طلال سلمان

هوامش

نيفين مسعد وجورج إسحق
يحملان «الميدان» من القاهرة إلى بيروت

قبل أيام جاء إلى لبنان قياديان من أهل الميدان، بدعوة من الدكتور عبد الله أبو حبيب، مدير مركز عصام فارس، حيث قدما عرضاً للأوضاع في مصر بعد الثورتين. ولقد طلب إليّ أن أقدم هذين الصديقين اللذين يناضلان بالفكر والكلمة وبالمواجهة المباشرة لمن حاولوا حرف الثورة عن طريقها.
[ [ [
يشرفني ويسعدني أن أرحب بمناضلين ومفكرين مميزين هما الدكتورة نيفين مسعد والدكتور جورج إسحق.
إنه كرم منهما أن يأخذا إجازة قصيرة من الميدان وشباب الثورة ومشروع إعادة صياغة الحياة السياسية في «المحروسة» وأن يأتيا إلينا في بيروت ـ الأميرة، التي تنتظر كما سائر العواصم العربية، أن تعود مصر إلى دورها الذي لا بديل منه في دنيا العرب جميعاً، وإلى ذاتها من متاهة الديكتاتورية التي أعقبتها مرحلة التنكر لهوية مصر ولطبيعة شعبها صوفيّ الإيمان.
لقد أسقطت الثورة محاولة إعادة التاريخ إلى الخلف بشعارات الإخوان التي تنكر على المسلمين إسلامهم، قبل أن تنكر على الأقباط وطنيتهم وانتماءهم إلى الأرض التي تحمل اسمهم، وتنكر على الجميع مصريتهم وجهدهم من أجل بناء مصر القوية بقرارها وبجهد شعبها من أجل غدها الأفضل ودورها القيادي في منطقتها.
وإنها لفرصة عزيزة أن يكون هذا الثنائي القيادي، بالثقافة والتجربة النضالية المفتوحة، معنا هنا، في بيروت، وأن نسمع منهما عن مصر الثورة وعن غدها الأفضل الموعود. فاللبنانيون يكادون يزاحمون المصريين في شعورهم بأن مصر قد استعادت روحها وهي في طريق العودة إلى دورها الذي لا يعوّضها فيه أحد. وبالتأكيد فإن الحالة الثورية التي تعيشها مصر منذ سنتين ونصف السنة قد أعادت أو هي تكاد إنعاش الأمل بمستقبل عربي أفضل في دنيا العرب على اتساعها مشرقاً ومغرباً.
ويا أيها الصديقان: تجيئان إلينا في زمن القلق، القلق على الأوطان والدول، القلق على الحاضر والمستقبل، القلق على الدين والدنيا معاً… فأهلاً بكما مصدراً للاطمئنان إلى أن الثورة تشق طريقها وسط الصعوبة لتُخرج البلاد والعباد من وهدة التخلف في ظل الديكتاتورية، ومن ظلمة التيه في ظل الشعار الديني الموظف جسراً إلى السلطة بالقمع وإنكار حق المشاركة على أهل الإيمان وهم هم أهل البلاد.
أما نحن فلقد جئنا لنسأل فنطمئن إلى أن مصر قد عرفت بالثورة طريقها إلى غدها، وأنها عائدة إلى دورها في نهوض أمتها، ولبنان منها وفيها، وهو قد طالما حظي برعاية خاصة من مصر، الدولة العربية ـ الأم.
إن المواطن هنا يتابع بقلبه قبل عينيه وأذنيه، في عصر الإعلام المدوي بالصح قليلاً والغلط كثيراً، والتزوير غالباً، يتابع مسيرتكم في قلب الصعب، والانتفاضة تستولد الثورة، والإرادة تُسقط الطغيان، عسكرياً مموهاً ببرلمانية مزورة، أو مدنياً يرفع شعار الديموقراطية ويقمع باسم الدين الذي يحتكره لتنظيمه المغلق وينكره على التسعين مليوناً من المؤمنين.
