طلال سلمان

هوامش

وحيداً في قلب الكثرة.. كثيراً في قلب الوحدة

من الصعب أن تقرأ البدايات المبهجة والسياق المتعثر والنهايات المأساوية في وجوه الأطفال الذين شبّوا عن الطوق وخرجوا بالتتابع من البيت الذي وعوا الحياة فيه وهو جنة الفرح.
لقد أخذ كل منهم من البيت ما يكفي من الأسباب لكي يقرر أن يكون غيره فيه.
في المهاجر القريبة بدأوا يكوّنون حياتهم الثانية في عالم بلا هوية محددة… فالكل واحد، والغربة تتحوّل تدريجياً إلى بيئة حاضنة، ولا يعرف أحد عن الآخر إلا ما سمعه منه، ولا يعنيه أن يخوض في ماضيه…
أما المستقبل فميدان صراع مع المقادير، في انتظار فرصة من خارج التوقع قد تجيء وقد لا تجيء، ولكنهم الآن يريدون أن ينسوا تفاصيل الطفولة واليفاعة وسنوات التخرج. لقد خلّفوها وراءهم ومضوا إلى البعيد، إلى عالم ليس فيه عواطف ولا تنفع معه الذكريات.
[[[
انشق البيت بيتين، ثم ثلاثة فأربعة، فخمسة. سقطت العائلة سهواً، بل لعل الفتية الذين أتعبتهم أنسابهم قد انطلقوا متخففين منها ليبنوا مستقبلهم بأيديهم وعرق الجباه و«مباهج» الغربة التي صارت وطناً.
من يقرأ في سيرة الحب فجيعة انطفائه التي ظل بطلها يرفضها ويتوقع أن تكون «لحظة ضجر» أو «جملة معترضة»، أو «خيبة أمل مؤقتة» استولدها التحريض الذي لا يخرج ذلك المكابر من قوقعة صمته.
الخوض في سيرة الناس أمر معيب. ليقولوا ما شاؤوا فلن يرد ولن يلتفت إلى الخلف متنكراً لذاته، لعشقه للمرأة التي كاد يتخذها معبوداً فينصرف إلى السكن في محرابها حتى وهي تخرج منه إلى الدنيا من دونه لتعيش حياتها بعيداً عنه وعن تعبّده.
فالمرأة هي هي منذ بدء الخليقة، تسكن في تفاحة الغواية: تسحبك إليها فإذا وصلت امتنعت عليك، وإن قصّرت شهّرت بك ومضت تعبث بغيرك، فإن لم تجد ابتدعت هذا الغير.
من يعيش حبه لا يتخيل له نهاية، ويرفض أي احتمال لانتكاسه.
إنه يرفض المقارنة مع الآخرين. إنه يعيش تلك اللحظة التي أعادت صوغ عمره، يرفض أن يغادرها. لقد ذهب إليها بقلبه فقبلته. رمى ألقابه عند الباب وتقدم باسمه عارياً فقالت: أريدك باسمك كاملاً، هذا يزيدني شرفاً.
ليس الآن وقت الحديث عن العراقة والمجد التليد. كل ذلك صار من الماضي، والماضي عبء على الحاضر، وهو لا يطلب إلا الحاضر من أجل استنفاد مستقبله منفرداً.
سعى لأن تكون حياتهما شهر عسل مفتوحاً. الرحلات دورية، فإذا العالم قرى متجاورة، والنزهات الأسبوعية تشمل برامجها المصايف المعلقة عند حدود السماء والمشاتي الغارقة في الثلج، أما الربيع فله طقوسه وأعياده المتجددة التي تأخذ إلى النشوة.
[[[
كيف ومتى ضرب الزلزال ذلك البيت الذي كان عنواناً للسعادة، كما يصفها شعراء الصبا والجمال والهوى المنشود؟
قالت الأم التي عاشت في قلب الحكمة، حتى وهي تمضغ مرارات عمرها:
ـ لا بأس يا بني. اصبر. لا تتسرع. أنا أصلي لها، لعل الله يهديها. اصبر ولا تترك اختلاف المزاج يهدم عش السعادة. لا تكن أباها. لا تكن مثلي ولا تنتقم من أبيك فيها!
هل هي الغيرة؟ ولكن من أين تأتي وهما معاً دائماً. ينهي عمله فيعود إليها متلهفاً. وسهرات المرح والظرف والطرب سهل انعقادها حتى في ظل دوي انفجارات الحرب الأهلية… خصوصاً أن «أسرته» قد تزايد عددها أكثر مما يرغب ولكنه أعجز من أن يرفض، ثم إن «الجو» يجذب، والسهرات ممتعة وإن خرجت أحيانا عن المألوف. ليالي الأنس ليست محصورة في فيينا، ويمكن استيلادها في قلب الخطر. إنها تطرد شبح الموت، وتفتح الباب لأطايب العيش… فعشها!
[[[
هل يفسر ماضي الأهل حاضر الأبناء، وهل تراه يتحكم في غدهم؟
تصعب قراءة السيرة الذاتية للآباء والأمهات من خلال الأبناء الذين يعيشون حياة أخرى، لكنهم ـ في لحظة ما ـ يقلبون صفحات الماضي فإذا هم يكررون ـ بلا وعي، وبلا قصد ـ بعض وقائعها وهم لا يقصدون.
