طلال سلمان

هوامش

الفتى الوسيم يقتل الحياة ليطير إلى الجنة!

ليست صفحات الصحف منابع للدم المراق ظلماً ولا مصباً لانتشاره وجعاً للروح قبل العين.
الصحيفة، كما ترى نفسها، بشارة الصباح، أو هذا ما تطمح إليه تكمل ما يعجز عن إيصاله صياح الديك مبشراً بيوم إنتاج جديد، وتكاد تهتف معه بالناس: حيّ على العمل.
الصحيفة تنقل الأخبار ولا تصنعها، ولا تستطيع الاعتذار عن تقديم ما يسيء إلى كرامة الإنسان أو ما يؤذي العين ويوجع القلب.
وكثيراً ما ترى الصحيفة ذاتها كأنها «اوراق نعي» تنشر صور الضحايا، أطفالاً وأمهات وآباء مفجوعين، خارج المباني التي هدمها عصف التفجير أو داخلها، بينما هي تعطي صفحاتها للشعر والرواية والرسم والنحت والموسيقى والغناء وسائر وجوه الابداع؟
وكثيراً ما يختلط حبرها بدماء أهلها وعرقهم وهم يجتهدون في خدمة الحقيقة.
كيف تنقل خبر ذلك الفتى الوسيم الذي قرر ان يملأ الصفحات الأولى وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي بصورته مبتسماً قبل التفجير بينما تنتثر أشلاء ضحاياه، أطفالاً ونساء ورجالاً وحطام أصص الورد والياسمين، لتقدم انجازه في سبيل نصرة تنظيمه الذي قرر مصادرة الله وإصدار الأحكام باسمه عز وجل وتنفيذها في أي مكان، وكل مكان، ولو أحرقت أبناء الحياة من حفظة كتب الله وحملتها.
صورة الفتى الوسيم والطافح وجهه بشراً لم يتيسّر لنا أن نراها إلا بعد غيابه مخترقاً الحياة الدنيا في طريقه إلى الجنة التي ابتناها لأمثاله أئمة الدم.
صورة الفتى الوسيم تبشّر بأنه مقبل على حياته بشغف، بابتسامته الساحرة التي تلتمع معها عيناه بالبهجة كمن يمسك أحلامه بقبضة يده فيغزل منها غده المرتجى.
تستحيل الصورة، فجأة، قنطاراً من عبوات القتل ومسرحاً لجريمة جماعية تسحق ابتسامات الأطفال وتطفئ عيون الأمهات اللواتي يعشن على الأمل بالغد الأفضل الذي سيأتي به فلذات الأكباد، وقلوب الآباء الذين لم يعرفوا «الفتى الوسيم» إلا من الصورة التي رأوها بعدما غيّب صاحبها المبتسم وجوه أحبتهم الذين يصنعون فرح أيامهم.. وهو لم يعرفهم إطلاقاً بعد أن اغتال في ذهنه أباه وأمه وأجداده الصالحين؟
كيف يمكن أن تكون الأجساد الممزقة للفتية والرجال والنساء طريقاً إلى الجنة التي جعلها الله تحت أقدام الأمهات؟!
كيف يصيّر الهوس الإيماني الإنسان وحشاً يفترس النور والفراشات والحب والورد والآباء والأمهات والصبايا الواقفات على الشرفات يتطلعن إلى أحلامهن ليكتشفن موقعها في وجوه العابرين أو الذين على وشك الوصول؟
كيف يقتل الفتى الوسيم الورود التي تزيّن الشرفات وتمنح عطرها للعابرين؟
كيف يطلق نار الجاهلية على الذاهبين إلى الصلاة فيغتال الدين بعدما صيّره سلاحاً للقتل الجماعي… قتل الناس الذين لا يعرفهم ولا ناله أذاهم؟
كيف يغتال الفتى الوسيم الحياة وأبناءها والأمنيات التي ترفرف في الأفق، والأهل ينتظرون صهريج المياه ليشتروا الماء في بلد الماء؟
كيف يحوّل الذين يتزيّون بأردية الدعاة الدين إلى محرقة، ونعمة الحياة إلى جهنم وقد نصّبوا أنفسهم ديّانين وأشعلوا النار في سجادة الصلاة وأحرقوا «القبلة» واغتالوا المؤمنين في المساحة بين أذان الفجر وأذان الظهر؟
الفتى الوسيم المندفع بابتسامته الساحرة أحرق الدين واتخذ دماء المؤمنين طريقاً إلى الله بينما الله يقيم في دماء المؤمنين.

