طلال سلمان

هوامش

مناقشة وطنية حامية بين الذين جعلهم أبناؤهم أميركيين!
يتوارث العرب خصوصاً، والمسلمون عموماً، عن بعض قادتهم العظماء، حكمة تكاد تشكل قاعدة للحياة: »لا تكرهوا أبناءكم على أخلاقكم لأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم..«.
ولعل جبران خليل جبران العظيم قد تجاوز هذا المعنى بقصد التنبيه والتحذير حين أطلق كلمته: أبناؤكم ليسوا لكم!
على أن المعاصرين من العرب خصوصا والمسلمين عموما ذهبوا إلى أبعد مما تدعو كلمات الحكمة والتنبيه والتحذير، فتخلوا عن أبنائهم من قبل أن يولدوا.. أو أنهم »حرروا« أبناءهم من »عروبتهم« وهوياتهم الوطنية سلفا، وقرروا لهم أن يكونوا غير مَن هم، وأكرهوهم على أن يكونوا لبلاد غير بلادهم، ونفذوا وصية جبران »بحرفيتها« فجعلوا أبناءهم »للغير«، ووهبوهم سلفا لبلاد الآخرين!
في عصر الجاهلية كان عرب ذلك الزمان يئدون بناتهم، متحسبين سلفا من أنهم قد يسبين في بعض الغزوات، وقد يغتصبهن بعض رجال القبائل الأخرى، فيلحق العار بأهاليهن الأشاوس، من ذوي الشوارب المعقوفة والملامح المقطبة عبوسا، والأصوات الهادرة والأيادي الخشنة التي تستطيل بالسيوف المهندة والرماح السمهرية حتى لتكاد تطال أطراف السماء!
أما في عصرنا هذا، مطلع القرن الحادي والعشرين، ومستهل الألفية الميلادية الثالثة، فإن عرب هذا الزمان، عجزوا عن الخروج من جلودهم وتبديل لون بشرتهم السمراء، ولم يساعدهم تبديل حدقات عيونهم (العسلية غالبا أو السوداء) بالعدسات اللاصقة ذات اللون الأزرق البهيج.
ولقد أصاب الكمد عرب هذه الأيام المجبرين على أن يظلوا عربا، وبالتالي على تحمل عذاباتهم ومراراتهم وخيباتهم وسخرية العالم منهم وامتهانهم، في كل لحظة، واعتبارهم »مجرد فائض بشري« لا مبرر لوجوده، خصوصا وانهم يعيشون على إنتاج الآخرين (وهم لم يشاركوا فيه) من الهمبرغر الى الكومبيوتر، ومن اللعبة »باربي« الى طائرة الجمبو وحوامة الأباتشي والمركبات الفضائية متعددة المهمات.
اشتد الكمد فصار كراهية للذات، والأرض، للون البشرة والهوية والاسم ذي المعنى أو ذي الرنين الشعري.
ما العمل.. سأل العربي نفسه في الفاصل بين القرنين؟!
بعد سنوات من الحيرة والقلق والعذاب اليومي، قادته المصادفة الطيبة إلى الحل:
عرف بالتواتر أن كل من يولد في فرنسا، مثلاً، من الأطفال يمنح الجنسية الفرنسية بغض النظر عن جنسيته الأصلية (للأمانة في أن الفضل في تعميم هذا الاكتشاف المذهل يعود إلى الحرب الأهلية في لبنان التي رمت آلاف المواطنين في الدول الملاجئ والتي كانت فرنسا في الطليعة منها)..
عرف، أيضا، بالتجربة المنقولة عن الآخرين أن هذا النظام متبع في مختلف ديار التقدم الأوروبي كما في ديار التفوق الأميركي: فالطفل الذي يتصادف »سقوطه« في لندن سيحظى بالجنسية البريطانية، وفي أوتاوا أو مونتريال سيحظى بالجنسية الكندية، أما الأسعد حظاً ورابح الجائزة الكبرى فسيكون الذي »سيسقط« رأسه في واشنطن أو نيويورك أو سان فرنسيسكو أو لاس فيغاس (ما المانع؟) إذ سيحظى بالجنسية الأميركية الممتازة!
على هذا عدّل الكثير من الرجال مواعيد نومهم مع زوجاتهم،
باتوا يحسبون المواعيد، وهم يسعون للحصول على تأشيرة زيارة أو دعوة من بعض الأقارب، فتسافر الزوجة (الحامل) وهي في شهرها السادس، مثلاً، أو السابع، وتبقى هناك حتى يحين موعد الوضع وتجيء البشرى الى أبيه المنتظر على الهاتف (في بيروت أساساً، أو في القاهرة أو في أية عاصمة عربية أخرى: »مبروك… رزقت بمولود ذكر له الحق، مستقبلاً، في أن يكون رئيس الولايات المتحدة الأميركية«!