هل يطارد الماضي جيلين، ثلاثة أجيال، أربعة، خمسة… فيتحكم في تصرفات الأبناء والأحفاد، فإذا هم يعيدون كتابة السيرة التي صارت ماضياً، ويتقمصون شخصيات آبائهم والأجداد، برغم اختلاف الظروف واندثار العادات والقيم العتيقة.
لم يعد الرجل هو مصدر السلطة ومرجعها. لم تعد المرأة بيت الشهوة. انقرضت تلك الظروف التي مكّنت بعض الرجال من أن يكون لهم زوجة مهمتها أن تنجب الأبناء حافظي الألقاب، وعشيقات أو زوجات سرية ينفق عليها الوارث أملاكه ويرهن من أجلها سمعته ثم يمضي إلى قدره تاركاً أبناء من زوجات عدة يتقاسمون الديون والأحقاد ويرزحون تحت أثقال الألقاب التي غادرها الذهب ولم يستطع الورثة أن يتخففوا من ديونها.
[[[
لكن الحكاية هنا مختلفة في شخصياتها وفي سياقها وإن تضمنت تشابهاً قدرياً في النتائج. لا يمكن الاطمئنان إلى التفاصيل التي يتعدد رواتها ويختلف سياقها باختلاف مواقعهم وعواطفهم إزاء ذلك البيت الذي كان يتوهج بالفرح، ثم توالت عليه الهزات المباغتة والتي تتعدد تفسيراتها حتى صار يدوّي بفراغ الخيبة، تظلله الأحزان وتملأ جنباته ذكريات يختلف «القراء» في تفسير أسبابها كما في فهم دلالاتها وصولاً إلى النتائج المأساوية.
هل تورث الخيانة؟! هل يورث الشبق؟
هل هي خيبة الأمل؟! هل هو الانكسار أمام التحولات؟ هل انقلب الزمان بأهله فإذا بالسياسة تأكل رصيد من لم يمارسها، وإذا التجارة بأسواقها الجديدة ذات البريق تدر أرباحاً خيالية وتصنع النجوم وتطفئ الأسماء ذات التاريخ والتي تحوّلت الآن إلى أعباء على كاهل من يحملها وكانت، حتى الأمس القريب، رافعة ومصدر فخار… لم يعد الوارثون يرثون الأرض بمن عليها. صاروا يرثون الأرض بما عليها من رهونات وديون وخلافات بين الأقربين.
[[[
الماضي ثقيل الوطأة على المستقبل، خصوصاً إذا ما تحكم بخيارات الورثة، فاضطرهم إما إلى الغرق في ذكريات ماضي العز الذي لن يعود، أو إلى الانتقام منه بتكراره تحت تأثير الوهم بأنهم بذلك يغادرونه ويقطعون معه تماما.
في أحيان كثيرة تعيش الماضي في مستقبلك، أو تعيش مستقبلك في قلب الماضي متوهماً أنك قد قطعت معه استنقاذا لحاضرك.
[[[
يصعب وداع ذلك الذي عاش محنة الخروج من الماضي إلى مستقبله الخاص، من دون أن يتبرأ من تلك الصفحات المضيئة في تاريخه والتي كانت تثقل عليه في حاضره.
لقد اكتملت الدائرة. لقد قرر أن يعتكف داخل قوقعة الصمت. لا يتحدث حتى لا يلعن ماضيه، ولا يغرق في الذكريات حتى لا يلعن حاضره، وذهب إلى الدنيا الثانية وحيداً، رافضاً الشفقة، سعيداً بالأحفاد الذين يرى فيهم الناس بعض ملامحه التي اكتسبوها على البعد.
لقد دقت ساعة الانصراف… وها هو ذلك الرجل الصامت الذي عاش في الجماعة ومعها ولها، ثم مضى وحيداً، قد تخطى الحزن إلى قلب التراجيديا التي لن يكتبها أحد، لأن صاحبها دفن أسراره في غياهب صمته الذي جلّل السنة الأخيرة من وحدته مع ذكرياته يجتر تفاصيلها فيقرر أن يلتحف أسراره ويغادر وحدته… إليها.
[[[
لقد انفض الجمع الصغير الذي توافد للحظة ثم غادر سريعاً عائداً إلى حيث كان، بعيداً عنه كما كان دائماً، وإن كان عديده لا يفعل إلا تكرار ما أنكره عليه وما يتخذه الآن ذريعة للرحيل بعيداً عن الأرض وأهلها طلباً للنسيان الذي لا يجيء بالطلب.
… ولسوف يبقى الصمت أعظم وقعاً من حزن الفقد، ولسوف يبقى السر عالقاً في قلب ذلك الصمت الذي يكتب الآن تاريخ مرحلة الانتقال بين عصرين ومنطقين وعالمين يتشابهان إلى حد التكامل ويتناقضان في كل تفصيل حتى لكأنهما واحد.
وداعاً أيها الذي عاش وحيداً في قلب الكثرة، ومات كثيراً في قلب الوحدة.