شوقي بزيع يتريث كي نلحق بأعمارنا

عند بوابة ديوانه العشرين أطلق شوقي بزيع «فراشات لابتسامة بوذا»، لكن ضلعاً في القصيدة ظل ينقصه، ولهذا فسوف يعيد تهجئة الرموز كما يليق بهذه الفوضى، «ولربما من خلف ظهر الموت ألفت القصيدة نفسها ولربما مر الشتاء ولم يجدني».
يسرح شوقي بزيع مع تهويماته التي زيّنتها نجاح طاهر بغلاف جميل:
«تريث، إذن، يا صديقي/ لكي نستطيع اللحاق بأعمارنا/ وهي تنأى/ ونقطف هذا الحنوَّ الذي يتنسم إيقاعه/ من أشد العواصف نبلاً/ بأيدٍ يراها التعب».
وهو لا يفتأ يسأل عن سر العذوبة وهل يكمن في فكرة النبع أم في الوصول إلى النبع.. إلى أن يلتقي لمى في بلاد النعاس… ولمى هي مستقبل هذا الشاعر الذي كان يطارد الفراشات قبل أن تجيء لمى لتعطي «الديوان» رهافته وتعطي شوقي مرتبة الوالد:
«عينا لمى الحلوتان/ في الممر الشفيف لأحلامها/ تتمشى الغيوم كما تفعل القبّرات على التل/ واليرقات الكسالى تحرك أذنابها خلسة في الحياة الشحيحة/ كي تهجر لمى مفردات المكان».
وتؤثث عينا لمى جدولاً من مباهج في بلاد النعاس السعيدة/ تأتي إليه الثعالب/ قبالة قن الدجاج/ وتأتي إليه الجنادب/ كي تموّه بالشوك ألوانها/ ويهبط حتى تكاد تلامسه باليدين القمر».
وكلما أتعبت الحياة شاعرها يصعد نحو السماء «التي ألفتها مناماتها سلما سلما»… ولكنه يقفز من دون انتباه إلى الضفة الثانية للحقيقة:
«سئمت من القول للنهد/ يجمح كالخيل من خلف حمالة الصدر/ دعني وشأني ومد قفزي البهلواني فوق حبال الخداع».
ولأنه لم يستطع أن يذلل «هذا التناقض بيني وبيني»: «صرت أعشقني في الصباح/ وأنكرني في المساء/ وصرت ربيب المرايا/ التي تتخاطف وجهي/ صورة بوذا نبياً/ وصورة سوهارتا عاشقاً وأميرا/ وسميت بوذا حتى لا أكون أحد».
على أن شوقي بزيع يدور مع رؤاه أنّى استدار في القصيدة التي أهداها إلى شاعر اللون المبدع حسن جوني:
«ومن حيث لا أحد يتوقع/ يزداد نبض الزهور التي في العروق اتساقاً
ولو نحن لم نجد سلماً للصعود إلى منتهى اللون فلا بد «أن يهتف المرء: ما أجمل الشجرة».. وليس من حاجة لانتشال الصباح المهشم من كبوة الاخضرار/ ولا لتفشي الحرائق/ في حسرة الجسد الأنثوي».
تشتد المنافسة بين الشاعر باللون والشاعر بكلمات من أجنحة الفراشات «كيما ترفرف أوهامنا كالطيور»
هي مبارزة بين شاعرين، إذن، مجالها العين التي ترى ما لا يُرى.. العين التي تغزل الأحلام رؤى وأخيلة للذين ابتنوا بعشقهم جنات تجري من تحتها التهويمات وقد اكتست موسيقاها المنشية:
«ندور مع اللون أنّى استدار/ كعباد شمس/ ومن حيث يبري الظلام المنمّق/ للروح أقلامه/ تحت وهج الخطوط العنيف/ يجيء الخريف/ ليترك أوراقه الصفر فوق القماش/ ويبكي وحيداً على جنة من ذهب..».
حسن جوني رأى من ألوان الجمال ما يكفي لإعادة صياغة الحياة بيوتاً تبدو متناسقة مع أهلها، لا يرفعها الغنى بعيداً عن قدراتهم ولا يحرمهم الفقر من تقاسمها نوافذ وشرفات من ورد وعيون تلتمع بلهفة الشوق إلى الذي سوف يطل من طاقة تظللها ياسمينة وترف عليها الفراشات مترنمة بآهات الشوق إلى غد كلما ظننا أننا دخلناه ازداد بُعداً فارضاً علينا التحدي بأن نبنيه بالإبداع:
«ونسأل حيث الحياة تنحّي عذاباتها جانباً: أيكمن سر العذوبة في فكرة النبع/ أم في الوصول إلى النبع؟/ في الشكل أم في الموسيقى التي تدفع الشكل حد الطرب..».
ويحاول الشاعر الذي يرى ما لا يُرى أن يفسر الخطوط التي ترسم باللون أقدارنا والوجوه:
«وفي جريان الزمن السريع/ يمر الرمادي فوق ضباب المصائر/ مر الغمام/ هنا لا نوافذ مرئية كي نطل على حيرة اللون في يتمه/ والجمال الذي يتلألأ ريان/ في بقع الزيت/ أوسع من أن نفسره بالكلام».
ولكنه يخاف أن يسبق الشاعر باللون الشاعر بالصورة فيناديه:
«تريث إذاً يا صديقي/ لكي نستطيع اللحاق بأعمارنا وهي تنأى
«ونقطف هذا الحنوّ الذي يتنسم إيقاعه/ من أشد العواصف نبلا بأيد براها التعب…».
.. وها هي الديوك تنقر الفجر كي تستفيق البراءة من نومها المضطرب..
وها نحن ندور مع اللون أنّى استدار كعباد شمس/ ومن حيث يبري الظلام المنمق للروح أقلامه/ تحت وهج الخطوط العنيف/ يجيء الخريف/ ليترك أوراقه الصفر فوق القماش/ ويبكي وحيداً/ على جنة من ذهب».
إنها مباراة شيقة بين مبدعين: ريشة تستمد من العين إبداعها باللون الذي يأخذ إلى النشوة، وقلم يغمسه شاعره في رؤاه التي تعيد صياغة الكون عبر إنسانه النبيل في الصورة الأجمل.
… ولكن شوقي بزيع ما زال في المحطة حيث يهم قطاران بالسير كل إلى جهة.. وهو سيقصد بالتأكيد «حيث ترعى النساء الوحيدات خلف النوافذ صوت انزلاق الحياة التي تتسرب في وهج القيظ مثل صبا آفل..».