لقد طالما تابعنا أنشطتكما كمبشرين بالثورة على الحاكم الفاسد، وكقادة في الميدان لحركة التغيير، ثم كمنبهين إلى جريمة سرقة الثورة مع جموع المتمردين الذين يناضلون من أجل استعادتها والعودة بها لابتناء الغد الأفضل الذي بذل شباب المناضلين دماءهم من أجله… ونزلوا إلى الميدان مرة أولى لخلع الحاكم الأبدي، ثم مرة ثانية لفرض إرادة الشعب بالديموقراطية، ومرة ثالثة لخلع من انحرف بالمسيرة مصادراً الثورة والسلطة باسم الدين كأنه المؤمن الأوحد في بحر من الكفار…
ونحن نواكب جهادكم اليوم ضمن جهود الشعب المصري بقواه الحية جميعاً من أجل إعادة بناء مصر، دولة قوية ومهابة وذات رسالة بهوية عربية.
ولعلها سابقة في التاريخ الإنساني أن يبقى الشعب عامين ونصف العام في الميدان لإنجاز ثورته بأهدافها السامية ثم لحمايتها من الذين حاولوا مصادرتها وحرفها عن مسارها في اتجاه الجاهلية…
ومؤكد أن ضيفينا العزيزين كانا بين حراس مسيرة الثورة نحو أهدافها، ومن بين الذين واجهوا محاولات خطفها، لا سيما بعدما نجح الإخوان، وفي ظروف معروفة، في القفز إلى سدة القيادة ومحاولة بناء «دولتهم» تحت شعارات تذكّر بعصور التخلف والهيمنة باسم إسلام يُخرج المسلمين من دينهم.
ولقد صدقت الدكتورة نيفين مسعد حين كتبت، في بعض مقالاتها، تقول إن المصريين يسيرون على الجمر، والخوف من إدامة حكم العسكر غير وارد، فقد أوصلت الجماهير رسالتها بالوضوح الممكن.
وصدقت حين حددت الهدف: لا نريد إسقاط النظام والدولة معاً… والضمانة الأولى هي الثوار والثانية هي رغبة المؤسسة العسكرية في تمكين الشعب من إحداث حالة ديموقراطية نوعية والتخلص من نظام مستبد طلباً لنظام ديموقراطي.
وصحيحة هي مخاوفها من انهيار الأوضاع في العديد من البلاد العربية، وبينها الأوضاع في لبنان الذي ينتظر «كبسة زر».
ولكن أصحاب القرار بأن يكبس هذا الزر مشغولون في أمكنة أخرى، سوريا بالحديد والنار، ومصر بقروض البترول وهبات الدولار، والعراق بالفتنة الطائفية وسموم العنصرية.
ولقد صدق جورج إسحق، المؤسس في حركة كفاية والقيادي في جبهة الإنقاذ والمحاور المميز الذي يستطيع مناقشة الحجر، أي الإخوان المسلمين، بقوله: لن تحدث مصالحة وطنية أو عدالة اجتماعية إلا بعد اعتراف قيادات الإخوان بأخطائها ومحاسبة كل من حرّض على العنف أو القتل.
وصدق بقوله: من يعتبر أن ما حدث في 30 حزيران هو انقلاب عسكري فإنما يدين الشعب المصري، فالشعب هو من وضع خريطة الطريق والمؤسسة العسكرية حمت المصريين في ميادين غضبهم وإصرارهم على التغيير واستجابت لمطالبهم.
إن مصر ولاّدة. وهي تؤكد بثورتها التي ما تزال تستكمل بنياتها أنها تعرف طريقها إلى غدها الأفضل، فشعبها الذي عرف بإيمانه العميق ونبذه العنف، لن يتساهل، مرة أخرى، مع الذين اختطفوا ثورته وقفزوا بها إلى سدة السلطة فاحتكروها وحاولوا استيلاد مصر أخرى متعصبة في وجه المؤمنين، ومغلقة على الماضي في وجه الثوار المؤهلين لبناء مستقبل يليق بـ«بهية» التي تتقن المشي فوق الصعب نحو حقها المشروع في الغد الأفضل، لا سيما أن الشباب المؤهل لبنائه يملأ الميادين ويسهر على حماية حقه في وطنه.