في مثل هذه الحال لا بأس في أن يكون المولود أنثى… فمنصب أولبرايت سيشغر حتما قبل أن تبلغ ابنته »الممتازة« سن الرشد، وسيكون المجال مفتوحا أمامها (من حيث المبدأ) لتكون عضوا في الكونغرس، أو وزيرة للخارجية، أو ربما أسعد الحظ الأميركيين من أبناء جيلها فازدهوا بها »رئيسا«!
* * *
في جلسة حميمة بين أصدقاء علت الشكوى من سوء الأوضاع: الخواء السياسي، الركود الاقتصادي، الاضطراب الاجتماعي، تصاعد مد التطرف الديني مما منع إقرار مشروع القانون باعتماد الزواج المدني، وأخيرا وليس آخرا الحوادث الأمنية التي افتعلت مؤخرا وبعضها خطير.
كان الجو دافئاً يسمح بتبادل الاعترافات الصريحة،
قال الأول: لم تعد الحياة في هذه البلاد الخربة لتحتمل… الهجرة هي الحياة!
قال الثاني: وهل الهجرة متاحة؟! إن الحصول على تأشيرة إلى الجنة أسهل من الحصول على تأشيرة أميركية أو كندية.
قال الثالث: أما أنا فأكاد أهنئ نفسي على بُعد نظري. إن أولادي جميعا يحملون الجنسية الكندية. كان لي صديق نصحني بحكاية ترتيب الولادة في أي دولة محترمة، وهكذا دأبت زوجتي على السفر، عشية كل وضع جديد، إلى كندا بدعوة من بعض أقاربي هناك، فصار أولادي كنديين، ويمكن أن نحصل على الجنسية ذاتها منهم. وأنا الآن على حافة قرار بترك جهنمكم هذه والطيران إلى جنتي البعيدة!
قال الرابع: أما أنا فكان تعليم الأبناء وراء قراري »بتدبير« الجنسية الكندية. هم الآن هناك، وأنا أنتظر قرار الحكومة بتحويل »البطاقة الخضراء« إلى جنسية حتى ألتحق بهم!
قال الخامس: أنا السابق وأنتم اللاحقون. لقد منحنا الفرنسيون مشكورين جنسيتهم في أواخر السبعينيات.. ولن أتكلف إلا ثمن التذاكر، فبيتي جاهز في بعض ضواحي باريس، والمدارس مؤمنة، وهي حكومية ومجانية، والتأمينات الصحية ممتازة.
تنحنح السادس ليلفت النظر ويستحوذ على السمع قبل أن يقول: أما أنا وعائلتي فأميركيون.. وما وجودي بينكم إلا تعبير متخلف عن الحنين والتعلق بالأرض! وما الأرض؟! أرضنا هناك أخصب، والجبال أعلى، والمياه أغزر، والهواء أنظف، والناس ألطف. الكذب وحده الممنوع،
قاطعه السابع الذي ظل صامتا حتى الآن: إذن لن تطول غيبتك!
ضحك الجميع للحظة، ثم قال صاحب الدار: الحمد لله، يمكننا أن نتحدث على راحتنا فليس بيننا، ومعنا أُسَرنا، لبناني واحد!
وختم »الوجيه« الذي لا يقبل أن يقاطعه أحد: لنقل إنها خطة لتعريب أميركا الشمالية جميعا. فلسنا وحدنا الأميركيين الجدد، هناك الإخوان المصريون، وعددهم كبير، والإخوان العراقيون بأعراقهم وطوائفهم المختلفة، وعددهم بعشرات الألوف، وهناك العديد من الخليجيين، إضافة إلى الفلسطينيين وعددهم مرشح للتزايد بغير حد نتيجة »أوسلو« وما بعده!
ساد الصمت لحظة، ثم انفجر الجميع ضاحكين: لقد اكتشفوا أن ليس بينهم »لبناني« واحد، مع أن الجميع يحفظون النشيد الوطني ويقفون احتراماً لمعزوفته في الاحتفالات جميعاً!!
كانوا كلهم من »الفرنجة«، ومن الصنف الممتاز من بينهم!
أما لبنان وسائر الأقطار فلهم الله.. وكفى بالله ولياً!

مات ولم يمت.. ترجم ولم يترجم!
جاءني العيد مخفورا ومحصورا ضمن مظروف أسمر سميك يكاد يشي بمحتواه: إنها لوحة، على الأغلب، أو كتاب.. وان تبدى للحظة مريباً إذ يذكر بالرسائل المفخخة الناسفة لشعراء الثورة الفلسطينية (وآخرين) من أمثال أنيس صايغ وغسان كنفاني!