لينا هويان الحسن تروي المرأة التي لم تندم على شيء

من بادية تدمر إلى دمشق فبيروت قرأت لينا هويان الحسن «ذاكرة الرمال».. وها هي تندفع إلى باريس لتقرأ فيها وعبرها «نازك هانم» التي اقتحمت جان بول سارتر وامرأته التي لم تكن امرأته سيمون دي بوفوار، وبيكاسو الذي جلست أمامه ليرسمها عارية قبل أن تقصد إيف سان لوران لتصير عارضة أزياء مدهشة تاركة الدراسة في السوربون لتتسكع بين الشانزليزيه والسان جرمان عابرة مقهى فلور وبار الكوبول والسان جرمان راقصة مع «البيتلز»، وارتدت الميني جوب وشربت الويسكي حتى السكر فأصبحت شبيهة بريجيت باردو.
تخترق بك العوالم من البادية التي كانت تحمي دولة زنوبيا في تدمر من هجمات الزاحفين من بلاد الثلج إلى بلاد الرمل والريح عبر دمشق التي كانت تبدل رؤساءها كما تبدل ثياب النوم، إلى العاصمة الفرنسية المتوهجة، حيث أمضت «نازك هانم» المتبدلة، المتحولة، المتقلبة في مزاجها، الآسر جمالها والتي لا تفعل إلا ما تريد أن تفعله خارجة على قواعد السلوك والتقاليد في تحد مفتوح للذات قبل الآخرين، وعبر انقلابات قد تفاجئ بها ذاتها ولكنها تمضي بها وكأنها قررتها منذ ولادتها.
يشدك التوصيف الهادئ لعواصف الحب والكراهية، الغيرة والطمع، الجنس والحب، الطقوس والعادات المحطمة بالقصد… وتتابع انسياب الرواية بشخصياتها المتنوعة متعددة المنابت بمن فيها من عرب وأتراك وفرنسيين ومتحدرين من أنساب مختلطة، يتحركون على سن قلمها فيتحاورون ويتخاصمون، ويحترقون في أتون الجنس ثم يفترقون وقد ضاعت منهم المواعيد إلا ذلك الموعد القدري مع رصاصات الغيرة القاتلة في دمشق متعددة الأسماء التي تكشف مجرى التاريخ وتحولات أهلها.. فهي جيرون وجلق وتيماشكي ودامسكينة وهي دم شق أي دم هابيل الذي شق الأديم لأول مرة وبدأت معه سيرة القتل التي لا نهاية لها.
تروي لينا هويان الحسن حكاية المرأة التي لم تندم على شيء، «نازك هانم» إذ هي لم تترك الماضي يمر دون أن يترك أي أثر؟! أن تفعل امرأة ذلك فهذا هو الجبن بعينه وهي الهزيمة الكبرى أمام الرجال.
إنها حكاية تلك التي كانت «فضيحة تمشي على قدمين»، وقد التقاها مجيب شان، الأسمر مربوع القامة حين كانت تمشي كموديل في أروقة إيف سان لوران، فقام بدعوة الأثرياء إلى قصره في سان دونيس، الضاحية التي فيها مقبرة ملوك فرنسا القدماء، وهناك أطلق سرباً من العارضات الفاتنات في غابة القصر.. ولكن سها عن باله ربط كلاب الحراسة، ولك أن تتخيل المشهد.
ولقد كانت لمجيب شان عشيقة جزائرية فارعة الطول، جميلة إلى حد السحر، لكنه وجد «نازيك هانيم»، كما كان يسميها «فاتنة إلى حد الألوهية»… وهكذا طلبها فشاركته الفراش عشر سنوات، وكان يكرر على مسمعها حكمته الخاصة: «البعض يجن من السعادة، والبعض الآخر من التعاسة، وبعض ثالث يجن من الخجل فانتبهي من جمالك يا نازيك هانيم».
بعد رحلة باريس عادت نازك هانم إلى دمشق وقد بلغت التاسعة والثلاثين من عمرها مثل «شهاب نزل من السماء» وتناولتها ألسنة النساء بالسوء. وهي كانت تقصد بلودان في سيارتها الفورد السوداء المكشوفة حافية القدمين وتدخل المنزل، مثل فضيحة تمشي على قدمين وهي ترتدي الميني جوب.
وعلى الطريق بين دمشق وبلودان، وعند النبع كانت قد اشتبكت مع كمال الذي سيلحق بها معتذراً عن فظاظته، وهو الرجل الذي ستعيش معه قصة الحب المجنونة التي ستبلغ ذروتها المأساوية حين تقرر أن تختتم الحكاية معه «علم أنها سوف تهجره أو تغادره نهائياً، وقد تعود إلى الخارج، فاتجه صوب شقتها الكائنة في حي الصالحية، وحين فتحت الباب كان يحمل شيئين الورد الأحمر والمسدس… وقد انتقم لكرامته من صمتها الذي يصرخ به، من ابتسامتها الزاخرة بالغرور.. هكذا هي سليلة الآلهة المتكبرين».
دفنت هذه المرأة التي شغلت الناس من حولها في تراب دمشق التي لا تنسى أهلها وتضفر الياسمين لعشاقها.
لم تترك نازك هانم الماضي يمر من دون أن يترك أي أثر.. فأن تفعل امرأة ذلك فهذا هو الجبن بعينه، وهي هزيمة كبرى أمام الرجل الذي يتباهى بنساء ماضيه، في حين أن على المرأة إنكاره واستجداء الغفران، هي التي لم تندم على شيء».
تهدي لينا هويان الحسن روايتها الجديدة إلى صديقتها هند بوظو..
وبعد قراءة الرمل في روايتها الأولى ها هي لينا هويان الحسن تقرأ واحدة من النساء التي لا تشبه إلا نفسها بينما يصعب على الرجال أن يشبهوا رجلاً واحداً.
ولينا تقرأ أيضاً المصائر والأقدار ثم تكتبها بلغتها التي تشترك فيها الكف والعين وفراسة أهل البادية الذين يرون أنفسهم أقدر من أهل المدن في قراءة ملحمة الصراع بين الحب والسيف.