نساء بابل: سميراميس منسوخة عن عشتار؟!

ينتقي زياد منى الكتب التي تصدرها دار قدمس للنشر والتوزيع، وبين آخر إصداراته كتاب يختلط فيه التاريخ بالأساطير ويستعيد فصولاً ومشاهد من حضارة بابل التي لا تندثر ولا تموت.
آخر ما أصدره كتاب مختلف يحمل عنوان «نساء بابل ـ الجندر والتمثلات في بلاد ما بين النهرين»، وهو من تأليف زينب البحراني وترجمة مها حسين بحبوح… وقد جاء في تقديمه: «لم يكن من النادر أو المستغرب في تلك البلاد أن تكون امرأة أو فتاة هي الوارثة الأساس، وأن ترث فعلاً. فقد كانت النساء يتمتعن بحقوق قانونية وبحريات اجتماعية أفضل بما لا يقارن بما كانت تتمتع به شقيقاتهن في بلاد الإغريق وروما… وتظهر لنا مدوّنات النصوص القديمة أن الظروف الأصلية التي عاشتها نساء الشرق الأدنى القديم كانت تتيح لهن استقلالية وحقوقاً قانونية أفضل بكثير مما يتوافر للنساء في العديد من المجتمعات المعاصرة».
وهنا بعض «القصائد» التي تضمنها الكتاب الذي أنتجته زينب البحراني، وهي أستاذة الفنون القديمة وعلم الآثار في جامعة كولومبيا، وشاركت في التنقيب الأثري في كل من سوريا والعراق… فالشعر أفضل مرآة للزمن وناسه بذائقتهم الفنية وطقوسهم، وموقع المرأة في تلك المجتمعات، وقد كان لها الصدارة في الحكم، أحياناً، وفي المجتمع عموماً.
ـ من قصة ذهاب عشتار إلى العالم السفلي في محاولة لبسط نفوذها على ذلك العالم، هذه المقاطع التي تصف كيف ساور ارشكيغال، ملكة العالم السفلي الشك بعشتار، وهي من طلبت من الحاجب نزع ثيابها:
«اذهب أيها الحاجب، افتح بوابتك لها وعاملها كما تقضي القوانين القديمة». ذهب الحاجب وفتح لها البوابة: ادخلي سيدتي، كي تفرح بك أرض كوث/ كي يسعد قصر العالم السفلي بحضورك». نزع عن رأسها التاج العظيم. «لماذا أيها الحاجب نزعت عن رأسي التاج العظيم» ـ ادخلي، سيدتي. تلك هي قوانين سيدة العالم السفلي. جاء بها إلى البوابة الثانية. نزع القرطين من أذنيها. «ـ لماذا أيها الحاجب نزعت من أذني القرطين».
يواصل الحاجب مهمته: ينزع العقود عن جيدها والمشابك من فوق «صدرها»، وينزع زنارها المرصع بالأحجار الكريمة عن خصرها، ثم ينزع أساورها وخلاخلها ـ وأخيرا ينضو عنها ثوبها البهي متذرعا بأن «تلك هي قوانين العالم السفلي»… ويمكن تفسير ذلك على أنه تجريد لها من خاصيات القوة لديها. الخاصيات التي يعتبر الإغواء الجنسي مكوّنا أساسيا فيها، وهو إغواء ينطوي على احتمال تدمير البشرية.
وفي تقدير الكاتبة أن أيقنة عشتار أي تمثيلها في التصاوير البصرية وخاصياتها البصرية المميزة لدعم الآراء القائلة بهويتها البينية ـ الجنسية أو ثنائية الجنس.
تصف النصوص القديمة الإلهة عشتار بأنها المغوية جنسيا، المطلقة، والأنثى الجميلة المغرية ومصدر العنف… وبين ما كان يتلى لتمجيدها:
«شفتاها حلوتان كالعسل، فمها يضجّ حيوية/ قسماتها تزهر ضحكاـً، تعاويذ الحب تتوّج رأسها الفخور/ بهية الألوان، تجول عيناها اللامعتان في كل مكان».
في موضع آخر، يتم التركيز على الطبيعة العنيفة لعشتار:
«تصرفاتها خالية من المنطق/ يتبدى الجبروت في مظهرها
« تطلق صيحات الحرب العديدة/ تزدان بالرهبة المروّعة
«مرعبة في هجومها، هي قاتلة، متنمرة، ضارية».
واضح الجهد الذي بذلته الكاتبة ـ الدارسة في إنجاز هذا الكتاب الذي يقدم صورة شبه متكاملة عن تلك العصور، في بلاد ما بين النهرين، وبالتحديد عن عشتار التي تشبه العديد من النساء الشريرات اللواتي ينطوي إغواؤهن الجنسي على مخاطر… وغالبا ما يكتسي الموت والدمار بغلالة من الجمال الأنثوي الفائق.
وعيد عشتار «هو الصخب، رقص الحصار، وهي تفوز بالشجاع» كيف لا وهي «كانت تجعل السماء ترتعش والأرض تهتز/ وكانت أتانا تدمر حظائر البقر وتحرق زرائب الغنم وهي تصرخ: دعوني أعنف آن، ملك الآلهة».
في صفحات الكتاب مقارنات بين سميراميس (الغربية) وعشتار، وكم أخذ المؤلفون الجدد من صفات عشتار ليضيفوها إلى سميراميس، فاختلطت الصورتان والعصران والحضارتان اختلافاً فوضوياً.
أين تقع عشتروت الفينيقية التي تكاد تكون صورة مصغرة عن عشتار بابل.. تلك مهمة الذين يحوّلون الحكايات إلى تاريخ، بينما التاريخ ما زال حاضراً بوقائعه ورموزه التي صارت أساطير.

