طلال سلمان

هوامش

محمد دكروب يمنحنا ابتسامته الأخيرة

قلة قليلة واكبت «السنديانة الحمراء» في رحلتها الأخيرة قبل انغراسها في الأرض التي أنبتتها… وتراءى لي طيف محمد دكروب يطل من عليائه على الجمع القليل المختلف كثيراً في المواقف والأفكار، ويبتسم فتضيء الابتسامة وجهه وتلتمع عيناه بشيء من المكر: شكراً لكل تلك الحشود التي لم تأتِ للمشاركة في وداعي.
لم يكن ثمة رفاق سلاح يتزاحمون لحمل النعش الخفيف إلى حد أن يديّ طفل تكفيان لرفعه والسير به تلك الخطوات القليلة في الرحلة الأخيرة… كان المواكبون لـ«السنديانة الحمراء» فرقاً شتى، يسيرون اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، يستعيدون في قلب الصمت تلك الرحلة المشرفة على طريق الأمل والتي تكاد تتلاشى بعدما غادرتها الحماسة ودبّت في صفوفها الفرقة.
كان الخارجون من تحت ظلال السنديانة الحمراء إلى العراء أكثر ممّن تبقوا عند جذعها، يحمونها ويمدّون فروعها لتظلل تلك الجماهير التي كانت تبحث عن القيادة المؤمنة بقضية الإنسان وحقوقه، وتنقذها من الضياع والفرقة عبر النضال من أجل وطن حر لشعب سعيد.
لم يكن الجمع واحداً. لم يكن الحزب واحداً. أما «الجماهير»، أي الناس البسطاء الذين يفتقدون «السنديانة الحمراء» قيادة وملجأ، فكان بعضهم يتوقف وهو يعبر الطريق ليلقي نظرة فضول، أو ليتساءل بحشرية: مَن الفقيد؟! لمن ترفع هذه الرايات الحمراء في هذه «المنطقة» التي احتكرتها الأعلام الصفراء مع شيء من الأحمر، أو الخضراء مع شيء من الأسود والأخضر؟!
… فإذا سمعوا «الاسم» جواباً عن أسئلتهم اكتفوا بهزات من رؤوسهم مع تمتمة: الله يرحمه ويحسن إليه.
حتى الشيخ الذي جاء للصلاة عليه والذي تباعد عنه الجمع الذي لم يعتد التلاقي في الجبانات بصمت، فإنه كان يشعر بشيء من الوحدة، وكان يتلفت من حوله باستغراب لأن هذا الجمع لا يشاركه الطقوس المألوفة، بل إنه يتوزع في وقفات ثنائية وثلاثية، والبعض يعطي ظهره للبعض الآخر، والكل ينهمك في حديث قصير عن ذكرياته مع «المرحوم» في الزمن الغابر ثم يتواعدون على اللقاء خارج دائرة الصمت ولأمور لا تخص الفقيد أو حزبه ـ حزبهم الذي يكاد يغيب معه.
بعد نصف ساعة، كان الجمع المتفرّق في الوصول، وفي العاطفة، وفي الموقف قد انفض، وبقي الحزن وحيداً في الطريق لولا أن احتضنته بعض الصبايا اللواتي كان «الشيوعي الأخير» يهتم بهن، ويعلّمهن أصول الكتابة، والأهم: أن الحب هو سر الحياة، وأن سعادة الإنسان تبدأ بالناس وتنتهي بالناس.
محمد دكروب: أنت أبقى من جميع الذين امتنعوا عن المشاركة في تشييعك بالحب الذي تستحق، وأنت أصفى وأنقى وأبقى من الذين جاؤوا إلى تشييعك من مواقع مختلفة، ومداراة للخجل من أبنائهم ورفاقهم وأصدقائهم ومن روحك التي كانت ترفرف في المكان، وقد اتخذت شكل ابتسامة عريضة تغيم معها عيناك الصغيرتان.
محمد دكروب: لا تتعب عينيك أكثر، في القراءة أو في الكتابة. لقد بلّغت، وأعطيتنا مثلاً من رجل قلبه أكبر منه وفكره باتساع الكلمة التي لا حدود لها، والتي اتخذها الله جلّ جلاله عنواناً.