فؤاد مطر يستعيد علياء الصلح في تأريخه الجديد للنظام!

يخجلني فؤاد مطر إذ يخصني بزيارة كلما أنجز إنتاجاً جديداً من كنوزه المخبوءة عن أسرار مراحل سابقة من الحياة (والصراعات) السياسية العربية بقدر ما يثير عندي الشعور بالتقصير، ليس فقط لأنه ينتج أغزر مما أقدر، بل أساساً لأنه احتفظ بوثائق مهمة عن حقبة من أغنى وأخطر ما شهدته الحياة السياسية العربية، بينما أهملت التوثيق اعتماداً على الذاكرة أو على الأرشيف الذي أغنيته بقدر ما أستطيع.
آخر ما حمل إليّ فؤاد مطر، وهو الصديق الحميم، إنتاجه الجديد: «حرب وديموقراطية ـ دليل العرب إلى اللغز اللبناني»، مع إشارة بارزة إلى التقديم للراحلة علياء الصلح التي رفضت العمل السياسي لرداءة معظم القيادات واعتماد المناورات والمؤامرات أحياناً تحايلاً أو تواطؤاً على قضايا الأمة… كما رفضت التفرغ للكتابة مع أنها صاحبة أسلوب عصي على التقليد، واستثنائي في لغته إذ تحمل الكلمات فوق ما تطيق من إيماءات وإيحاءات وتلميحات بالاتهام، أو حتى بالإدانة، من دون أن تجعلها في موقع الأحكام المبرمة.
بعد تقديم يروي فيه فؤاد مطر حكاية العلاقات مع علياء رياض الصلح التي كانت حميمة إلى حد أنه اختار لابنته الوحيدة اسمها… تبرز إشارات إلى اللقاءات التي تعددت مواقعها الاضطرارية طوال سنوات الحرب اللبنانية، بين بيروت وباريس… وكان في كل لقاء، وبعد أن يسمع منها التحليل العميق المعزز بروايات فيها العجب العجاب عن القيادات السياسية العربية، يعود إلى مطالبتها بنشر مذكراتها وتعود إلى الرفض. فيزداد إصراراً، خصوصاً، وهي كبرى بنات رياض الصلح، ثم أنها تتمتع بأسلوب في الرواية والكتابة مميز، وتملك قدرة على قراءة ما فكر به والدها، وهي قد قرأت سطور ما كتبه من أوراق وما دوّنه من ملاحظات، وتستطيع الوصول إلى أوراق تائهة أو موجودة لدى الآخرين.
أخيراً نجح فؤاد جزئياً، إذ كتبت علياء رسالة وافية شرحت فيه موقفها، وهي تكاد تكون «وثيقة»، ولذلك فقد رأيت أن أنشر خلاصتها:
«قرأت عتابك على بنات رياض لأنهن بخلن على العالم بأوراق أبيهن.
أيها المتفائل الدائم: أتشفق على الصيغة اللبنانية المتميزة من التلاعب وقد أضحى لبنان كله لعبة بأيد غير لبنانية، والميثاق الوطني تقطعت أوصاله.
لقد جاء في البيان الوزاري الأول ـ وثيقة الاستقلال: إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان، فالطائفية موروثة عن الانتداب الفرنسي وقد أبقى عليها كعرف.
في البيان يقول رياض: رائدنا الأول في تنظيم هذا الاستقلال سيكون إذا تآلف جميع اللبنانيين على حب وطنهم. وأهم ما نحتاج إليه إنما هو معالجة روح التخاذل الذي خلفته عند الكثير منا السنون الخالية.