على أن الراسل بعث بالتطمين مكشوفا حين وضع اسمه، بشيء من التعجل، على وجهي المظروف.. وداخلني شيء من الفرح وأنا أشق المظروف متعجلاً السلام على يوسف سلامة الذي جعل (وبقرار منه) عيد ميلاده الخامس والسبعين بداية ومستهلاً للألفية الثالثة التي منحت البشرية مهرجان الجنون والنور في منتصف الليل الفاصل بين قرنين.
»قصائد ونصوص من الأدب الإيروسي نقلها إلى العربية بتصرف الدكتور يوسف سلامة« هذا هو العنوان، أما ما يكمله فهي الصورة على الغلاف الأول: رأس طاووس في باحة كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان يقال إن الإسكندر المقدوني جاء بها من الهند.. باللون الذهبي على أرضية برتقالية زاهية. تماما كهدايا العيد في العلب.
يشرح ي.س. في المقدمة التي تحمل عنوان »مات ولم يمت«! فكرة الكتاب الفريد في بابه.. إذ هو »يضم عددا من القصائد والنصوص بالإنكليزية والعربية« ترجمها عن ترجمات سابقة لها من لا يتقن »صناعة الترجمة ولا يحب الشعر«، كما يضم عددا من اللوحات والتحف الفنية لعباقرة الفن كليوناردو ومايكل انجلو ورافاييل وكوريجيو وتيسبان.. وقد »انتقيت هذه اللوحات على ذمتي لعلاقة بعضها مباشرة أو مداورة بالقصائد والنصوص« مع إشارة الى ان »اللافت ان معظم هؤلاء العباقرة استوحوا معظم رسومهم من الكتاب المقدس ومن أساطير الإغريق والرومان«.
وقد ترجم يوسف سلامة معظم نصوص هذا الكتاب وجمع لوحاته وكتب المقدمة وخطط لإخراجه وهو في الفراش »ذلك أن الخبيث الخبيث، أي السرطان، اشتد عليّ هذا الصيف (1999) فنصحني أطبائي في جنوب السويد، حيث ألجأ صيفا من حر بيروت إلى التوقف عن قيادة سيارتي، ولعب الغولف، وإلى الخلود إلى الراحة والمشي الخفيف في حديقتنا والفسحات المحيطة بها.
»والطبيعة لا تحب الفراغ. اشتد عليّ الملل، واختلط بأوجاعي المزمنة، ولم يبق أمامي إلا العنّ والونّ »دخيلك يا أمي«، وفي صيغة المذكر »دخيلك يا بيي«.. ثم تذكرت صناعتي التي لم يبق عندي غيرها. خططت هذا الكتاب نائماً على ظهري، وأنا أئن من الأوجاع، وكنت كلما انتهيت من ترجمة قصيدة إيروسية أو من التأمل في تفاصيل لوحة فنية كلاسيكية، أنسى آلامي وأتذكر أيامي الخوالي، أي أيام زمان، حين كنت وا حسرتاه أنام على ظهري وعلى بطني لأزاول صناعة لذة الحياة ورونق شبابها الممتع«.
حتى على فراش المرض لا يفقد الفنان، الذي هو في مرتبة الرقي بين الناس، ملكة تذوق الجمال، شعرا ونثرا، رسما ولونا وفكرة بهية الإشعاع.
ومن أول حرف قرأته لهذا القلم اللاذع بسخريته، الذي جاء إلى القصة من عالم الاقتصاد مصحوبا بمزايا التحقيق والتدقيق وأساليب كشف التحايل والتزوير، والذي أخذنا جميعا الى متعة تذوق الكلمة النابضة بالصدق، تبدى »الأديب« المتخفي وراء رسام الكاريكاتور، وأطل »المثقف« عبر البساطة الكلية التي تجعلك تواجه عيوبك فتتفجر بالضحك، قبل ان تستعيد صرامتك استدرارا لاحترام »المنافقين« الآخرين.
»ياهووو… ياهووو!
أيها الناس أقرأوا وعوا..«
ولكي تعوا عليكم بيوسف سلامة: لا ترسلوا إليه الورد أو الهدايا في السادس عشر من هذا الشهر، ولا تغرقوه بالبرقيات ورسائل التهنئة!
قولوا له، فقط: كل عام وأنت وقلمك بخير، وفي انتظار كتابك الجديد لك منا أطيب التمنيات، أيها الطيب الطيب الذي باسمنا انتصرت على الخبيث الخبيث.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يحب الصمت لكنه ليس أخرس. الحب يحب الكلام لكنه لا يحب الثرثرة. الحب يحب الوردة، لكنه لا يحب أن يختنق تحت ركام من الزهور. حبيبي هو الوردة وهو الكلمة وعيناه بحيرتا الزنبق تقولان بالصمت ما اشتاق إلى سماعه لكي تفيض بهجتي على الناس جميعاً.

Exit mobile version