حفر في الذاكرة وفي التاريخ: الصمت موقف أيضاً

أخيراً، أتيح لي أن أقترب من الصديق القريب البعيد الذي كان يتجنّب في لقاءاتنا المتباعدة، الحديث في السياسة حتى لا يفسد اختلاف الرأي الود المقيم: أنور الصباح.
وأعترف مسبقاً، بأنني «جنوبي الهوى»، وأنني متعلّق بالنبطية، المدينة ذات الدور في تاريخ جبل عامل، وذات الإسهام المؤثر في تاريخ المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، وفي العديد من بيوتها نجوم مضيئة تحمل أسماء الذين قدّموا دماءهم رخيصة في معركة التحرير.
ولقد كنا، على البُعد، ننتعش بالهجمات البطولية التي تعاقبت، بلا توقف، على مواقع جيش العدو الإسرائيلي في التلال السبع المحيطة بالنبطية، والتي ثبتت أسماؤها في الوجدان بفضل الدماء التي بذلها المجاهدون، مراراً وتكراراً من أجل تطهيرها… ثم حظينا بشرف المشاركة في عيد التحرير، وللنبطية فيه دورها المشع بدماء شهدائها.
كذلك، فإن بعض ثقافتنا العامة وبعض معارف جمهور عريض من العرب تحمل دمغة النبطية، وهناك أسماء منقوشة في الذاكرة لمؤرخين وعلماء بينهم الشيخ علي الزين وأحمد رضا ومحمد جابر آل صفا، إضافة إلى من أضاف بعلمه وجهده إلى نور الكهرباء: حسن كامل الصباح.
أما أنور الصباح فقد عرفته نائباً ووزيراً و«رجل أعمال» يحاول أن يكون شريكاً ثالثاً لاثنين من إخوته اللذين كتبا صفحات في تاريخ السينما العربية والغناء العربي… ولقد التقيته مراراً، كصديق، ونادراً كصحافي… فهو لم يكن ثرثاراً، وكان ملتزماً بقناعاته التي كلّفته كثيراً ولكن حفظت له شرف الموقف، ولعله قد شعر بشيء من الاعتزاز بالنفس حين رأى الكثيرين يغادرون مواقفهم سريعاً للالتحاق بموكب «القادة الجدد» الذين رفعتهم المقادير والفطنة والتحولات السياسية إلى موقع أصحاب القرار.
وبرغم الاختلاف في الموقف من الرئيس الراحل كامل الأسعد، فلم يحاول أنور الصباح مرة، أن يحرج علاقة الصداقة بإثارة ما يفرّق، بل كان دائماً يحترم قناعات الآخرين… ولعله في هذا كان استثناء بين أهل السياسة.
ولقد أتيح لي أن أعرف، تقريباً، العائلة جميعاً، رجالاً ونساءً، وحزنت لمن غاب من أفرادها، وقد كان بينهم أكثر من عزيز… كذلك فقد شاركت في بعض اللقاءات العائلية التي تغيب عنها الهموم والاختلاف في الموقف السياسي ولا يتبقى إلا الود وإلا الظرف وإلا عشق الحياة بعنوان جبل عامل ومركزه النبطية.
بل لقد كان التلاقي مع آل الصباح فسحة للظرف، يبتعد فيها الجميع عن السياسة وأثقالها وينهمكون في ما هو أمتع، خصوصاً أن لقاءاتهم و«تركيب المقلة» بين شروط قبول الضيوف «أعضاء عاملين».
[ [ [
يروي أنور الصباح خلاصة تجربته السياسية منذ أواسط الستينيات وحتى اختياره «التقاعد» لاستحالة المنافسة… فيعبر في رحلته بزلزال إفلاس بنك إنترا (1967)، إلى دخول المقاومة الفلسطينية الجنوب (1968)، فاتفاق القاهرة (1969)، ثم ديموقراطية الصوت الواحد لفوز سليمان فرنجية برئاسة الجمهورية (1970)، ويتوقف أمام اغتيال الشهيد معروف سعد في صيدا (1975)، فإلى بوسطة عين الرمانة وانفجار لبنان بالحرب الأهلية…
بين المحطات البارزة: الاجتياح الإسرائيلي للبنان (حزيران 1982) وانتخاب بشير الجميل لرئاسة الجمهورية تحت ضغط الاحتلال، وهو قد طالب من انتخبه بمساعدته، لكن الاغتيال اختطفه بعد أيام، وقبل وصوله إلى السدة، فجاء إلى الرئاسة أخوه أمين الجميل الذي يعتبر بحق «رجل الفرص الضائعة».
يعدّد أنور الصباح محطات الإخفاق والتصرفات الخاطئة: من اندفاع «القوات اللبنانية» إلى الشوف، إلى التصادم مع أهل الأوزاعي، إلى اتفاق العار مع العدو الإسرائيلي (17 أيار 1983) والذي اضطر إلى التراجع عنه في 5 آذار 1984، ثم كانت هزيمة «القوات» في الجبل… فإلى مؤتمر جنيف والانسحاب الإسرائيلي من معظم الجنوب، فإلى انقلاب إيلي حبيقة على قيادة «القوات».