لبنان الميثاق لم يكن صعلوكاً ولا مملوكاً ولا لقيطاً ولا صبياً ولا قاصراً. كان سيداً من سادات العرب عزيزاً بهم أعزاء به. حتى بدأ عهد تأثيم لبنانية لبنان، فالمصري أولاً وعربي ثانياً وهكذا السوري والعراقي إلا اللبناني إذ كان عليه أن يكون عربياً أولاً ولبنانياً ثانياً.
«ثم من مرحلة تأثيم لبنانية لبنان تولدت مرحلة تأثيم عروبته التي يعيشها الآن.
«لم نكن نفهم قيمة المخطوطة أو الورقة التي تصبح شاهداً تاريخياً نوراً على نور ومناراً للمستقبل. بددنا كثيراً من هذه الأوراق، فما طلب منا صديق «ورقة من أوراق أبي إلا وأعطيناه وصورة من صوره إلا وأعرناها.
«ما فرّطنا به من الأوراق في صغرنا كسبناه فعدنا نسترجعه ورقة ورقة، ثم إن ما احتفظنا به في البيت أحرقه صاروخ إسرائيلي العام 1987 مع ما أحرق داخل بيت الأوزاعي».
وتخلص علياء الصلح إلى القول في خاتمة رسالتها:
«… إن نجح حاكم يتباهى برياض وإذا فشل عيّره الناس وقالوا هل ظننت نفسك رياض الصلح ـ وعبد الناصر حين كلم وفود لبنان من شرفته في دمشق أيام الوحدة أطرى رياض الصلح ـ والملك فيصل كان ينصح زعماء لبنان بالسير على خطى رياض».
وفي آخر مكالمة بين فؤاد وعلياء الصلح انقطع الخط.. ثم عرف أنها قد نقلت إلى المستشفى ثم استرد الله الوديعة.. ولا مذكرات.
الوطن المغلوب على أمره..
كتاب فؤاد مطر الجديد يستكمل السلسلة التي بدأها في كتابة التاريخ المختلف عن التاريخ الرسمي، بوقائع ثابتة عبر المحاورات أو القراءة المختلفة للوقائع بعد استكمال النقص فيها.
وهو يرى أنه يعرض في الكتاب الجديد «أحوال الوطن المغلوب على أمره بين الوجودين الفلسطيني ثم السوري.. ثم ما بعد تغييب الشهيد رفيق الحريري وترحيل القوات السورية و«وصاية» الرئيس بشار الأسد على لبنان.
وفي عرضه لما بعد ذلك يطرح السؤال الذي تصعب الإجابة عنه: وصاية بديلة أم جمهورية جديدة؟
يتضمن الكتاب عرضاً للحل السعودي والدور السوري، مع وقفة مطولة أمام اتفاق الطائف، وبعده المعاهدة بين سوريا ولبنان.. وعرض للصراعات التي أعقبت اغتيال الحريري وولادة جماعة 14 آذار، ثم المرحلة التي أعقبت عودة الجنرال ميشال عون من منفاه.
الخاتمة: رسائل من بعض رموز النخبة العربية الفكرية والسياسية الإعلامية والديبلوماسية تهنئ فؤاد مطر، على السابق من إنتاجه.
أمدّ الله فؤاد مطر بالصحة ومكّنه من أن يكمل هذه المكتبة التي تكتب بالوثائق والمقابلات والانطباعات تاريخاً مختلفاً للبنان الذي يتغير في كل مرحلة، لكن نظامه المرتبط بكيانه يبقى جامداً .

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لي صديق أضاع لغته. قرأ لي مقاطع من رسالة لم يعد يذكر إن كان هو كاتبها أم أنها جاءته منها، وفيها:
«هل لك أن تغادرني لحظة لكي ألتقط أنفاسي قبل أن أدخل عليك لأغرق فيك. إنني أعاني من الامتلاء بك، وطيفك يفيض عني، فإذا الناس يخاطبونني بصيغة المثنى. أخرجني منك يا حبيبي قبل أن أذوب فيك فتخسر الرهان بأنك قد استعبدتني».

Exit mobile version