وصراع العقائد.. ثم إنها تكفّر المتدينين فكيف بالعلمانيين. ومن حظ محمد دكروب الماكر أنه غادر من قبل أن تصل إليه «داعش» ومشتقاتها تاركاً لنا مهمة المواجهة القاسية بين الفكر والتكفير، بين تجار الدين والمؤمنين بالإنسان بوصفه كلمة الله.
ومن سوء حظنا وحظ محمد دكروب أننا نجيء إلى هذا الصرح في الوقت الذي أفرغ فيه من روحه أنطوان حرب، لذا فالحزن عميق.
مع ذلك سنظل «على الطريق» ومع «الطريق» سعياً إلى أحلام بكر عنوانها الإنسان وحقه في حياة كريمة في وطنه وليس على حساب وطنه.
دكروب: في القاعة أكثر من حسناء من عشيقاتك، فهلا دعوتهن إلى العشاء، مع وعد بأن لا يزاحمك أحد منا عليهن.
أيها الرفيق، الصديق، الرقيق… والأنيق: إلى اللقاء.

(كلمة ألقيت في ذكرى الأربعين للراحل محمد دكروب)

تهويمات

^ في حلبة الرقص سقط الكلام صريعاً…
ربما لهذا السبب عجزا عن إتقان خطوات الرقصة…
.. ولاحظ الحضور أن الراقصين قد تجمدا تماماً والعين في العين فتنهدوا التمنيات وكل يدور بعينيه باحثاً عمن يأخذهما إلى الجليد الملتهب بينما ناره تلسع الحضور والعابرين.
^ قالت: ليس لي ما أهديك إلا الكلمات.
قال: تكفيني كلمة واحدة تقال بكل اللغات الحية التي أفصحها الصمت.
^ فجأة توقف المغني الحلبي عن شدوه الشجي.
قام الجميع إليه مضطربين، فرسم ابتسامة وقال من خلال دموعه:
ـ آسف.. ولكنني للحظة سمعت صوت حبيبي يهمس لي من البعيد الذي لا أستطيع بلوغه، فتوقفت لحظة ليسمع ردي بين آهين.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ علّمني حبيبي اللغات جميعاً عبر عينيه. أعرف متى يكون عاتباً، أو غاضباً، أو مشوقاً متلهفاً، أو مثقلاً بالحزن، أو مشغولاً عني بـ«طارئة» فيستدرجني إلى إغراقه في حبي حتى لا يرى غيري في حضوره والغياب.
ما أمتع القراءة في عيني حبيبي، وما أبعد المعنى، وما أرق أن أرى صورتي ـ وحدها ـ في حدقتيه.

Exit mobile version