تهويمات

^ لمن تضع الوردة أيها الآتي من الماضي. انهض واذهب إلى مستقبلك.
ـ ولكنني معه وفيه… فهلا منحتني صمتك لكي أدخله بما يليق به من الحزن. هنا الماضي والحاضر والمستقبل، فكيف لي أن أكون إذا ما ابتعدت. فقط تمنيت لو أكون الوردة التي ستذوب في هذا التراب فتعطره.
[[[
^ قالت وهي عند حافة السكر: ـ أما زلت على صداقته؟ احذر منه.. إنه يستمتع بإيذاء نفسه.. أما أنا فلا أحب إلا من يؤذيني؟ هل لديك رغبة في إيذائي؟!
[[[
^ قالت في لحظة صحو: لقد علّمني الحكمة. جعلني أعرف أن كل لحظة لا أعيشها كما أحب أن أعيش هي اقتراب من الموت. ولأنني لا أحب أن يأتيني الموت بغتة، ها أنا أذهب إليه عن أقصر طريق: النشوة!

من أقوال نسمة

قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ علمني حبيبي أن أخاف من حبي ولا أخاف عليه.
قــال إن الحــب أقــوى منــي، وكنــت مغــرورة، يســكرنــي شبــابــي وتنشــيني قصائــد الغــزل والتــشبب بــي.
اليــــــوم تكفـــيـــــــني همـــســـة منـــــــه لأطــــــير فـــرحــــــاً… وهـــــا أنــــــا فـــــي طـــيــــران دائــــــم تطاردنـــي الفراشــــات وأســـــــراب النحـــــــل كتـــخــــــت شــــرقــــي يقــــــول ويـــــردد مترنمـــــــاً: أحبـــــــك، أحبـــــــك، أحبــــــــك..

Exit mobile version