تهويمات

÷ هدهد الشيطان حتى نام، ومشى متخففاً إليها. قالت من خلف الباب: عندي ضيف ولا أستطيع استقبالك.
وعاد مطأطئ الرأس تلاحقه قهقهات يعرف صاحبها!
÷ قالت متذمرة: أين نار الشوق؟ أين لهفة اللقاء بعد غياب؟ أينك مني؟ أينني منك؟ أيننا معاً؟ وهل نحن معاً، فعلاً؟!
ولم يكن أمامه غير إحراق الأسئلة بلهيب الشفتين.
÷ تريد المرأة أن تسمع كلمة «أحبك» كل ساعة، كل دقيقة، كل ثانية.. ولو ملكت أن تحمل مكبرات صوت في لقاءاتها الحميمة لما ترددت، فبعض الحب انتصار على الأخريات، والإعلان تأمين ضدهن مجتمعات. لكن حبيبي يحميني بحبه من غيرتي وينسج لي خيمة الطمأنينة من نور عينيه فأسكنها… على قلق!
÷ كتبت إليه تقول: أنت في غيابك حلم، في حضورك وهم، وليس لنا من أرض للقاء إلا المسافة بين تنهيدتين.

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعـــرف له مهنة إلا الحب:
ـ يأخذنـــي حبيـــبي من ذاتــي ويشرّدني في جنــان الشــعر، فإذا التنهـــدات قصائد، وإذا الهمســات مواويل، أما الكلــمات فتنبـــض بعشــق الحيــاة.
مشكلتي بعد اللقاء أنني أنسى اسمي فأستعير اسمه للتعريف عني… فإذا الكل يعرفون السر ولا يصححون أخطاء الهجاء!

Exit mobile version