أما المحطة الأبرز فهي اتفاق الطائف… وواضح أن كتلة الرئيس كامل الأسعد لم تكن مؤمنة به، وبالتالي، فأعضاؤها لم يشتركوا في صوغ النصوص التي رأوها بعيدة عن مطالبهم، كذلك فهم اعترضوا على تعيين النواب والإلغاء الفوري للطائفية السياسية، لا سيما وأنهم يعرفون استحالته.
وطبيعي أن يدلي أنور الصباح بمرافعة صادقة عن كامل الأسعد ومواقفه السياسية، لا سيما وقد رحل الرجل الذي آلت إليه زعامة جبل عامل ثم غالبته الظروف والتطورات فغلبته.
يستذكر أنور الصباح أن وعيه السياسي قد تفتّح مع ثورة 23 يوليو ـ تموز 1952 في القاهرة… وهي الثورة التي قادها جمال عبد الناصر وأكدت وحدة الأمة وقدراتها: «كنا نسمع صوت هذا الزعيم الشاب فنسكر… وقد صرنا ناصريين».
[ [ [
بعد 28 سنة نيابية، وبدءاً من 1992، قرر أنور الصباح أنه آن الأوان كي يرتاح… فقَبِل بأن يكون رئيس مجلس الإدارة لشركة الصباح للإنتاج السينمائي، وهو منصب شرفي.
وكان منطقياً أن يخرج هذا النائب الشعبي الملتزم بتوجه سياسي محدد من عالم السياسة بعد اتفاق الطائف، وتعيين النواب، فكان الاعتراض على المحاصصة وتعطيل المؤسسات وقوانين الانتخابات التي تلغي الديموقراطية طريقه إلى «التقاعد الإجباري»، لا سيما وقد تعرّض بيته ومكتبه لأكثر من اعتداء في وضح النهار.
في تلخيص للواقع السياسي، يعتبر أنور الصباح أن أزمة لبنان عربية بامتياز، وأنها تعقدت كثيراً بعد اتفاق كامب ديفيد بين أنور السادات والعدو الإسرائيلي.
كذلك، فهو يرى أن انتصار «حزب الله» في معركة التحرير يعني أن كل لبنان قد انتصر.
وفي تقدير أنور الصباح أن الحياة السياسية الحالية في لبنان باتت معقودة اللواء لقيادات طائفية، ويبذل سادة اللحظة من السياسيين مجهوداً هائلاً لإقفال باب السياسة عليهم ومعهم من يرضون عنه، وأن صراع الأفكار قد تحوّل إلى صراع طوائفي على حافة الفتنة، ولا مجال للتبديل أو التعديل في ما هو قائم بقوة الأمر الواقع إلا بمعجزات لا تبدو قريبة الموعد.
أنور الصباح يرتاح الآن مكتفياً بموقف المتفرج على لبنان آخر، استولدته التطورات السياسية، هو غير لبنان الذي عرفه ونشط فيه سياسياً.
ومع أن كلماته في هذه المذكرات تنضح بالمرارة، فإن إيمانه بوطنه وشعبه لم يتزعزع. فإبن الجنوب يعيش زهو الانتصار وتأكيد الذات والإيمان بقدرة الأمة على الإنجاز، ومواكب الشهداء تقوم علامات مضيئة على الطريق إلى تاريخ جبل عامل بثقافته الواسعة وروح الجهاد المتأصلة فيه، ورحابته التي اتسعت للعائلات اللبنانية جميعاً، وفي النبطية ذاتها شواهد تاريخية على نبذ التعصب… وكثيراً ما تصدى أهلها لمحاولات إثارة الفتنة والتطهير الديني… ولا تزال المدارس والكنائس والراهبات شهوداً على أن النبطية تستعصي على الفتنة.
ثم إن هذا التاريخ حافل بالثورات ضد الاحتلال الأجنبي كما ضد إهمال السلطة أو طغيانها، كما تشهد الحركة الشعبية في هذا الوطن الجميل.
أنور الصباح يقول في هذا الكتاب الذي يحفر في الذاكرة والتاريخ، والذي سجل روايته الزميل ألبير ط. الخوري، كل ما حملته الأحداث والتطورات والانقلابات التي شهدتها الحياة السياسية من قبل، ليس بدافع الخوف وإنما بدافع الرغبة في الابتعاد عمّا يعكّر صفو… التقاعد، تاركاً للتاريخ أن يشهد.
وبالتأكيد، فإن أنور الصباح قد فضّل الصمت طويلاً، لأنه بطبيعته «مسالم»، ثم لأنه أدرك أن الزمان قد اختلف، وأنه لم يقصّر في تأدية ما اعتبره واجبه.
… وكان صمت أنور الصباح أكثر فصاحة في التعبير عن الموقف من شلالات الكلام الذي يُغرق البلاد والعباد.
([) من تقديم لكتاب النائب والوزير السابق أنور الصباح

من أقوال نسمة

قــال لــي «نســمة» الــذي لــم تُعــــــرف لــه مهــــنة إلا الحــــب:
ـ علّمني حبيبي ألا أعاتبه. نظرة واحدة، همسة واحدة، لمسة واحدة، كلمة تتخطى المسافات من دون أن تسقط منها اللهفة أو القلق أو الرغبة تكفي للانتقال إلى ما قبل العتاب و«الجحيم» الذي يعقبه.
سيرة الحب موصولة بالصمت أيضاً. وغالباً ما يكون الصمت أنهاراً من آهات الشوق المضمخ بالاعتذار.

Exit mobile version